﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ -1
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه الأَوَّلِ بِلَا أَوَّلٍ كَانَ قَبْلَه، والآخِرِ بِلَا آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَه، الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِه أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِه أَوْهَامُ الْوَاصِفِينَ. ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِه الْخَلْقَ ابْتِدَاعاً، واخْتَرَعَهُمْ عَلَى مَشِيَّتِه اخْتِرَاعاً. ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ إِرَادَتِه، وبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِه، لَا يَمْلِكُونَ تَأْخِيراً عَمَّا قَدَّمَهُمْ إِلَيْه، ولَا يَسْتَطِيعُونَ تَقَدُّماً إِلَى مَا أَخَّرَهُمْ عَنْه. وجَعَلَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنْهُمْ قُوتاً مَعْلُوماً مَقْسُوماً مِنْ رِزْقِه، لَا يَنْقُصُ مَنْ زَادَه نَاقِصٌ، ولَا يَزِيدُ مَنْ نَقَصَ مِنْهُمْ زَائِدٌ. ثُمَّ ضَرَبَ لَه فِي الْحَيَاةِ أَجَلًا مَوْقُوتاً، ونَصَبَ لَه أَمَداً مَحْدُوداً، يَتَخَطَّى إِلَيْه بِأَيَّامِ عُمُرِه، ويَرْهَقُه بِأَعْوَامِ دَهْرِه، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرِه، واسْتَوْعَبَ حِسَابَ عُمُرِه، قَبَضَه إِلَى مَا نَدَبَه إِلَيْه مِنْ مَوْفُورِ ثَوَابِه، أَوْ مَحْذُورِ عِقَابِه.
وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، ارتضاهُ برسالته، وائتمنَه على وحيه، وانتجبَه مِن خَليقته، واصطفاه مِن بريَّته، فأوجبَ الفوزَ لمَن أطاعَه وقَبِل منه، والنارَ على من عصاهُ وصدفَ عنه. صلَّى الله عليه وآله الأخيار الأبرار الذين أذهب عنهم الرجسَ وطهَّرهم تطهيرا
عبادَ الله أُوصيكم -ونفسي- بتقوى الله، فإنَّ تقوى اللهِ خيرُ ما تَواصى به عبادُ الله، وأقربُه لرضوان الله، وخيرُه في عواقب الأمور عند الله، وبتقوى الله أُمرتُم، وللإحسانِ والطاعةِ خُلقتم.
يقول اللهُ تعالى في مُحكم كتابه المجيد من سورة المعارج: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا / إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا / وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا / إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾(1).
الواضح من سياق الآيات ومفرداتِها أنَّها بصدد الذمِّ للإنسان، فبعد أنْ أفادت أنَّه خُلق هلوعا وصفته بالجَزوع حين يمسُّه الشرُّ، وبالمَنوع حين يمسُّهُ الخير، والهلوعُ هو الحريصُ الشديدُ الحِرص، والجزوعُ هو الذي بلغَ به الحُزنُ حدَّاً أخرَجه عن سَمتِ الاعتدال، والمَنوعُ هو البخيل الذي يجتهدُ ما وسِعَه في أنْ يستحوذَ على الخيرِ لنفسِه، ويمنعُه عمَّن سواه، بل ويَسوؤه أنْ يصلَ مِن غيره إلى غيره، وقد استظهرَ البعضُ من هذه الآيات المباركة أنَّ هذه الصفاتِ الذميمةَ ليست مُكتسبةً للإنسان بل هي ناشئةٌ عن مقتضى طبعه وجِبلَّتِه التي خُلق عليها، فقولُه تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ ظاهرٌ في أنَّه مطبوعٌ ومجبولٌ على هذه الصفة.
كيف يذمُّ الله صفاتٍ خلقها:
وهنا قد ينشأُ اشكالٌ حاصلُه: أنَّه كيف يذمُّ اللهُ تعالى في الإنسانِ صفاتٍ هو خلقَها فيه، وصيَّرَه مجبولاً ومطبوعاً عليها، فالذمُّ إنَّما يتَّجهُ لو كانت هذه الصفاتُ مُكتسبةً، أمَّا وقد أفاد بأنَّها من مُقتضيات خِلقة الإنسان وطبيعةِ تكوينِه فإنَّ الإنسانَ لا يستحقُّ الذمَّ عليها لأنَّها لم تنشأ عن اختيارٍ منه، فالذمُ للإنسان لاتَّصافه بصفاتٍ هي من مقتضى طبيعته وتكوينه كأنَّه ذمٌّ لما خلقَه الله تعالى أي كأنَّ الله تعالى يذمُّ فعل نفسِه، ثم إنَّه قد يُقال أيضاً إنَّ مدلولَ هذه الآيات منافٍ لقولِه تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾(2) وقولِه تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(3) فوصفُ خلْقِ الإنسانِ بأنَّه في أحسنِ تقويم معناهُ الأحسنُ على الإطلاق في طبائعه واستعدادتِه النفسيَّةِ والذهنيَّة، وذلك يُنافي الذمَّ الواردَ في الآيات من سورة المعارج.
الجزع والبخل ليسا من مقتضيات الطبع:
والجواب عن هذا الإشكال بشقِّيه يتَّضحُ بقليلٍ من التأمُّل في مفاد الآيات من سورة المعارج، فهي أولاً ليست ظاهرةً في أنَّ الصفتين الأخيرتين هي من مقتضيات طبيعة خلْقِ الإنسان وتكوينِه، فالآياتُ لم تقلْ إنَّ الإنسان خُلق جزوعا وأنَّه خُلق مَنوعاً، نعم هي ظاهرةٌ في أنَّ الهلَع صفةٌ تقتضيها طبيعةُ خلْق الإنسان وتكوينِه، وأمَّا الجزعُ والبُخلُ فهما من آثار صفة الهلَع وسوءِ الاستفادةِ من هذه الطبيعة، والذمُّ المتوجِّهُ للإنسان في الآيات إنَّما هو بلحاظ صفتي الجزع والبخل اللتينِ تنشآن عن سوءِ اختيارِ الإنسان وسوءِ تدبيره.
ويُؤكِّد ذلك استثناءُ الآيات للمصلِّين الذين هم على صلاتِهم دائمون، إذ أنَّ استثناءَهم معناهُ أنَّهم غيرُ واجدِين للصفات التي تصدَّت الآياتُ لذمِّها، وذلك يكشفُ عن أنَّ الصفات التي تصدَّت الآياتُ لذمِّها اختياريَّةٌ، وليست من مقتضيات الطبع وإلا لم يكن في وِسْع المصلِّين التخلُّصُ منها، وحيثُ إنَّ الآيات ظاهرةٌ في أنَّ الصفة الأولى وهي الهلَع من الصفات الطبعيَّة للإنسان فذلك يقتضي أنَّ الذمَّ في الآيات متوجِّهٌ للجزع والبخل، وليس متوجِّها للهلَع الذي صرَّحتِ الآياتُ أنَّه من مقتضياتِ طبيعة خلقِ الإنسانِ وتكوينِه.
والهلعُ ليست صفةً مذمومةً في نفسِها:
والهلعُ -والذي هو بمعنى شدَّة الحِرص- ليس صفةً مذمومةً في نفسِها بل هي وسيلةٌ لتكامل الإنسان، فإنَّ معنى الحرص أو مؤدَّاه هو حبُّ الإنسانِ الخيرَ لنفسِه كما وصفَه القرآن في سورة العاديات بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾(4) فهذا الحبُّ الشديد هو الذي يدفعه ويستحثُّه على طلب الخير وتحصيلِه، غايتُه أنَّ الإنسان ولسوءِ اختياره يُخطِأ الطريقَ الموصِلَ للخير، ويُخطأُ في تشخيص ما هو الخيرُ لنفسِه، فيتوهَّمُ مثلاً أنَّ الخيرَ يتحقَّقُ بجمع المال، لذلك يَحرِصُ على جمْعِه، ويشحُّ به على غيره، ويتوهَّمُ أنَّ الظلم هو الطريقُ المُوصِل لمصالحِه، ولذلك فهو يظلمُ حِرصاً منه على مصالحِه التي جُبِل على حمايتِها والتحفُّظِ عليها، وفي المقابلِ ثمةَ إنسانٌ يرى أنَّ الخيرَ كلَّ الخير يكمُنُ في رضوان الله تعالى لأنَّه الطريقُ المُفضي لسعادتِه والفوزِ بالجنَّة في العالم الآخر، لذلك فهو يحرِصُ على طلبِ رضوان الله، فهو قد يُضحِّي بالجليل من مصالحِه الآنيَّة ليس لأنَّه لا يحبُّ الخيرَ لنفسه بل لأنَّه يرى أنَّ تحصيلَ الخيرِ لنفسِه لا يُتاحُ إلا من هذا الطريق. فكلٌّ من هذين الصنفينِ من الناس حريصٌ على تحصيل الخيرِ لنفسِه، والتباينُ بين مصاديقِه ووسائل تحصيلِه إنَّما نشأ عن التفاوت في التشخيص لِمَا هو الخير، وما هو الطريقُ الموصِلُ إليه.
الأديان جاءت لتعريف الإنسان بالخير الحقيقي:
والإسلامُ أساساً وكذلك الدياناتُ الإلهيَّة التي سبقته إنَّما جاءت لتعريف الإنسان بالخير الحقيقي، ولم تأتِ لصرف الإنسان عن طلب الخير لنفسِه بل هي تدفعُه لعمل الصالحات من طريق استثارة هذه الطبيعة في نفسِه والبرهنةِ على أنَّ طريقَ الوصولِ إلى الخيرِ الحقيقي لا يُتاح إلا بعمل الصالحات، وأنَّ الطريقَ الآخرَ لا يُفضي إلا إلى خيرٍ وهميٍّ أو خيرٍ آنيٍّ زائل يعقبُه شرٌّ دائم، فهي تستعينُ على ترغيبِه في الصالحات بما جُبِل عليه من الحِرص والحبِّ للخير، وتُزهِّده في مساوئ الأفعال بواسطة ايقافِه على منافاتها للخير الذي يحرِص على الحَظوةِ به. فهي تقولُ للإنسان إنَّ الخير الذي تبحثُ عنه وتحرِصُ على نيلِه إنَّما هو بيد الله تعالى، فمِن طريقه فاطلْبه، قال تعالى:﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(5).
والأديان الإلهيَّة تقول للإنسان إنَّ كلَّ الطُرق التي تسلكُها بحثاً عن الخير لا تُفضي إلا إلى سرابٍ إذا لم تكن موصولةً بالله جلَّ وعلا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(6) وتقول للذين توهَّموا أنَّ الخير يكمنُ في الرياشِ والمعاشِ والتقلُّبِ في نعيم الدنيا: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾(7) ويقول تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(8) ويقول جلَّ وعلا: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى }(9) فالقرآن مليئ بالآيات التي تُصحِّح وجهةَ الخير للإنسان في مختلفِ الشؤون لتستحثَّه على سلوكِها: ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾(10) ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾(11) ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾(12) ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾(13) ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾(14) ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾(15) ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾(16) ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(17) ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(18) فهذه الآيات وغيرُها كثير جاءت لتُصحِّح للإنسان وجهةَ الخير الحقيقي ولتوقفَه على وسائلِ تحصيلِه، فهي لا تذمُّ في الإنسان حبَّه للخير وإنَّما تُحذِّرُه من سوء الاستفادة من هذه الطبيعة.
الآياتُ من سورة المعارج ليست بصدد الذمِّ لطبيعة الهلع:
إذن فالآياتُ من سورة المعارج لم تكن بصدد الذمِّ لطبيعة الحِرص التي جُبِلَ عليها الإنسان، فالحِرصُ وحبُّ الخيرِ الشديد هي وسيلةُ التكامل والباعثُ على الاِلتزام بتعاليم الدين، وعليها يقومُ المعاش، وبها تتنظمُ الحياة، فلولا الحِرصُ على الخيرِ الكامنُ في جِبلَّة الإنسان لمَا أجهدَ الطالبُ نفسَه في تحصيل العلم، ولمَا أرهقَ الفلاحُ جسدَه في حرْثِ الأرض وبذرِها، ولمَا تكبَّد البنَّاء مشقَّةَ البِناء، ولما خاضَ الصيَّادُ أمواجَ البحر، وعبَر التاجرُ القِفارَ وتجشَّم أعباءَ الأسفار، فكلُّ هؤلاءِ ومَن تقومُ بهمُ الحياة إنَّما يدفعُهم لاقتحام هذه الصعاب حِرصُهم الشديدُ على تحصيل الخير لأنفسِهم، فما من أحدٍ مِن هؤلاءِ إلا وهو ينطوي على آمالٍ ورغباتٍ يطمحُ في نيلِها، ويرى فيها الخيرَ لنفسِه ويُدرِكُ أنَّ تحصيلَها لا يُتاح إلا بتحمُّلِ هذه الصعاب، وبذلك يدفعُ اللهُ الناسَ بعضَهم ببعض فتنتظمُ الحياة.
الإنسانَ يُسيءُ توظيفَ الطبائع:
ولأنَّ الإنسانَ يُسيءُ توظيفَ أو تدبيرَ الطبائع التي أودَعها اللهُ تعالى في جِبلَّته لذلك يبعثُ اللهُ الرُسُلَ ويُنزلُ الكتب ليُرشِد الناس إلى أمثل طُرق الانتفاع بهذه المِنَح الإلهيَّة، فهو تعالى حين يُحذِّر مثلاً من الإسراف في اتِّباع الشهوات لا يذمُّ في الإنسان رغبتَه في نيل المُشتهيات، فهو مَن أودَعها في جِبلَّته، فهو تعالى إنَّما يذمُّ في الإنسان سوءَ الإدارةِ لها والإفراطَ في التمتُّع بها، وكذلك حينما يُحذِّرُ من طول الأمل فإنَّه لا يذمُّ في الإنسان تعلُّقََه بالأمل، فإنَّ الأملَ هو سرُّ حيويَّة الحياة واستمرارِها.
الآيات جاءت للتحذير من طغيان الحرص:
وهكذا هو الشأنُ في تحذيره مِن الإساءة في تدبير جبلَّة الحِرص على الخير، فهو إنَّما يُحذَّر من طُغيانه في النفس وصيرورتِه داءً يفتكُ بصاحبِه، فالحِرص إذا طغى صار جَشَعاً، والجَشَعُ هو ما يبعثُ على الظلمِ والبغي وتجاوزِ القِيَم والمروءاتِ وشيوعِ الفساد في الأرض، فالجشِعُ يحرصُ على الجمع والمنع، فهو يجمع ما يُتاحُ له جمعُه من حلالٍ وحرام وممَّا يستحقُّه وممَّا لا يستحقُّه، ويتوسَّلُ لذلك بالهَوان لمن فوقه وبالإستطالة وبالمَكر والخديعة، فإذا جمعَ منع الناس ممَّا في يدِه مِن حقوقِهم، ولو غلبَه غالبٌ فسلبَه ما عنده أو أصابت ما عنده آفةٌ فبدَّدتْ ما كان قد جمعَه أو حالت بينه وبين المزيدِ من الجمع أو كان ضعيفاً لا يقدرُ على الجمع فإنَّه يجزعُ حتى يكادَ الجزعُ والحزنُ يفتِكُ به، فإنْ وجدَ من أحدٍ يستظهرُ به لإشباع نهَمِه ركَن إليه واستكان له وباع له دينَه ومروءَته وأهلَه وعشيرته، تلك هي مساوئُ الإفراط في الحِرص والخروجِ به عن حدِّ الاعتدال، وهو ما تُحذِّر منه الآياتُ من سورة المعارج. فهي تُحذِّر من الحِرصِ المُفضي للجزع عند الحرمان، وتُحذِّر من الحِرص المُفضي للمنع والبخل عند الوجدان.
ونستكمل الحديث فيما بعد إنْ شاء اللهُ تعالى اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(19).
والحمد لله ربِّ العالمين
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
24 من ذي القعدة 1443هـ - الموافق 24 يونيو 2022 م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
1- سورة المعارج / 19-22.
2- سورة السجدة / 7.
3- سورة التين / 4.
4- سورة العاديات / 8.
5- سورة آل عمران / 29.
6- سورة النور / 39.
7- سورة الأعراف / 26.
8- سورة الأنعام / 32.
9- سورة القصص / 60.
10- سورة النساء / 25.
11- سورة آل عمران / 198.
12- سورة المؤمنون / 72.
13- سورة النور / 60.
14- سورة البقرة / 221.
15- سورة البقرة / 280.
16- سورة البقرة / 184.
17- سورة الأعراف / 85.
18- سورة البقرة / 216.
19- سورة العصر / 1-3.