الأمرُ بالتقوى يُلازم الأمر بالإيمان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

سماحة الشيخ 

يُثير البعض إشكالاً حاصله: أنَّ الله خاطب الناس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ فالمناط والمهم هو التقوى وليس الإيمان بالله بل التقوى والتي يُمكن أنْ تتحقَّق من كلِّ إنسان، والدليل على ذلك خطاب الله لكلِّ الناس بالتزام التقوى.

 

الجواب:

موضوع الأمر بالتقوى في الآية هو ربُّكم، فهو المأمور في الآية باتِّقائه، وهذا معناه المفروغيَّة عن الإيمان به، إذ كيف يتَّقيه وهو لا يُؤمن بوجوده؟! فمساقُ الآية هو مساق قولنا: اصعد على السلَّم، فإنَّ مقتضى ذلك هو الأمر بإحضار السلَّم، إذ لا يُمكن امتثال الأمر بصعود السلَّم إلا بإحضاره، فالأمرُ بصعود السلَّم يتضمَّن مقدَّمةً مطويَّة وهي الأمر بإحضار السلَّم، كذلك هو الشأن في الأمر بتقوى الربِّ فإنَّه يتضمَّن الأمر بالإيمان به أولاً. فالأمر للناس بتقوى الله معناه الأمر بالإيمان به أولاً وبتقواه ثانياً ولأنَّ الثاني يدلُّ على الأول لذلك استغنى عن التصريح بالأمر الأول لتضمُّنه في الأمر الثاني، وهذا واضح بأدنى تأمُّل.

 

فالتقوى ليست شيئاً معلّقاً في الهواء بل هي من العناوين ذات الإضافة مثل القطع والظن والخوف والحذر والحبِّ والبغض، فلا يكون قطعٌ ما لم يكن مقطوع، ولا يكون ظنٌّ دون مظنون، ولا بغضٌ ولا حبٌّ دون مبغوضِ ومحبوب، ولا خوف وحذر دون مَخوفٍ ومحذور منه، وكذلك لا تُتعقَّل التقوى دون متَّقى منه، فالمُتَّقى هو سخط الربِّ وعقابه، والاتقاء من سخط الله مقتضاه الإيمان بوجود الله وأنَّه يسخط ويُعاقب.

 

ثم إنَّ التقوى تعني الائتمار بأوامر الله والانتهاء عن نواهيه، فإنَّ ذلك هو الذي يقي من سخط الله وعقابه، إذ لا معنى للتقوى من أحدٍ إلا بفعل ما يمنعُ من سخطِه وعقابه، ولا يُمكن لأحدٍ أنْ يدَّعي أنَّه متقٍ لله تعالى وهو يتعرَّض لأسباب سخطِه وذلك بالتمرُّد على أوامره ونواهيه، إذنْ فالتقوى تعني الالتزام بحدود الله وعدم تجاوزِها، وهذا لا يتمُّ إلا بالإيمان بالله تعالى.

 

هذا وقد جاء الخطاب بالتقوى لعموم الناس في ثلاثة مواضع من القرآن يتَّضح مِن ملاحظتها أنَّ الأمر للناس بالتقوى يستبطنُ الأمر بالإيمان بالله تعالى:

 

الموضع الأول: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(1).

 

فالآية بعدما أمرتْ بتقوى الربِّ عرَّفته بأنَّه الذي خلقهم، فخلق الرجال والنساء وهم الناس جميعاً، فموضوعُ التقوى والمأمور بالاتقاء منه هو الربُّ الذي خلقَهم جميعاً، ثم تصدَّت الآية لبيان المُوجب للتقوى وهو أنَّ هذا الربَّ الموصوف بالخالق سوف يُسائلُهم ويحاسبُهم وأنَّه يراقبُ أفعالهم، وكلُّ ذلك مبتنٍ على المفروغيَّة عن الإيمان بالله تعالى.

 

الموضع الثاني: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ / يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾(2).

 

فالآيةُ بعدما أمرتْ الناس بتقوى الربِّ جلَّ وعلا توعَّدتهم بيوم القيامة ووصفتها بأنَّها شيءٌ عظيم مُذهِل تتخلَّى فيها الأمُّ عن رضيعها وتُسقِط الحبلى ما في أحشائها من شدَّة الفزع والخوف، ذلك لأنَّ الناس يجدون في تلك الساعة عذاباً شديداً حاضراً ومشهوداً ينتظرُ من لم يتقِ الربَّ وهو الله الذي أضافت الآية العذاب إليه.

 

فالواضحُ من الآية أنَّها تأمرُ الناس بتقوى الربِّ الذي توعَّدهم بيوم عظيم أعدَّ فيه عذاباً شديدا لمَن لم يتق الله فهي إذن تأمر بالإيمان بالله الذي أمرت بتقواه والخوفِ من عذابه الشديد.

 

الموضع الثالث: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾(3).

 

ومفاد هذه الآية قريبٌ من مفاد الآية التي سبقتها، فهي تأمرُ الناس بتقوى الربِّ وتُحذِّرهم من اليوم الذي أعدَّه لمحاسبتِهم، فهي تدعو للإيمان بذلك اليوم الذي وصفته بالوعد الحقِّ من الله، ولا معنى للدعوة إلى الإيمان بوعد الله والتحذير منه دون الفراغ عن الإيمان بالله صاحب الوعد والتحذير والآمر بالتقوى والخشية والحذر.

 

وهذا الذي ذكرناه إنَّما ذكرناه مجاراةً للمغالطة الواهنة وخشيةً من علوقها في أذهان البسطاء وإلا فما بيَّناه أوضح من أنْ يحتاج إلى بيان.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

6 / ذو الحجَّة / 1443ه

5 / يوليو / 2022م

------------------------

1- سورة النساء / 1.

2- سورة الحج / 1-2.

3- سورة لقمان / 33.