معنى قوله (ع): ".. ومن اشترى الخبز ذهب مالُه"

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: "مَن اشترى الحنطة زاد مالُه، ومَن اشترى الدقيق ذهب نصفُ مالِه، ومَن اشترى الخبزَ ذهبَ مالُه"(1).

 

هل هذا الحديث وارد عندنا؟ وما هو المراد منه؟

 

الجواب:

نعم أورد هذه الرواية الشيخ الطوسي (رحمه الله) في التهذيب بسندٍ موثَّق عن إبرهيم بن عبد الحميد عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) ومفادها إجمالاً هو الإرشاد إلى الاقتصاد في الصرف، فبدلاً من شراء الخبز بثمنٍ مُضاعف فإنَّ الأجدر بالمستهلٍك هو أنْ يشتري الحنطة ويتصدَّى بنفسه لطحنها وعجنها وخبزها، فإنَّ في ذلك ترشيداً في الإنفاق، وإنْ كان يشقُّ عليه ذلك فليشترِ الدقيق يعني يشتري الحنطة بعد طحنها ويتولَّى هو عجنها وخبزها، فإنَّه بذلك يقلِّل من كُلفة الخبز الذي يحتاج لاستهلاكه.

 

ومن ذلك يتَّضح معنى قوله (ع): "مَن اشترى الحنطة زاد مالُه" لأنَّه بشرائه للحنطة سيُوفِّر أُجرة الطَحْن والعجْن والخَبْز، فكأنَّ مالَه قد زاد لأنَّه قد احتفظ به لنفسه وكان سيُنفقه لو اشترى بدلاً من الحنطة خبزاً أو دقيقاً.

 

وهكذا فإنَّه لو اشترى الدقيق فإنَّه سيضطر لإنفاق ضعْف ما كان سيُنفقه لو اقتصر على شراء الحنطة، وهذا هو -ظاهراً- معنى قوله (ع): "ومَن اشترى الدقيقَ ذهب نصفُ ماله".

 

وأمَّا لو اشترى الخبز فإنَّ جميع ماله المُعدِّ لذلك سيذهب، فلن يوفِّر منه شيئاً، فالإمامُ (ع) -ظاهراً- بصدد إلى الإرشاد إلى الاقتصاد في الإنفاق، حيث كانوا بأمسِّ الحاجة إلى الدرهم والدرهمين.

 

روايات قريبة من مفاد الرواية:

هذا وقد ورد مضمون هذه الرواية أو ما يقربُ منه في العديدُ من الروايات عن أهل البيت (ع):

 

منها: رواية عَبَّادِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: شِرَاءُ الْحِنْطَةِ يَنْفِي الْفَقْرَ، وشِرَاءُ الدَّقِيقِ يُنْشِئُ الْفَقْرَ، وشِرَاءُ الْخُبْزِ مَحْقٌ، قَالَ: قُلْتُ لَه: أَبْقَاكَ اللَّه، فَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شِرَاءِ الْحِنْطَةِ ؟ قَالَ ذَاكَ لِمَنْ يَقْدِرُ ولَا يَفْعَلُ"(2).

 

أقول: قوله (ع): "شِرَاءُ الْحِنْطَةِ يَنْفِي الْفَقْرَ" لأنَّ فيه ترشيداً في الإنفاق، لأنَّ الحنطة قبل معالجتها وتصييرها دقيقاً ثم خبزاً تكون أقلَّ ثمناً وبذلك يتمكن المستهلك من توفير قوت يومِه وسنته بأقل الأثمان، ولعلَّ الإمام (ع) أراد القول بأنَّ الله تعالى إذا علم من عبده الحرص على الاقتصاد وعدم تبذير ماله فيما يستطيع توفيره فإنَّه يمنحه السعة في الرزق.

 

وأمَّا أنَّ ""شِرَاءُ الدَّقِيقِ يُنْشِئُ الْفَقْرَ" فلأنَّه يكلِّف نفقة مضاعفة وهو ما قد ينتهي بالإنسان إلى عدم القدرة على تأمين قوته له ولعياله، وورد في بعض النسخ أنَّ شراء الدقيق يُنسيء الفقر بمعنى أنَّه يُطيل من أمَد الفقر، لأنَّه لا يستطيع بمداومته على شراء الدقيق أنْ يوفِّر إلا القليل من مالِه فيظلُّ على حالة الفقر أمداً أطول، لأنَّه لابدَّ له من الطعام الذي يُصنع من الدقيق كالخبز فإذا كان يشتريه دقيقاً فهذا يقتضي أن ينفق أكثر ما عنده من مال.

 

وأمَّا قوله (ع): "وشِرَاءُ الْخُبْزِ مَحْقٌ" فهو بمعنى أنَّ المداومة على شراء الخبز -جاهزاً- يمحقُ المال أي يهلكه ويوجب نفاده.

 

ومنها: رواية مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِذَا كَانَ عِنْدَكَ دِرْهَمٌ فَاشْتَرِ بِه الْحِنْطَةَ فَإِنَّ الْمَحْقَ فِي الدَّقِيق"(3).

 

أقول: قوله (ع): "فانَّ "المَحقَ في الدقيق" معناه أنَّ المداومة على شراء الدقيق يُفضي إلى محْقِ المال وضياعه.

 

ومنها: صحيحة أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): يَا أَبَا الصَّبَّاحِ شِرَاءُ الدَّقِيقِ ذُلٌّ، وشِرَاءُ الْحِنْطَةِ عِزٌّ، وشِرَاءُ الْخُبْزِ فَقْرٌ، فَنَعُوذُ بِاللَّه مِنَ الْفَقْرِ"(4).

 

أقول: قوله (ع): "شِرَاءُ الدَّقِيقِ ذُلٌّ" لأنَّه يُفضي إلى الفقر أو إطالة أمَد الفقر، فيحتاج بذلك إلى معونة الناس وصدقاتهم. وأمَّا شراء الحنطة وتصدِّي الانسان لمعالجتها بنفسه فهي عزٌّ لأنَّ ثمنها زهيد نسبياً فيتمكن بنفسه لشرائها وبذلك يؤمِّن قوته لنفسه وعياله دون الحاجة إلى الاستعانة والتكفُّف لما في أيدي الناس، ولهذا كان شراء الحنطة عزٌّ. 

 

معنى قوله (ع): "وأَكْلُ خُبْزِ الشِّرَاء":

وأمَّا ما روي عن أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أنَّه قَالَ: "مِنْ مُرِّ الْعَيْشِ النُّقْلَةُ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ وأَكْلُ خُبْزِ الشِّرَاء"(5) فمعناه قد اتَّضح ممَّا تقدَّم فإنَّ المداومة على شراء الخبز والذي يكلِّفُ محدودَ الدخل باهضاً مآله إلى الوقوع في الفقر والذي هو من أشدِّ المرارات كما في الروايات.

 

هذا وقد ورد في بعض نُسخ الكافي أنَّ العبارة هي: "وأَكْلُ خُبْزِ الشِّرَى" ومعنى الشرى هو الحنظل -كما قيل- والظاهر أنَّ الصحيح هو خبز الشراء أي الذي يتمُّ اقتناؤه شراءً، فإنَّ ذلك هو المناسب لأكثر نسخ الكافي -ظاهراً- وهو المُناسب لمفاد الروايات الأخرى، على أنَّه من غير المعهود اتِّخاذ الخبز من الحنظل إلا أنْ يُراد من ذلك الخبز المتعفِّن أو الذي مضى على صناعته وقتٌ طويل.

 

 والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

28 / ذو القعدة / 1443ه

28 / يونيو / 2022م

-------------------------------

1- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج7 / ص162.

2- الكافي -الكليني- ج5 / ص166، تهذيب الأحكام -الطوسي- ج7 / ص162.

3- الكافي -الكليني- ج5 / ص167، تهذيب الأحكام -الطوسي- ج7 / ص162.

4- الكافي -الكليني- ج5 / ص167، تهذيب الأحكام -الطوسي- ج7 / 163.

5- الكافي -الكليني- ج6 / ص531، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج5 / ص339، ج17 / ص438.

6- الأمالي -الصدوق- ص766.