رحمةُ الرسول (ص) ونجاحُ الدعوة
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ، والنِّعَمَ بِالشُّكْرِ، نَحْمَدُه عَلَى آلَائِه - كَمَا نَحْمَدُه عَلَى بَلَائِه - ونَسْتَعِينُه عَلَى هَذِه النُّفُوسِ الْبِطَاءِ - عَمَّا أُمِرَتْ بِه - السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْه - ونَسْتَغْفِرُه مِمَّا أَحَاطَ بِه عِلْمُه - وأَحْصَاه كِتَابُه، ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه - وأَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّه عَلَيْه وآلِه وسَلَّمَ عَبْدُه ورَسُولُه فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ - وشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ - وبَعِيثُكَ نِعْمَةً، ورَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً - اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَه مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ - واجْزِه مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ - اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَه - وأَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَه - وشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَه - وآتِه الْوَسِيلَةَ، وأَعْطِه السَّنَاءَ والْفَضِيلَةَ - واحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِه - غَيْرَ خَزَايَا ولَا نَادِمِينَ - ولَا نَاكِبِينَ ولَا نَاكِثِينَ - ولَا ضَالِّينَ ولَا مُضِلِّينَ ولَا مَفْتُونِينَ.
أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ - ونفسي- بِتَقْوَى اللَّه - وكَثْرَةِ حَمْدِه عَلَى آلَائِه إِلَيْكُمْ - ونَعْمَائِه عَلَيْكُمْ وبَلَائِه لَدَيْكُمْ - فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وتَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ - أَعْوَرْتُمْ لَه فَسَتَرَكُمْ وتَعَرَّضْتُمْ لأَخْذِه فَأَمْهَلَكُمْ
يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(1).
ثقافة المجتمع الذي بُعث فيه الرسول (ص):
هذه الآيةُ المباركة تُلقي ضوءً على سرِّ النجاحِ الاستثنائيِّ الذي حقَّقه الرسولُ الكريمُ (ص) في مدةٍ قياسيَّة تتجاوز العقدين بقليل. صدع الرسولُ محمد (ص) بالدعوةِ في مجتمعٍ يسودُه الجهلُ في جميعِ مفاصله دون استثناء، وفي تمامِ شؤونِه الخاصِّةِ والعامَّة، ويعتمدُ القسوةَ والعنفَ في تحقيق أغراضِه ومآربه، ويرى أنَّ القسوةَ والعنفَ والشدَّةَ والقوة هي أكمل صفاتِ الرجولة، وهي أعلى مراتبِ المروءة، لذلك كان هذا المجتمعُ يتفاخرُ بالفتك والبطش، ويعتبرُ ذلك من الحزم، ويرى أنَّ الرحمةَ والرأفةَ والتسامحَ من صفات الضعفاء، ولهذا كان الرعبُ والتوجُّسُ هو الشعورَ السائدَ في المجتمع، كُلٌّ يخشى من الآخر، تبيتُ القبيلةُ وهي تترقَّب أنْ تغزوَها أخرى في عُقر دارها، فلا تُبقي عليها ولا تذر، تسبي نساءَها، وتُصادرُ أموالَها، وتُحرِق ما يتبقَّى من أمتعتِها، ولذلك تأخذُ كلُّ قبيلةٍ أُهبة الاستعداد لأيِّ طارئٍ قد يطرأ.
كان الحوارُ والمجادلةُ بالتي هي أحسن من الخصال المستهجنة، لأنَّها تُعبِّر -في ثقافتهم- عن وهنِ المحاوِر وضعفِ مَن يقبلُ بالحوار، فهو لا يُحاوِر إلا حين يضعُف، ولا يفاوضُ في الأمرِ ولا يُشاورُ فيه إلا حين يشعرُ بالدونيةِ والصَغار، أمَّا حينما يكون قويَّاً فالعزَّةُ والتعقُّل يقتضيانِ -في نظره- المصارمةَ والفرضَ والإبرامَ الذي لا مساغ فيه للتراجع، هذه هي الثقافةُ السائدة، وهذا هو السلوكُ السائد.
الضعيفُ بينهم محتقَر، والفقيرُ بينهم منبوذ وكأنَّه معدومُ لا تُراعى له حرمة، ولا يُحسبُ له حساب، فهو كسائر الأنعام والأمتعةِ سواءً بسواء، ولهذا استضعفوا النساء، ولم يكونوا يعبئون بهن، وينتفعون منهنَّ كما يُنتفعُ من سائر الأمتعةِ والأموال.
هذا هو المجتمعُ الذي بُعِثَ فيه الرسول الكريم (ص)، فكيف استطاعَ وفي هذه المدةِ القياسية أن يُغيِّر من الجذر مجتمعاً تلك هي خصالُه وتلك هي ثقافتُه؟! مجتمعٌ كان يعبدُ ثلاثمائة وستين صنماً كانت منصوبةً في فناءِ الكعبةِ وعلى ظهرِها، مجتمعٌ كانت تسودُه الخرافات والأفكارُ البالية، كانوا يعتمدون الفأل والتشاؤم، ويتعرفون على الخير والشرِّ من طريقِ الاستقسام بالأزلام، فإذا أرادوا السفرَ أو أرادوا أنْ يشنُّوا حرباً فإنَّهم يستفتحون برفِّة طائرٍ أو حركة شاةٍ أو استقسامٍ بالأزلام أو استشارةٍ لصنمٍ بعد أن يذبحوا له الذبائح، وهكذا حينما يُريدون أنْ يحكموا على رجلٍ أو على امرأةٍ بالخير أو بالسوء، هذه هي ثقافةُ المجتمع، وهذا هو سلوك المجتمع الذي بُعث فيه الرسولُ الكريم (ص)، فكيف استطاعَ تغييرَه؟!
إذا أردنا أنْ نعرفَ مقامَ رسول الله (ص) وعلوَّ شأنِه وسموَّ خلقِه فلنقرأْ ما كان عليه المجتمعُ الذي بُعث فيه، ثم لنقارنَ بين الحالةِ التي كان عليها مجتمعُه قبل أنْ يُبعثَ إليهم والحالةَ التي أصبح عليها بعد أنْ مضى على مبعثه الشريف عقدانِ من الزمن، عندئذٍ سوف نقفُ على شيءٍ من واقعِ المقام السامي الذي كان يحظى به الرسولُ الكريم (ص).
هزيمة المسلمين في غزوة أُحد:
هذه الآيةُ التي تلوناها تُلقي ضوءً على منشأ نجاحِ الرسول (ص) في دعوته، وهي تتحدَّث عن مفصلٍ مهمٍّ من مفاصل تاريخ الدعوة، لأنَّ هذه الآيةَ الشريفة -كما يذكرُ المفسِّرون- نزلت بعد هزيمةِ المسلمين في غزوة أُحد، فالمسلمونَ فيها قد انهزموا وتفرَّقوا عن الرسول (ص) وهو في قلب المعركة يُواجهُ جيشاً موتوراً كان قد هُزِم في غزوة بدر، يُريدُ أن ينتقمَ لنفسِه ولكبريائه الذي تمرَّغَ في الوحلِ يوم بدر، فهو في الوقت الذي لا تنقصُه الدوافعُ لاستئصال رسول الله (ص) والاجهازِ على دعوته، هم على ذاكرةٍ قريبة من رجالاتِهم الذين قد تمَّت تصفيتُهم في معركة بدرٍ قبل عام، وقد حانت الفرصةُ للانتقام وأخذِ الثأر، فرسولُ الله (ص) أصبحَ بين أيديهم ولا حاميَ له، فمعظمُ المسلمين قد انهزموا من بين يديه في معركة أُحد، يميناً، شمالاً، لا يلوي أحدُهم على شيء. والرسولُ (ص) يدعوهم في أُخراهم، يعني أنَّه كان يُنادي فيهم أنْ اثبتوا، واصمدوا، ولا تفرُّوا، ولا تنهزموا، لكنَّ خطابَه يسمعُ أولَه أولُهم ولا يسمعُ آخرَه إلا آخرُ الفارِّين، ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾(2) فقوله تعالى: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ فيه تعبيرٌ عن تسارعِهم في الهزيمة حتى أنَّ أولَ كلامَه يسمعُه الأولُ منهم ولكنَّه لا يسمعُ آخرَ كلامه لأنَّه قد ذهب بعيداً، فلا يسمعُ آخرَ كلامه إلا مَن كان في آخر فلول الفارِّين، فبقي رسولُ الله (ص) في قلب المعركة وحوله رجالٌ لا يتجاوزون السبعة، في طليعتِهم عليُّ بن أبي طالب (ع) والذي أشاد بثباته واستماتته جبرئيلُ فأخذ ينادي بين السماء والأرض "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي"(3).
بعد أن انتهت المعركة، وقُتل من المسلمين قرابة السبعين، وكان منشأُ الهزيمة بعد أنْ كان المسلمون قد تقدَّموا في مواقعِهم وبانت بوادرُ النصر، فرايةُ قريش كانت في يدِ بني عبد الدار فكانوا هم حملةَ اللواء من طرف المشركين، فتقدَّم عليُّ بن أبي طالبٍ (ع) إلى حامل اللواء من بني عبد الدار، فقتله، فبرز أخوه من بعده فقتله علي (ع) فتقدم ثالثٌ فأجهز عليه عليٌّ (ع) حتى قام سبعةٌ منهم وقيل أكثر فقُتِلوا، فانكسر الجيشُ القرشي، لأنَّ زعامته قد أُبيدت بسيف عليً(ع). ثم إنَّه وبعد مناوشاتٍ، وجدَ المشركون أنْ لا طاقة لهم على الثبات فانهزموا.
لكنَّ الذي وقع فتسبَّب في هزيمة المسلمين بعد أن كانت لهم الغلبة هو أنَّ الرماة خالفوا أمراً استراتيجياً للرسول (ص)، إذ أنَّ الرسول الكريم(ص) كان قد وضع على الجبل عدداً من الرماة، يحمون ظهر المسلمين أمرهم بعدم إخلاء مواقعِهم على كلِّ حال، وأفاد (ص) بالمضمون: لو وجدتمونا نُباد فلا تنزلوا، وكذلك لو وجدتمونا نقتسم الغنائمَ فلا تنزلوا، واعتصِموا في مواقعِكم حتى تحموا ظهور المُقاتلين، إلا أنَّهم حين وجدوا المسلمين بعد هزيمة المشركين قد بدأوا يجمعون ما تساقط من أمتعة المشركين وسلاحِهم وكراعِهم وإبلِهم وأفراسهم وسُرُجهم وغيرها، قالوا: إنْ بقينا في هذا الموقع لم نغنم شيئاً ممَّا غنِمه المسلمون ولذلك نزلوا أو نزل أكثرُهم .
وكان ثمة كتيبةٌ للمشركين لم تُشارك في المعركة وظلَّت تتربَّصُ وتُراقبُ ما تؤول إليه الأمور، فحين وجدوا أنَّ المسلمين قد اشتغلوا بجمع الغنائم باغتوهم، فنزلوا من جهة ظهر المسلمين فأخذوا يضربون فيهم وهم لا يُقاومون، فلم يكن من سبيلٍ سوى الهزيمةِ والفرار، وآبَ الذين انهزموا من المشركين فحاصروا المسلمين في أكثرِ من جهة، ففرَّ المسلمون على وجوههم أشتاتاً لا يلوون على شيء وبقي الرسولُ (ص) في عددٍ يسيرٍ من المسلمين في قلب المعركة يُقاتلُ حتى شُجَّ في وجهِه الشريف وأدميت رباعيته، وأُصيبت جبهتُه بجراحةٍ بليغة فأخذ ينزفُ من أكثر من موقعٍ من جسده الشريف (ص)، بعد أن قُتِلَ من المسلمين قرابة السبعين، أكثرُهم من الأنصار، والذين قُتِلوا من المهاجرين أربعة: على رأسهم حمزةُ سيدُ الشهداء، ومصعبُ بن عمير، واثنان. وهذا ما يُعبِّر أو يُشير إلى أنَّ أول الهزيمةِ كانت في المهاجرين.
وانتهت المعركةُ بعد أنْ فقد الرسولُ (ص) واحداً من أكبر قادة المسلمين الحربيين وهو حمزةُ بن عبد المطلب سيد الشهداء وفقد قائداً آخر كان شابَّاً قويَّاً وعلى درجةٍ عالية من الرسوخ في الإيمان وهو مصعب بن عمير الداري كما خسر العديدَ من الأبطال
عوامل الغيظ والغضب عند القائد متوافرة:
فكانت عواملُ الغيظ والغضب عند الرسول (ص) متوافرة، فهم أولاً قد خالفوا أوامره فكانوا سبباً في الهزيمة ثم إنَّه كان عليهم الثباتُ والصمود وتحمُّلُ أعباء ما طرأ نتيجةَ المخالفة للأوامر، لكنَّهم لم يصمدوا، بل انهزموا فكانت الخسارةُ فادحةً.
فعواملُ الغضبِ والغيظ، متوافرة، ولهذا تجدون القادة الحربيين في كلِّ الدنيا يُعالجون مثل هذه الأخطاء الفادحة بتوجيه تُهمة الخيانةِ العظمى لأمثال هؤلاء فيعرضونهم على القضاء، وقد ينتهي الحكم على بعضهم إلى الإعدام، هذا ما يفعله كلُّ قائدٍ واجه هزيمةً نشأت عن مخالفةٍ لأوامرَ عسكريةٍ صارمةٍ واستراتيجية.
سرُّ النجاح الاستثنائي:
لكنَّ الرسولَ (ص) لم يفعل ذلك، بل كانت ردةُ الفعل التي أبداها الرسولُ (ص) على خلاف ما يفعلُه القادة الآخرون، فلم يكن منه إلا التسليةُ لهم والتسكينُ لخواطرهم، وقد أشاد القرآنُ بهذا الخُلقِ الرفيع الذي عالجَ به الرسولُ (ص) آثارَ الهزيمة التي وقعت لأصحابِه، فقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ فهؤلاء الذين انهزموا عادوا فاستداروا حولَ الرسول (ص) بعد انتهاء المعركة وبعد أنْ وضعتِ الحربُ أوزارَها فأخذ بعضُهم يعتذرُ عن تقصيره، والبعضُ الآخرُ يسألُ الرسولَ (ص) أنْ يستغفرَ له، وأخذ بعضُهم يُبرِّرُ فرارَه بما يتوهَّمُ أنَّ في ذلك عذراً له عند الله تعالى، وأمَّا بعضُهم فلم يرجع إلا بعد ثلاثة أيام، فكان المنتظَر هو أنْ يُوبِّخه الرسولُ (ص) بشدِّة لكنَّه لم يزد على أنْ قال له: ذهبتَ بها عريضة، يعني أنَّ بعضَهم صعد الجبال، وفرَّ آخرون في الشعاب ثم لما انتهت المعركةُ رجعوا، وأمَّا هذا الرجل فلم يشعر بالاطمئنان إلا بعد أن ابتعد عن ساحة المعركة مسافةً يحتاجُ معها إلى ثلاثةِ أيام لكي يرجع، فهو قد ذهب بها عريضة، وكان يكفيه للنجاة أنْ يصعد جبلاً من تلك الجبال.
فكان المنتظَرُ من الرسول (ص) على أقلِّ تقدير أن يطرد بعضَ هؤلاء، ويُغلظَ على آخرين لكنِّه لم يفعل، ومنشأُ ذلك هو ما كان عليه الرسولُ (ص) من الرحمة التي أودعَها اللهُ عزَّوجل في قلبِه، واللينِ الذي كان يتعاطى به في جميع شؤونه إلا ما اقتضت المصلحةُ فيه إلى الشدَّة لكنَّها لم تكن تلك هي السلوكَ العام للرسول (ص)
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾
فالآية كأنَّها تُشير إلى أنَّ رفق الرسول (ص) بأصحابه وتنزُّهَ لسانِه عن الفظاظة لم يكن منشؤه حساباتٍ سياسية. لأنَّه كثيراً ما يتَّفقُ استعمال القائد أو الرئيس للألفاظ الهادئة والمناسبة لمقتضى الرفق واللين لا لأنَّ طبيعته تدفعُه لذلك بل لأنَّ المصلحةَ بنظره تستوجبُ الحديثَ بهذه اللغة، فهو يستعملُ في هذا الموقف أو في ذاك الموقع أعذبَ الألفاظ وأجملها ولكنَّ واقعَه ينطوي على قلبٍ قد امتلأ بالقسوة والشدَّة لذلك فهو على استعدادٍ في أيِّ لحظة لأن يُمارس العنفَ في الكلام والعنف في السلوك.
فالآيةُ المباركة تُريد الإشارة إلى أنَّ المنبعَ والباعثَ للرسول (ص) على ما يُبديه من رفقٍ في لسانه هو أنَّ قلبَه كان يفيضُ بالرحمة والعطف، فلم يكن المنشأ من اللين في الكلام هو الحساباتِ السياسية والمصالح الشخصية أو الحزبية أو غيرها، بل كان المنشأ ذاتياً أيَّ أنَّ ما يظهرُ عليه من الرفقِ واللينِ ينشأ عن مقتضى طبيعته وجبلَّته، فلأنَّ قلبَه كان رؤوفاً رحيماً لذلك فهو سمحٌ في لسانه سمحٌ في تعامله، كان ينظرُ لأصحابه المنهزمين بعين الشفقة ويرى بأنَّهم ضعفاء يحتاجون إلى مَن يرفقُ بهم ويُشفِقُ عليهم، فلم يكن ينظرُ لما وقع من زاوية أنَّها هزيمةٌ نكراء تسبَّب في وقوعِها هؤلاء بل كان ينظرُ لِما وقع من زاويةِ أنَّ هؤلاء المنهزمين إنَّما انهزموا لضعفِهم، فهم بحاجةٍ إلى مَن يواسيهم ويبعثُ فيهم روح الثقةِ والعزيمة، فهم يعيشون حالة من الانهزاميَّة تبعثُ في نفوسهم شعوراً بالانكسار والحسرة والخجل وفقدانِ الثقة بالنفس، فمثلُ هؤلاء بحاجةٍ إلى الرأفةِ بهم والعطفِ عليهم، وهم في أمسِّ الحاجة إلى أنْ تُلملم جراحاتُهم وأن تُقوَّى عزائمُهم، وأنْ يشدَّ الرسولُ (ص) على أيديهم ويُعيد إليهم ما فقدوه من الثقة بأنفسِهم، لذلك فهو لم يُوبخهم ولا عنَّف لهم في القول، لأنَّه نظر إلى ما وقع بالمنظار الإنساني، وذلك هو النظرُ السوي الذي يتناغمُ ومقتضياتِ الخُلُقِ الرفيع.
ولهذا كانوا -أعني الصادقين- ملازمين له، ولم ينفضُّوا من حوله حتى أنَّه ورد أنَّ رجلاً من أعيان المشركين اتَّفق له الدخول على قيصر في الشام فسأله قيصرٌ عدداُ من الأسئلة فكان فيما سأله إياه: هل يخرجُ من دين محمد (ص) من دخل فيه؟ فأجابه أنَّه لم يجد أحداً دخل في دينِ محمدٍ (ص) ثم خرج منه.
فعلِم قيصرُ أنَّ لمحمدٍ (ص) جاذبيةً خاصة تفوقُ التصوُّر، لأنَّ العادة قاضيةٌ بأنْ يُبادر الناس للدخول في دينٍ أو حزب لأنَّهم سمعوا أنَّه يدعو للقيم والمثل الرفيعة ثم يكتشفون بعد مكثهم زمناً تحت رايته أنَّ تلك القيم لم تكن سوى شعاراتٍ لا واقع لها، لذلك فهم يتمردون على ذلك الدين.
يقول هذا القرشي المشرك لقيصر: ما رأيتُ أحداً دخل في دين هذا الرجل ثم خرج منه. بل وجدتُهم يزدادون مع الزمن تمسكاً به وثباتاً عليه وإنَّ أحدهم ليضحي بما عنده من أجل هذا الدين.
ماذا وجدوا في هذا الدين؟
وجدوه يُناغي فطرتهم ومشاعرهم فعشقوه وأحبُّوه، وحينما ينتابُهم الضعفُ والوهن يجدون قلباً رحيماً ويداً حانيةً من رسول الله (ص) تأخذُ بأيدييهم وتشدُّ من عزائمهم وتُنعش أرواحَهم التي طالما أذلَّها الاستضعاف وتبعثُ فيهم أملاً كانوا قد يئسوا من بلوغِه.
هذه هي الصورة التي يُقدِّمها القرآنُ عن الرسول (ص) وذلك هو الواقع الذي كان عليه الرسولُ (ص) يفيضُ قلبُه حناناً وعطفاً ورحمة.
إذن لماذا يظهرُ الرسول (ص) في الثقافة الغربية بمظهر الرجل الإرهابي؟
إنَّ لذلك منشئين أساسيين:
المنشأ الأول: هو السلوك الذي يتعاطاه الكثير من المسلمين. هؤلاء لم يقتفوا بسيرة الرسول (ص) ولا يعتمدون سنَّته كما يزعمون وإنَّما يعتمدون سيرة مَن يرونهم سلفاً لهم، ويصفونهم بالصلاح، والحال أنَّ الكثيرَ من هؤلاءِ السلفِ كانوا سلفاً فاسداً لا يمتُّون للنبيِّ (ص) بصلة، فلم يكن سلوكُ النبيِّ الكريم (ص) هو العنفَ والقسوة والغلظة كما هو سلوك هؤلاء السلف.
هؤلاء -الذين يعتمدون العنفَ وسيلةً للوصول إلى مآربهم- يعتبرون الحجَّاج بن يوسف الثقفي من السلف، وأنَّه شديدٌ في ذات الله، فإذا كان الحجَّاجُ المولعُ بسفك الدماء هو سلفَهم وهو مقتداهم فبطبيعة الحال سوفَ يتعاطون مع من يختلفون معه كما كان يتعاطاه سلفُهم، فسلفهم ليس هو الرسول (ص) الذي وصفه القرآن بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾. ووصفه في آيةٍ أخرى بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(4).
خالد القسري يذبح الجعد بن درهم:
هؤلاء سلَفُهم مثلُ خالد القسري الذي كان ينحرُ ويذبح لمجرَّد الاختلاف في الرؤى والمسائل الاعتقادية التي تُعتبر ثانوية في الدين، يصعدُ هذا الرجل على المنبر يوم عيد الأضحى فيقول: أيُّها الناس ضحوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإنِّي في هذا اليوم مضحٍّ بالجعد بن درهم، هذا الرجل -بحسب ادِّعائهم- كانت عنده بعض الانحرافات العقائدية، فهو يختلفُ معهم في مسائلَ ليست من أُصول العقيدة -أو هكذا يرى- هذا الأمر صحَّح بنظرِهم التضحيةَ به، ولكن كيف سيُضحِّي خالدٌ القسري بالجعد بن درهم؟! نزل مِن على المنبر واقتاد الرجل كما تُقاد الشاة على مرأىً من الناس فذبحَه عند أصل المنبر كما تُذبح الشاة، تلك كانت أضحيتُه يوم عيد الأضحى، هذا هو السلف الصالح لهؤلاء، لذلك فهم ينحرون كلَّ مَن يختلفون معه.
مقتلُ حجر بن عدي:
وكان من سلفهم زعيمُ البيتِ الأموي بل هو في طليعة السلف، هذا الرجلُ يقتادُ حجر بن عدي وسبعةً من خيار المسلمين، فيحفرُ لهم ثم يُخيِّرهم بين البراءةِ من علي (ع) أو القتلِ صبراً، فحين أبى حِجرٌ (رحمه الله) البراءةَ من عليٍّ (ع) ضُربت عنقُه بالسيف وأُلقيتْ جثَّته ورأسُه المتدحرجُ في تلك الحفرة بعد أن فعلوا ذلك بولده أمامَ عينيه، لم يكن لهذا الرجلِ الصالح الذي كان يدأب على الصيام ولا يكاد ينامُ الليل متهجدا لله تعالى لم يكن له من ذنبٍ سوى انَّه كان من شيعة عليٍّ (ع) فذلك هو ما سوَّغ لهم قتلَه وقتل أصحابِه على تلك الهيئةِ البشعة والشنيعة.
إذن لا تستغربوا إذا شاهدتم ما يرتكبه خَلَفُ هؤلاء من العنف والقسوة بحقِّ مَن يختلفُ معهم من المسلمين تحت ذريعة الضلال والبدعة، لا تستغربوا فإنَّ لهؤلاء سلَفاً يقتدون بهم، هذا هو المنشأ الأول.
والمنشأ الآخر: هي الأخبار التي نسبوها للرسول الكريم (ص) من أجل أن يُبرِّروا عنفهم وقسوتَهم، فهم كانوا يضعون الأحاديثَ على الرسول (ص) ليُضْفوا الشرعية على عنفهم وقسوتهم وبغيهم وعدوانِهم على الناس.
فمِن تلك الأحاديث ما روي عن أنس بن مالك قال: إنَّ رجالاً جاؤوا إلى المدينة في عهد رسول الله (ص) فأعلنوا إسلامهم، فاجتوتْهم المدينة، أي أنَّ أجواءها لم تُناسبْهم فأصابتهم الحمى وأصابهم الهُزال فجاؤوا إلى الرسول (ص) يشكون إليه حالَهم فقال لهم: اذهبوا إلى أطراف المدينة هناك حيثُ إبل الصدقة، فاشربوا من ألبانها حتى تؤوبَ إليكم عافيتُكم، يقول أنس: فذهبوا حيثُ أمرهم فشربوا من ألبان الإبل، فحين صحتْ أبدانُهم عمدوا إلى راعي إبلِ الصدقة فقتلوه، واستاقوا الإبل، فبلغَ ذلك الرسولَ (ص)، فبعثَ إليهم سريةً قبضتْ عليهم، وهم كانوا ستة أو خمسة، فجيء بهم للرسول (ص) فأمر باقتيادهم إلى منطقةٍ في المدينة تُسمَّى الحرة، ثم أمر بقطع أيديهم، فقُطِعَت، وأمرَ بقطع أرجلِهم، فقُطِعَت أرجلُهم، ثم أمر بأنْ يحموا على النار مساميرَ من الحديد، وبعد أن صارتْ كالجمر أمرَ بأنْ تُسملَ بها أعينُهم، فسُمِلت أعينُهم، ثم أمر بتركِهم ينزفون في لهبِ الشمس يستسقون فلا يُسقون، فكانوا يلهثون ويعضُّون الحجارة من الظمأ، إلى أنْ ماتوا على تلك الحال، هل هذه هي أخلاقُ الرسول (ص)؟!!.
مثل هذه الرواية -التي أوردتها كتبُ الصحاح وأوردَها أصحابُ السُننِ والمسانيد(5)- حين يقرأها المتربِّصون للإسلام فإنَّهم يجدون فيها ما يُبرِّرون به اتَّهامهم للرسول الكريم (ص) بأنَّه رجلٌ ارهابي، إذ لا يتفهَّم أحدٌ كلَّ هذه القسوة والتنكيل تحت ذريعة العقوبة والتأديب. فبمثلِ هذه الرواية يتمسَّكُ المتَّهمون للإسلام بالإرهاب وبمثل هذه الرواية يُبرِّر هؤلاء المتزمتون قسوتهم وتنكيلهم بكلِّ مَن يختلفُ معهم في الرأي والمذهب.
فإذن ثمة سببانِ أساسيان نشأ عنهما إظهار الرسولِ (ص) في مظهر الإرهابي في الثقافة الغربية:
الأول: هو الأحاديث الموضوعة التي اختلقها الرواة لتبرير سياساتِ حكامِ الجور، وإضفاء الشرعيَّة على ما كانوا يُمارسونه مع معارضيهم من عنفٍ وقسوة.
الثاني: هو السلوك الذي يُمارسُه المتطرِّفون من المسلمين مع الآخرين ومع مَن يختلفون معهم، فذلك كان سبباً في تشويه الصورة المشرقة والناصعة للرسول الكريم (ص).
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(6)
والحمد لله ربِّ العالمين
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
26 من صفر 1444هـ - الموافق 23 سبتمبر 2022م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
1- سورة آل عمران / 159.
2- سورة آل عمران / 153.
3- الكافي -الكليني- ج8 / ص110، الأمالي -الصدوق- ص268، الخصال -الصدوق- ص 550، علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص7، عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص81، معاني الأخبار- الصدوق- ص63، الإرشاد -المفيد- ج1 / ص84، الأمالي- الطوسي- ص143.
4- سورة التوبة / 128.
5- صحيح البخاري- البخاري- ج4/ ص22، ج8 / ص19، ج2/ ص137، ج5 / ص70، ج7 / ص13، سنن أبي داود- السجستاني- ج2 / ص331، مسند أحمد -أحمد ين حنبل- ج3 / ص170، 233، 290.
6- سورة الكوثر / 1-3.