التصدُّقُ بالخاتمِ وآية الولاية

 

أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ، والْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ، نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، ونَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ، ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهً غَيْرُهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً، وبِذِكْرِهِ نَاطِقاً، فَأَدَّى أَمِيناً، ومَضَى رَشِيداً، وخَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، ومَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ، ومَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ، أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ، إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ، وأَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ.

 

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ وارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ، ودَاوُوا بِهَا الأَسْقَامَ وبَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ، واعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا ولَا يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا، أَلَا وصُونُوهَا وتَصَوَّنُوا بِهَا.

 

نزول آية الولاية في الإمام عليٍّ (ع):

يقول اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيد: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾(1).

 

هذه الآيةُ المباركة من سورة المائدة المعبَّرُ عنها بآيةِ الولاية نزلتْ في الإمام عليٍّ (ع) إيذاناً منه تعالى بفرض ولايتِه على المؤمنين كما نصَّ على ذلك أهلُ البيت (ع) فمِن ذلك صحيحةُ زُرَارَةَ، والْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، وبُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ، ومُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وبُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وأَبِي الْجَارُودِ جَمِيعاً عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ رَسُولَه بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ، وأَنْزَلَ عَلَيْه: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُه والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ وفَرَضَ وَلَايَةَ أُولِي الأَمْرِ فَلَمْ يَدْرُوا مَا هِيَ، فَأَمَرَ اللَّه مُحَمَّداً (ص) أَنْ يُفَسِّرَ لَهُمُ الْوَلَايَةَ كَمَا فَسَّرَ لَهُمُ الصَّلَاةَ والزَّكَاةَ والصَّوْمَ والْحَجَّ .. -ثم قال أبو جعفرٍ (ع)- فَأَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه وا لله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(2) فَصَدَعَ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى ذِكْرُه، فَقَامَ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ (ع) يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ فَنَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً، وأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ .. ثمَّ قَالَ (ع): وكَانَتِ الْفَرِيضَةُ تَنْزِلُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ الأُخْرَى، وكَانَتِ الْوَلَايَةُ آخِرَ الْفَرَائِضِ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾(3) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): يَقُولُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَا أُنْزِلُ عَلَيْكُمْ بَعْدَ هَذِه فَرِيضَةً، قَدْ أَكْمَلْتُ لَكُمُ الْفَرَائِضَ"(4).

 

هذه الآيات الثلاث نزلت -بحسب مفاد الصحيحة- متعاقبة في أزمنةٍ متفاوتة، تصدَّتِ الأولى منها لإفادة أنَّ ألله تعالى قد فرضَ ولاية عليٍّ (ع) على المؤمنين، وتصدَّت الثانيةُ لبيان أنَّ رسالةَ الرسول (ص) لا تتمُّ دون التبليغِ لهذه الفريضة، وأنَّ عدمَ التبليغِ لها يُساوقُ عدمَ التبليغِ للرسالة، وتصدَّتِ الآيةُ الثالثةُ لبيان أنَّ الدينَ قد كمُلَ بتبليغ فريضةِ الولاية، وأنَّ الله تعالى قد أتمَّ بها النعمةَ على عباده.

 

نزول آية الولاية من طُرق العامَّة:

ثم إنَّ نزول آية الولاية في عليٍّ (ع) -والتي سوف يتمحَّضُ الحديثُ حولها- لا نختصُّ بنقلِه بل نقلته الكثيرُ من كتبِ العامَّة من طُرقٍ كثيرة يتشكَّلُ مِن مجموعِ ما ورد في طرقِنا وما ورد في طرقِهم ما يفوقُ حدَّ التواتر، فقد أخرج الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل من طرقِهم -بحسب ما وقفتُ عليه- أربعةً وعشرين طريقاً(5)، وهذه الطُرق ينتهي أكثرُها إلى عددٍ من الصحابة كالإمام عليٍّ (ع) وعمَّارِ بن ياسر، وجابرِ بن عبد الله الأنصاري، وأبي ذر الغفاري، وأبي رافع، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وأنسِ بن مالك، وسلمةَ بنِ كهيل، والمقدادِ بن الأسود.

 

فمِن ذلك ما أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط وابنُ مردويه عن عمَّار بن ياسر يقول وقفَ على عليِّ بن أبي طالب سائلٌ وهو راكع في تطوُّعٍ، فنزعَ خاتمَه، فأعطاهُ السائلَ، فأتى رسولَ الله (ص) -يعني السائل- فأعلمَه ذلك فنزلتْ على النبيِّ (ص) هذه الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ فقرأها رسولُ الله (ص) ثم قال: مَن كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ"(6).

 

وأخرج الثعلبي بسندٍ له قال: بينا عبد اللّه بن عباس جالس على شفير زمزم إذ أقبل رجلٌ متعمِّم بالعمامة فجعلَ ابنُ عباس لا يقول، قال رسول اللّه: إلاّ قال الرجل: قال رسولُ الله، فقال ابنُ عباس: سألتُك باللّهِ مَن أنت؟ قال: فكشفَ العمامةَ عن وجهه، وقال: يا أيُّها الناس مَن عرفني فقد عرفني ومَن لم يعرفني فأنا جُندبُ بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري: سمعتُ رسولَ اللّه صلَّى الله عليه وآله وسلم بهاتَينِ وإلاّ صُمّتا، ورأيتُه بهاتين وإلاّ فعمِيتا يقولُ: عليٌّ قائدُ البررة، وقاتلُ الكفرة، منصورٌ من نصره، مخذولٌ مَن خذَله، أما إنِّي صليتُ مع رسولِ اللّه يوماً من الأيام صلاةَ الظهر، فدخلَ سائلٌ في المسجد فلم يُعطِه أحدٌ، فرفع السائلُ يدَه إلى السماء وقال: اللهمَّ اشهد إنِّي سألتُ في مسجدِ رسولِ اللّه فلم يعطِني أحدٌ شيئاً، وكان عليٌّ راكعاً فأومى إليه بخنصرِه اليمنى، وكان يتختَّم فيها، فأقبل السائلُ حتى أخذَ الخاتمَ مِن خنصرِه، وذلك بعين النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة فرفعَ رأسَه إلى السماء وقال: اللهمَّ إنَّ أخي موسى سألَك، فقال: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي / وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي / وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي / يَفْقَهُوا قَوْلِي / وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي / هَارُونَ أَخِي / اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ الآية، فأنزلتَ عليه قرآناً ناطقاً: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ اللهمَّ وأنا محمَّدٌ نبيُّك وصفيُّك اللهمَّ فاشرحْ لي صدري ويسِّر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي عليَّاً أُشدد به ظهري، قال أبو ذر: فواللّهِ ما استتم رسولُ اللّه الكلمةَ حتى نزل عليه جبرئيلُ من عند اللّه، فقال: يا محمَّد إقرأ، فقال: وما أقرأ؟ قال: إقرأ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ إلى ﴿رَاكِعُونَ﴾"(7).

 

وقال السيوطي في الدرِّ المنثور: وأخرج الخطيبُ في المتَّفق عن ابن عباس قال: تصدَّق عليٌّ بخاتمِه وهو راكع فقال النبيُّ (ص) للسائل مَن أعطاك هذا الخاتم قال: ذاك الراكع فأنزل اللهُ ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ الآية، وأخرجَ عبدُ الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ الآية قال: نزلتْ في عليِّ بن أبي طالب.

 

 وأخرجَ أبو الشيخ وابنُ مردويه عن عليِّ بن أبي طالب قال: نزلتْ هذه الآية على رسول الله (ص) في بيته ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا﴾ إلى آخر الآية فخرجَ رسولُ الله (ص) فدخلَ المسجد، وجاء الناسُ يصلُّون بين راكعٍ وساجدٍ وقائمٍ يُصلي، فإذا سائلٌ فقال: يا سائلُ هل أعطاك أحدٌ شيئاً قال: لا إلا ذاك الراكع لعليِّ بن أبي طالب أعطاني خاتمَه، وأخرج ابنُ أبي حاتم وأبو الشيخ وابنُ عساكر عن سلمة بن كُهيل قال: تصدَّق عليٌّ بخاتمِه وهو راكع فنزلت: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ﴾ الآية، وأخرج ابنُ جرير عن مُجاهد في قوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ الآية نزلتْ في عليِّ بن أبي طالب، تصدَّق وهو راكع، وأخرج ابنُ جرير عن السدي وعتبة بن حكيم مثله، وأخرج ابنُ مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال أتى عبد الله بن سلام .. فبينا هم يشكون ذلك إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إذ نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ونُودي بالصلاة صلاةَ الظهر وخرج رسولُ الله (ص) فقال أعطاك أحدٌ شيئا قال: نعم قال: مَن؟ قال ذاك الرجل القائم، قال: على أيِّ حال أعطاكَه؟ قال: وهو راكع قال: وذاك عليُّ بن أبي طالب، فكبَّر رسولُ الله (ص) .. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي رافع ما يقربُ من ذلك، وأضاف أنَّ رسول الله (ص) قال بعد نزول الآية: الحمد لله الذي أتمَّ لعليٍّ نعمَه وهيأ لعليٍّ بفضل الله إيَّاه، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان عليُّ بن أبي طالبٍ قائماً يُصلِّي فمرَّ سائلٌ وهو راكع، فأعطاهُ خاتمَه فنزلتْ هذه الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾(8) الآية". يقول السيوطي في لبِّ النقول: فهذه شواهدُ يقوِّي بعضُها بعضا(9).

 

محاولات لصرف آية الولاية عن ظهورها:

فالحديثُ عن نزولِ آيةِ الولاية في عليٍّ أمير المؤمنين (ع) ينبغي أنْ يكون مفروغاً عنه بعد تظافرِ الروايات وتعاضدِها وتجاوزِ طُرقِها من الفريقين حدَّ التواتر، ولذلك عمَد الكثيرُ من علماءِ العامَّة لصرفِ الآيةِ عن ظهورِها بعد أنْ لم يجدوا مندوحةً لإنكار نزولِها في أمير المؤمنين (ع).

 

فقالوا إنَّ المرادَ من الولاية التي أُسندتْ لعليٍّ (ع) في الآية لا تعني ولايةَ الأمر بل تعني النُصرة والمحبَّة فمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُه والَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو إنَّما ناصرُكم والمحبُّ لكم هو اللهُ وسولُه وعليُّ بن أبي طالب حيث هو المقصود من الذين آمنوا بمقتضى الروايات القطعية الصدور.

 

واستدلُّوا على دعوى أنَّ المراد من الولاية في الآية هو النُصرة والمحبَّة بالسياق، فالآياتُ التي سبقتْ هذه الآية لا يُمكن حملُها إلا على النُصرة والمحبَّة، فالآية التي سبقت هذه الآية هي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(10) ومعنى النهي عن اتِّخاذ اليهود والنصارى أولياء هو النهي عن اتِّخاذهم أنصاراً، ومعنى قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ هو أنَّه مَن ينتصر بهم أو ينصرهم فإنَّه منهم، وعليه فإنَّ معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله ورَسُولُه والَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو إنَّما ناصرُكم اللهُ ورسولُه (ص) وعليُّ بن أبي طالب(ع).فهي قد نهتْ عن اِتِّخاذ اليهود والنصارى أولياء وأنصاراً ثم أثبتت الولايةَ والنصرة لله ورسولِه (ص) وعليِّ بن أبي طالب (ع) فهي إذن أجنبيَّة عن إثباتِ الولايةِ بمعنى ولايةِ الأمر.

 

والجواب عن هذه الدعوى:

آيةُ الولاية نزلت مستقلةً عن السِّياق:

أولاً: إنَّ آية الولاية - بمقتضى الروايات التي تمَّ الإقرار بصدورِها تدلُّ بنفسِها على أنَّ آية الولاية نزلتْ وحدَها في واقعةٍ خاصَّة، فجميعُ الروايات وإنْ اختلفتْ في بعضِ تفاصليها متفقةٌ على أنَّ آية الولايةَ أو هي والآية التي بعدها نزلت مستقلَّة، فهي إذن منفصلةٌ عن سِياقِ الآياتِ التي قبلها، وإنَّما وقعتْ ضمنَ السياق المذكور بعد الجمع للقرآن، وعليه فلا يُمكن الاستدلالُ بالسِّياق في المقام بعد أنْ كانت الآيةُ المذكورة مستقلَّةً حال النزول.

 

فالاستدلالُ بالسِّياق إنَّما يصحُّ في فرض إحراز نزول الآيةِ ضمن السِّياق المذكور إلا أنَّ الأمرَ لم يكن كذلك، فالرواياتُ المقطوعةُ الصدور تدلُّ على أنَّ الآية نزلتْ مستقلَّةً، وهذا الجوابُ هو ذاتُه الذي نُجيب به على الاستدلالِ بالسياقِ في آية التطهير.

 

آية: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ .. ليست سياقاً لآية الولاية:

وثانياً: إنَّ آيةَ الولاية لم تأتٍ بعد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ بل تفصلُها عن آية النهي عن اتِّخاذ اليهود والنصارى أولياء ثلاثُ آيات، فالآيةُ التي سبقتْ آيةَ الولاية هي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ..﴾(11) وهذه الآية ملائمةٌ لآية الولاية أو لا أقلَّ من أنَّها غيرُ مانعةٍ من ظهور آيةِ الولاية في إرادة ولاية الأمر. وكذلك هي الآيات التي لحِقت آيةَ الولاية.

 

تعيُّن دلالة الآية في ولايةِ الأمر:

وثالثاً: إنَّ مدلول أداة الحصر( إنّما) هو إثباتُ الحكم لموضوع الأداة ونفيُه عمَّن سواه، ومعنى ذلك هو إثبات الولاية لله ورسوله وعليٍّ ونفيُها عمَّن سواهم وهو المعبَّر عنه في علم المعاني بقصْر الصفة على الموصوف، وعليه فإنَّ معنى الآية لا يستقيمُ لو تمَّ حملُ الولاية فيها على النُصرة، فالآية بمقتضى أداة الحصر (إنَّما) قد حصرت الولايةَ بالله تعالى ورسولِه (ص) وعليِّ بن أبي طالب(ع)، ومقتضى ذلك لو تمَّ حملُ الولاية على النصرة هو اختصاصُ النصرة بالله ورسوله وعليِّ بن أبي طالب ونفيُها عمَّن سواهم، وهذا منافٍ للواقع ولقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾(12) فإنَّها أثبتت أنصارٌ لبعضهم البعض وكذلك فإنَّ حمل الولاية على النصرة منافٍ للكثير من الآيات التي أسندت النصرة للمجاهدين وفرضت النصرةَ على المؤمنين وحضَّت عليها كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾(13) وقوله تعالى يمدحُ الأنصار من الأوس والخزرج: ﴿وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾(14) وقوله تعالى يمدحُ الفقراءَ المهاجرين: ﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾(15) وقوله تعالى يحضُّ على نصرة النبيِّ (ص) ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾(16) وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(17) فهذه الآيات وغيرُها تدلُّ على أنَّ الانتصار لله ورسوله (ص) -والذي هو في المآل انتصارٌ للمؤمنين- وصفٌ صادقٌ على الكثير من المؤمنين.

 

فعليٌّ (ع) ليس وحدَه الناصرَ لله تعالى ولرسوله (ص) وللمؤمنين، ولهذا يتعيَّن أنَّ المراد من الولاية في آية الولاية ليس هو إثبات أنَّ عليَّاً(ع) هو الناصرُ لله ورسوله(ص) وللمؤمنين فإنَّ هذا الوصف لا يختصُّ عليٌّ (ع) به، ولهذا لا يكونُ للحصر والاختصاص المُستفاد من أداة الحصر معنىً سوى أنَّ الآية خصَّت عليَّاً (ع) دون سواه بولاية الأمر، فمفادُ الآية هو أنَّ مَن له ولايةُ الأمر على المؤمنين ومَن له التدبيرُ والطاعة هو الله تعالى ورسولُه (ص) وعليُّ بن أبي طالبٍ (ع). فهو الذي نصَّت الروايات القطعيةُ الصدور على أنَّه الموصوف بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ فالآيةُ تُشيرُ إلى قضيةٍ خاصَّة مشخَّصة قد وقعت، وهي أنَّ ثمةَ رجلاً تصدَّق وهو راكعٌ أي تصدَّقَ حال كونِه راكعاً ثم أفادت الآيةُ أنَّ هذا الذي تصدَّق وهو راكعٌ هو الذي جعلنا له ولايةَ الأمرِ على المؤمنين.

 

إشكال وجواب:

وأمَّا ما يُقال: لماذا استعملت الآيةُ صيغة الجمع إذا كان المراد هو المفرد

فجوابُه إنَّ هذا الأسلوب قد اعتمده القرآنُ في الكثير بل في أكثر الآياتِ المتصدِّية للحديث عن وقائعَ خاصَّة.

 

ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾(18) فالقولُ في الآيةِ أُسندَ إلى الجمع، وقد أتَّفق المحِّدثون والمفسِّرون(19) على أنَّ القائلَ واحدٌ وهو عبدُ الله بن أُبي بن سلول.

 

وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾(20) فإنَّ القول في الآية، قد أُسند للجمع، والحالُ أنَّ القائلَ بهذا القول والموصوفين بأنَّ في قلوبهم مرض -بحسب رواياتهم(21)- هو خصوصُ عبد الله بن أُبي.

 

ومِن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ .. تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾(22) فإنَّ الآية نزلت -كما في صحيح البخاري وغيره(23)- في حاطب بن أبي بلتعة حين راسلَ قريش قبل الفتح ليُخبرَهم عن عزم النبيِّ (ص) على مباغتتهم بالحرب، فهي قضيةٌ خاصَّة وقعتْ من رجلٍ محدَّدٍ ورغم ذلك تمَّ التعبير عنها بصيغة الجمع.

 

 

وذلك ليس من إطلاق الجمعِ وإرادة المفرد بل هو -كما أفاد صاحبُ الميزان(24)- من إعطاء حكمٍ كلِّي أو الإخبار بمعرِّفٍ جمعي يقبلُ الصدقَ على كلِّ ما يصحُّ الانطباق عليه، غايتُه أنَّ منطبَقه ومصداقَه -خارجاً- واحدٌ، وهذا رائجٌ في الاستعمال العربي، فيقال مثلاً: هذا المالُ لورثة زيد والحال أنَّه ليس لزيدٍ من الورثةِ -خارجاً- سوى وارثٍ واحد.

 

ويُقال أيضاً سألني الناس عن كذا، والحال أنَّ السؤال تمَّ من قِبَل رجلٍ واحد كما في قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ والمستفتي واحد وهو جابر بن عبد الله الأنصاري(25)

 

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الطيبينَ الطاهرينَ الأخيارِ الأبرار اللهمَّ اغفر لعبادك المؤمنين

 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(26).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

22 من ذي الحجَّة 1443هـ - الموافق 22 يوليو 2022م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

 

--------------------------------------

1- سورة المائدة / 55.

2- سورة المائدة / 67.

3- سورة المائدة / 3.

4- الكافي -الكليني- ج1 / ص289.

5- شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج1 / ص209- 239.

6- المعجم الأوسط -الطبراني- ج6 / ص218، مناقب عليِّ بن أبي طالب(ع) -ابن مردويه- ص235، لب النقول -السيوطي- ص81.

7- الكشف والبيان عن تفسير القرآن- الثعلبي- ج4 / ص80. مناقب عليِّ بن أبي طالب (ع) -ابن مردويه- ص293.

8- الدر المنثور -جلال الدين السيوطي- ج2 / ص293-294.

9- لباب النقول -جلال الدين السيوطي- ص81.

10- سورة المائدة / 51.

11- سورة المائدة / 54.

12- سورة التوبة / 71.

13- سورة الأنفال / 72.

14- سورة الأنفال / 74.

15- سورة الحشر / 8.

16- سورة آل عمران / 81.

17- سورة محمد (ص) / 7.

18- سورة المنافقون / 8.

19- صحيح البخاري -البخاري- ج4 / ص160، ج6 / ص63، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج8 / ص19، السنن الكبرى -البيهفي- ج8 / ص198.

20- سورة المائدة / 52.

21- جامع البيان -الطبري- ج6 / ص377، تفسير البيضاوي ج2 / ص334. تفسير القرآن العظيم -ابن أبي حاتم- ج4 / ص1158.

22- سورة الممتحنة / 1.

23- صحيح البخاري- البخاري- ج5 / ص89، السنن الكبرى -الترمذي- ج5 / ص83، السنن الكبري -البيهقي- ج9 / ص146.

24- تفسير الميزان -السيد الطباطبائي- ج6 / ص9.

25- صحيح البخاري -البخاري- ج8 / ص8، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج5 / ص61، سنن أبي داوود -السجستاني- ج2 / ص3.

26- سورة العصر.