اصطناع المعروف لغير أهلِه

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

وردت رواياتٌ عديدة مفادها أنَّ اصطناع المعروف لغير أهلِه تضييعٌ للمعروف، فمِن ذلك الحديث النبوي الشريف:"أربعة يذهبنَ ضياعاً منها: الصنيعة عند غير اهلها"(1) وفي المقابل وردتْ رواياتٌ عديدة عن أهل البيت (ع) تأمرُ باصطناع المعروف لمَن هو أهله وإلى مَن ليس أهله، فكيف نُعالج هذا التعارض بين الروايات؟

 

الجواب:

ليس بين الطائفتين من الروايات تعارضُ وتنافٍ، فالرواياتُ التي أفادت أنَّ اصطناع المعروف لغير أهله تضييعٌ للمعروف، هذه الروايات تتحدَّث عن اصطناع المعروف لمَن عُلم مِن حاله أنَّه من غير أهله، ففي مثل هذا الفرض يكون إسداء المعروف مرجوحٌ وتضييعٌ للمعروف ووضعٌ له في غير موضعِه.

 

وأمَّا الروايات التي مفادُها الأمر باصطناع المعروف "إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنْ كَانَ أَهْلَه وإِلَّا فَأَنْتَ أَهْلُه" فهي بصدد الأمر باصطناع المعروف لمَن لا يُعلم حاله، أي أنَّ مؤدَّى هذه الروايات -ظاهراً- هو أنَّه لا ينبغي أنْ يمنعك من إسداء المعروف لأحدٍ عدمُ المعرفة بحاله وواقعِه وأنَّه أهلٌ للمعروف أو لا بل ينبغي أنْ تُسدي إليه المعروف وإنْ لم تعلمْ أنَّه من أهله، فإنْ اتَّفق أنَّه من أهل المعروف واقعاً فهذا ما كنتَ ترجو وإنْ اتَّفق أنَّه لم يكن أهلاً للمعروف فلا يضيرُك ذلك، لأنَّك فعلتَ ما يتناسبُ مع مقتضيات الخُلق الرفيع، إذ لولم تُسدِ إليه المعروف وكان واقعاً من أهل المعروف فإنَّك قد فوَّتَ على نفسك بركة إسداء المعروف لأهله.

 

فالأمرُ بإسداء المعروف لمجهولِ الحال غرضُه إدراك فعل المعروف لأهل المعروف الذي لا يُمكن التوصُّل إليه في فرض الجهل إلا بإسداء المعروف مطلقاً خشية أن يفوتك اصطناع المعروف لأهله لو اتَّفق أنَّه من أهل المعروف واقعاً.

 

هذا هو مفاد مثل معتبرة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "اصْنَعُوا الْمَعْرُوفَ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ أَهْلَه وإِلَّا فَأَنْتَ أَهْلُه"(2).

 

وكذلك هو مفاد ما رُوي عن الإمام عن الرضا (ع) عن آبائه، عن الإمام عليٍّ (عليهم السلام) عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: "اصطنع المعروف إلى أهله وإلى غير أهله، فإنْ كان أهله فهو أهله، وإنْ لم يكن أهلَه فأنتَ أهلُه"(3).

 

يعني اصنع المعروف دون أنْ يمنعَك عن ذلك الجهل بواقع حال مَن تصنع المعروف له، فإنْ كان من أهل المعروف فقد وضعتَ المعروف في موضعه وإنْ اتَّفق أنَّه لم يكنْ مِن أهل المعروف فقد فعلتَ ما يناسب مقتضى الخلقك وهو الحرص على إسداء المعروف لأهله.

 

وبتعبير آخر: إنَّ الروايات الآمرة بإسداء المعروف لكلِّ أحد مفادها الحثُّ على صنيعة المعروف حتى لمَن تجهل أنَّه من أهل المعروف، إذ لعلَه من أهل المعروف، فالغرضُ من إسداء المعروف للمجهول هو الحرص على عدم فوات صنيعة المعروف لأهله، إذ قد يتَّفق أنَّ هذا المجهول من أهل المعروف واقعاً.

 

وأمَّا الروايات التي أفادت أنَّ اصطناع المعروف لغير أهله تضييعٌ للمعروف ووضعٌ له في غير موضعِه فهي بصدد التحذير من اصطناع المعروف لمَن عُلم من حاله أنَّه من غير أهل المعروف، وأنَّه ممَّن لا يستحقُّ المعروف.

 

والذي يُؤيِّد أنَّ موضوع الروايات المحذِّرة من اصطناع المعروف لغير أهل المعروف هو خصوص المعلوم مِن حالِه أنَّه مِن غير أهل المعروف الذي يُؤيدُ ذلك هو بيان عددٍ من هذه الروايات منشأ التحذير مِن اصطناع المعروف لغير أهلِه.

 

فمِن ذلك ما أورده الكليني بسندٍ له قَالَ: أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْه رَهْطٌ مِنَ الشِّيعَةِ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَخْرَجْتَ هَذِه الأَمْوَالَ فَفَرَّقْتَهَا فِي هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ والأَشْرَافِ وفَضَّلْتَهُمْ عَلَيْنَا حَتَّى إِذَا اسْتَوْسَقَتِ الأُمُورُ عُدْتَ إِلَى أَفْضَلِ مَا عَوَّدَكَ اللَّه مِنَ الْقَسْمِ بِالسَّوِيَّةِ والْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) أتَأْمُرُونِّي وَيْحَكُمْ أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالظُّلْمِ والْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْه مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لَا واللَّه لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَا سَمَرَ السَّمِيرُ ومَا رَأَيْتُ فِي السَّمَاءِ نَجْماً .. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَه فَقَالَ: مَنْ كَانَ فِيكُمْ لَه مَالٌ فَإِيَّاه والْفَسَادَ فَإِنَّ إِعْطَاءَه فِي غَيْرِ حَقِّه تَبْذِيرٌ وإِسْرَافٌ وهُوَ يَرْفَعُ ذِكْرَ صَاحِبِه فِي النَّاسِ ويَضَعُه عِنْدَ اللَّه، ولَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَه فِي غَيْرِ حَقِّه وعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِه إِلَّا حَرَمَه اللَّه شُكْرَهُمْ وكَانَ لِغَيْرِه وُدُّهُمْ فَإِنْ بَقِيَ مَعَه مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ مِمَّنْ يُظْهِرُ الشُّكْرَ لَه ويُرِيه النُّصْحَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَلَقٌ مِنْه وكَذِبٌ، فَإِنْ زَلَّتْ بِصَاحِبِهِمُ النَّعْلُ ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ ومُكَافَأَتِهِمْ فَأَلأَمُ خَلِيلٍ وشَرُّ خَدِينٍ ولَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَه فِي غَيْرِ حَقِّه وعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِه إِلَّا لَمْ يَكُنْ لَه مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أُتِيَ إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وثَنَاءُ الأَشْرَارِ مَا دَامَ عَلَيْه مُنْعِماً مُفْضِلاً ومَقَالَةُ الْجَاهِلِ مَا أَجْوَدَه وهُوَ عِنْدَ اللَّه بَخِيلٌ، فَأَيُّ حَظٌّ أَبْوَرُ وأَخْسَرُ مِنْ هَذَا الْحَظِّ وأَيُّ فَائِدَةِ مَعْرُوفٍ أَقَلُّ مِنْ هَذَا الْمَعْرُوفِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَه مَالٌ فَلْيَصِلْ بِه الْقَرَابَةَ ولْيُحْسِنْ مِنْه الضِّيَافَةَ ولْيَفُكَّ بِه الْعَانِيَ والأَسِيرَ وابْنَ السَّبِيلِ فَإِنَّ الْفَوْزَ بِهَذِه الْخِصَالِ مَكَارِمُ الدُّنْيَا وشَرَفُ الآخِرَةِ"(4).

 

فالواضحُ من مَساق الرواية وممَّا أفاده الإمام (ع) في مقام بيان المنشأ والحكمة من النهي عن اصطناع المعروف لغير أهله، الواضح من كلِّ ذلك هو أنَّ مورد التحذير هو مَن عُلِمَ مِن حاله أنَّه مِن غير أهل المعروف، فهذا هو الذي تنهى الرواية عن إسداء المعروف له.

 

فالشيعة -بحسب الرواية- اقترحوا على الإمام (ع) أن يُنفِقَ ما تحته من الأموال على الرؤساء والأشراف ليستميلهم إلى جانبه فامتنع مِن ذلك أشدَّ الامتناع ثم تصدَّى(ع) بعد ذلك لنصيحة المقترحِين وأفاد "مَنْ كَانَ فِيكُمْ لَه مَالٌ فَإِيَّاه والْفَسَادَ فَإِنَّ إِعْطَاءَه فِي غَيْرِ حَقِّه تَبْذِيرٌ وإِسْرَافٌ وهُوَ يَرْفَعُ ذِكْرَ صَاحِبِه فِي النَّاسِ ويَضَعُه عِنْدَ اللَّه، ولَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَه فِي غَيْرِ حَقِّه وعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِه إِلَّا حَرَمَه اللَّه شُكْرَهُمْ .." فاعتبر وضع المال في غير حقِّه وعند غير أهلِه من الفساد والتبذير والاسراف، وأنَّه قد يرفعُ شأنَ صاحبِه عند الناس ولكنَّه يكونُ عند الله تعالى وضيعاً ثم أفاد (ع) أنَّ الذي يصنعُ المعروف لغير أهله بُغيةَ مودتهم وشكرهم يحرمُه الله تعالى في المآل من شكرهم ومودَّتهم، فإذا تظاهروا بالشكر فهو لا يعدو الكذب والتملُّق.

 

ثم قال (ع): "ولَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَه فِي غَيْرِ حَقِّه وعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِه إِلَّا لَمْ يَكُنْ لَه مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أُتِيَ إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وثَنَاءُ الأَشْرَارِ مَا دَامَ عَلَيْه مُنْعِماً مُفْضِلاً".

 

فالواضحُ من الرواية الشريفة هو التصدِّي للتحذير من اصطناع المعروف لمَن عُلم من حالهم أنَّهم من الأشرار واللئام الذي لا يجني مصطنِع المعروف لهم سوى التملُّق والشكر الكاذب والذي ينقطع بانقطاع الإنعام والتفضُّل عليهم، فلا يُنتظر من مثلِهم مؤازرة ومعونة في ظرف الحاجةِ لهم.

 

ومن الروايات المحذِّرة من اصطناع المعروف لغير أهله معتبرة سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) لِمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ: يَا مُفَضَّلُ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أشَقِيٌّ الرَّجُلُ أَمْ سَعِيدٌ فَانْظُرْ سَيْبَه ومَعْرُوفَه إِلَى مَنْ يَصْنَعُه فَإِنْ كَانَ يَصْنَعُه إِلَى مَنْ هُوَ أَهْلُه فَاعْلَمْ أَنَّه إِلَى خَيْرٍ وإِنْ كَانَ يَصْنَعُه إِلَى غَيْرِ أَهْلِه فَاعْلَمْ أَنَّه لَيْسَ لَه عِنْدَ اللَّه خَيْرٌ"(5).

 

فإنَّ الواضح من هذه الرواية الشريفة هي التحذير من اصطناع المعروف لمَن عُلم مِن حاله أنَّه من غير أهل المعروف، وذلك بقرينة أنَّ الإمام (ع) كان بصدد إعطاء الضابطة التي يُعرفُ منها شقاء الرجل وأنَّه ممَّن ليس له خيرٌ عند الله تعالى، فأفاد أنَّ الشقيَّ هو مَن يضعُ سيبَه ومعروفَه في غير أهلِه فذلك هو الشقيُّ الذي ليس له عند الله خير، ومن الواضح البيِّن أنَّ الانسان لا يكون شقيَّاً محروماً من خير الله تعالى لو كان يضع معروفه عند أهل المعروف أو عند من يأملُ أنَّهم من أهل المعروف فالمتعيَّن هو أنَّ الشقيَّ المحروم هو مَن يضع معروفه فيمَن يعلم أنَّهم ليسوا مِن أهل المعروف طمعاً في استمالتهم وشكرهم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

 

الشيخ محمد صنقور

22 / ربيع الأول / 1444ه

19 / أكتوبر / 2022م

----------------------------------------

1- الخصال -الشيخ الصدوق- ص264.

2- الكافي -الكليني- ج4 / ص27.

3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج16 / ص265، عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص74.

4- الكافي -الكليني- ج4 / ص32

5- الكافي -الكليني- ج4 / ص30.