توبةُ أبي الحتوف وأخيه واستشهادهما

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

يذكر جملةٌ من العلماء كالمامقاني في رجاله والسيد الأمين في أعيانه وغيرهما قصة الأخوين سعد وأبي الحتوف وأنَّهما كانا من الخوارج وأنَّهما كانا في معسكر عمر بن سعد وتحوَّلا يوم العاشر إلى معسكر الحسين (ع) بعد أنْ سمعا أصوات النساء والصبيان فقاتلا إلى جانب أنصار الحسين إلى أنْ قُتلا. 

 

إلا أنَّ المحقِّق التستري في قاموسه يتوقف في صحة الحادثة وقال ما نصُّه يردُّ على ما أورده المامقاني: "أقول: لم يذكر مستنده. ثمّ خروج الخارجي مع ابن سعد غير معقول، فكانت الخوارج لا يعاونون الجبابرة في قتال الكفّار، فكيف في حربه (ع) ثمّ كيف ينصر الحسين من يقول: لا حكم إلاّ للّه ويعلم أنّ الحسين(ع) مثل أبيه يجوِّز التحكيم بكتاب اللّه؟ وبالجملة: هذا أيضاً أصله وفرعه غيرُ معلوم"(1). ما هو رأيكم في ذلك؟

 

الجواب:

أورد الفضيلُ بن الزبير الرسَّان في كتابه المسمَّى [تسمية من قُتل مع الحسين (ع)] كلًّا من سعد بن الحارث وأخيه أبي الحتوف ضِمنَ مَن قُتل مع الإمام الحسين (ع) وقال ما نصُّه: "وقُتل من الأنصار: .. وسعد بن الحارث وأخوه: (أبو) الحتوف بن الحارث، وكانا من المحكِّمة –الخوارج-، فلما سمعا أصوات النساء والصبيان من آل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، حكما، ثم حملا بأسيافهما، فقاتلا مع الحسين عليه السلام، حتى قُتلا، وقد أصابا في أصحاب عمر بن سعد ثلاثةَ نفَر"(2).

 

ولم أقفْ في المصادر على مَن عدَّهما في فيمَن قُتل مع الحسين (ع) سوى هذا المصدر والذي يُعدُّ من أقدم المصادر التي وصلتنا حيثُ إنَّ مؤلفه من المعاصرين للإمامين الباقر والصادق (ع) وكان من الثقاة(3).

 

نعم ورد ذكرُ هذين الرجلين في عِداد الشهداء في كتاب الأمالي الخميسيَّة للشجري(4) وفي كتاب الحدائق الوردية في مناقب الأئمة الزيدية لحميد بن أحمد المحلي(5) وكلاهما أخذ ذلك عن الفضيل بن الزبير. وعليه فالظاهرُ أنَّ مستند الأعلام كالشيخ المامقاني والسيد الأمين(6) هو ما ورد في كتاب الفضيل بن الزبير.

 

وأمَّا استبعاد المحقِّق التستري (قدِّس سرُّه) في قاموس الرجال لمشاركة الخوارج في جيش عمر بن سعد لأنَّ رأيهم عدم معاونة الجبابرة في قتال الكفار فضلاً عن معاونتهم في حرب مثل الإمام الحسين (ع).

 

هذا الاستبعاد ليس في محلِّه -ظاهرًا- فإنَّ الخوارج وإن كانوا يرون عدم الإعانة للأمويين وأشباههم في محاربة الكفار فضلًا عن إعانتهم في محاربة المسلمين إلا أنَّ ذلك في فرض اختيارهم وعدم إكراههم على المشاركة، فلعلَّ مشاركة آحاد الخوارج مع جيش عمر بن سعد في حرب الإمام الحسين (ع) نشأ عن خوفهم من بطش الأمويين كما هو شأن الكثير ممن شارك الأمويين في حرب الحسين (ع)، على أنَّ العديد من المؤشِّرات التاريخيَّة تؤكد أنَّ عددًا وازنًا ممَّن يرونَ رأي الخوارج كانوا ضِمن المشاركين في حرب الحسين (ع) مع عمر بن سعد، وقد ذكرنا عددًا من المؤشِّرات في كتاب تساؤلات حول نهضة الحسين (ع) تحت عنوان: هل الشيعة هم من قتلَ الحسين (ع).

 

هذا وقد ذكر المحقق التستري (رحمه الله) منشأً آخر لاستبعاد مشاركة الرجلين في الانتصار للحسين (ع) وهو أنَّ رأي الخوارج في الحسين (ع) كرأيهم في أبيه أمير المؤمنين (ع) فكما أنَّهم ينصبون العداء لأمير المؤمنين (ع) ويستحلُّون وحربه ودمه كذلك فإنَّهم ينصبون العداء للحسين (ع) ويستحلُّون دمه فكيف يحاربونَ إلى جانبه ويدفعونَ عنه؟

 

إلا أنَّ هذا المنشأ لا يصلحُ أيضًا لاستبعاد مشاركة الرجلين في الحرب مع الحسين واستشهادهما بين يديه، فإنَّ الخوارج وإنْ كانوا كما أفاد (رحمه الله) إلا أنَّ ذلك لا يقتضي امتناع أنْ يتوب الخارجي ويتحوَّل عما يعتقدُه، فمشاركة الرجلين في الحرب مع الحسين (ع) لن يكون –لو صح أنَّهما من الخوارج– إلا بعد أنْ يُضمِرا التوبةَ الصادقة ويتحولا عمَّا كانا عليه من مُعتقَد، وليس ذلك بعزيز، فكثيرًا ما يتفق لبعض العصاة والبغاة والنواصب بل وللكفار الجاحدين المراجعة لِمَا هم عليه فيمنحهم الله تعالى لذلك البصيرة فيثوبون إلى رشدهم ويتوبون إلى ربِّهم.

 

وعليه فاستبعاد صحَّة ما ذكره الفضيل بن الزبير من عدِّ أبي الحتوف وأخيه من الشهداء لمجرَّد أنَّهما كانا من الخوارج ليس في محلِّه ظاهرًا، نعم لا يُمكن الجزم بأنَّ الرجلين كانا فيمَن استُشهد مع الحسين (ع) نظرًا لتفرُّد الفضيل بن الزبير بهذا الخبر وإنْ كان الظنُّ قويًّا في صحَّته بعد أنْ لم يكن له ما يُعارضه أو يمنع من القبول بوقوعه.

 

تنبيه:

أبو الحتوف الذي ورد اسمه فيمَن قتل شهيداً مع الحسين (ع) بعد توبته ليس هو  أبا الحتوف الجعفي الذي ذكر ابنُ أعثم الكوفي وابنُ شهراشوب (7) أنَّه رمى الحسين (ع) فأصابه في جبينه.

فأبو الحتوف هذا جعفي واسمُه عبد الرحمن بن زياد بن زهير الجعفي(8) وقيل اسمه زياد بن الرحمن الجعفي (9) وكان في الرجالة التي عليها شمر بن ذي الجوشن وهو ضِمن الخمسين رجلاً الذين أراد أن يقتحم بهم الشمرُ مخيَّمات الحسين (ع) قبل مقتله فمنعهم الإمام (ع) فتحلَّقوا حولَه فطلب الشمر من أبي الحتوف أنْ يبرز للحسين (ع) فقال له: وما يمنعك أنت من ذلك ؟ قال : أليَّ تقول هذا ؟ فقال له أبو الحتوف : هممتُ أنْ أُخضخض سناني في عينك (10) ثم أنَّهم هجموا عليه مجتمعين فكشفهم (روحي فداه).

وأبو الحتوف هذا كان ممَّن شارك بعد مقتل الحسين(ع) في السلب لأمتعة الإمام (ع) فكان نصيبُه من السلب جملاً كان يستقي عليه الحسين(ع) الماء(11).

هذا وأكثر المؤرِّخين يذكرون أنَّ اسمه أبو الجنوب (12) وليس أبا الحتوف، ولم أجد من سمَّاه أبا الحتوف سوى ابن شهراشوب وابن أعثم الكوفي- بحسب بعض النسخ، وتبعه الخوارزمي(13)، وعلى أي تقدير فهذا المخذول جعفيٌّ وأما الذي ورد اسمه في شهداء كربلاء فهو أبو الحتوف بن الحرث الأنصاري العجلاني أو العجلي .   

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

27 / ذو الحجَّة / 1443ه

27 / يوليو / 2022م

---------------------------

1- قاموس الرجال -الشيخ محمد تقي التستري- ج5 / ص28.

2- تسمية من قتل مع الحسين (ع) من ولده وإخوته وأهل بيته وشيعته -الفضيل بن زبير بن عمر بن درهم الرسَّان الكوفي الأسدي- مجلة تراثنا، ج2، مؤسسة آل البيت (ع)، ص154.

3- لاحظ الرجال -أحمد بن محمد بن خالد البرقي- ص24، رجال الطوسي -الطوسي- ص269، رجال ابن داود -ابن داود الحلِّي-، تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج2 / ص388.

4-الأمالي (الأمالي الخميسية)- يحيى بن حسين الحسني الشجري الجرجاني- ج1 / ص226.

5- الحدائق الوردية في مناقب الأئمة الزيدية- حميد بن أحمد المحلي- ج1 / ص229.

6- أعيان الشيعة -السيد الأمين- ج2 / ص319، تنقيح المقال في علم الرجال- الشيخ عبد الله المامقاني- ج2 / ص14 ونص كلامه: "سعد بن الحرث بن سلمة الأنصاري العجلاني ... وهذا الرجل هو أخو أبي الحتوف العجلاني، وكانا في الكوفة، رأيهما رأي الخوارج، فخرجا مع عمر بن سعد إلى حرب الحسين عليه السلام، فلمّا سمعا استنصاره وصريخ النساء والأطفال لسماع استنصاره، نالتهما الهداية الإلهية، وتوفيق السعادة، فقالا: إنّا نقول لا حكم إلّا للّه، ولا طاعة لمن عصاه، وهذا الحسين (ع) ابن بنت نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله، ونحن نرجو شفاعة جدّه يوم القيامة، فكيف نقاتله وهو بهذا الحال، نراه لا ناصر له ولا معين ..؟ ! فمالا بسيفهما بين يديه على أعدائه، وجعلا يقاتلان قريبا منه حتى قتلا جمعا وجرحا آخرين، ثم قتلا معا في مكان واحد رضوان اللّه عليهما".

7- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص258، مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص38.

8- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص202.

9- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص95.

10- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص202.

11-أنساب الأشراف -البلاذري- ج3/ ص204، اللباب في تهذيب الأنساب- ابن الأثير-ج3 / ص287.

12- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص202. تاريخ الطبري- الطبري- ج4 / ص344، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص77، اللباب في تهذيب الأنساب- ابن الأثير-ج3 / ص287، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص203.

13- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص258، مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص38.