﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ..﴾ -1

 

أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِه، وجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِه لِنَكُونَ لإِحْسَانِه مِنَ الشَّاكِرِينَ، ولِيَجْزِيَنَا عَلَى ذَلِكَ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ، والْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي حَبَانَا بِدِينِه، واخْتَصَّنَا بِمِلَّتِه، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهً إِلَّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ.

 

عِبَادَ اللَّهِ اتقوا الله وزِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا، وتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ، وانْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ، واعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وزَاجِرٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ ولَا وَاعِظٌ.

 

يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ / وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(1).

 

الآيتان من سورة القَصص والحديثُ حولهما يقع في محاور:

التعريف الإجمالي بقارون وبثروته:

المحور الأول: تصدَّت الآيةُ الأولى للتعريف الإجمالي بقارونَ وأفادت أنَّه كان من قوم موسى، أي أنَّه كان من بني إسرائيل، والواضحُ من الآيتين أنَّه كان ممَّن آمن بموسى (ع) وقد ورد في بعض المأثورات أنَّ نسبَه كان قريباً من موسى(ع) وأنَّه كان ممَّن يحفظُ التوراة، وكان صوته في تلاوتها من أجمل الأصوات، فكان لذلك يسمَّى بالمنِّور لِما لحُسنِ تلاوته من تأثير على قلوب مستمعيه، وكان ضمنَ السبعين الذين اختارهم موسى (ع) لميقاتِ ربِّه ليسمعوا كلام اللهَ تعالى عند الطور فيشهدونَ له بذلك عند بني إسرائيل كما قال تعالى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا﴾ فكان كما يظهرُ من بعض الروايات من صفوة بني إسرائيل وخيارهم. إلا أنَّه امتُحن بالثراء فصار يملكُ من الكنوز مقداراً وصفتِ الآيةُ الأولى مفاتيح خزائنها بأنَّها: ﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ أي أنَّها لكثرتها يشقُّ على العُصبة من الرجال الأقوياء مجتمعةً حملُها، والعُصبةُ كما قيل ما بين العشرة إلى تسعة عشر رجلاً وقيل غير ذلك، وذكر عددٌ من المفسرين أنَّ المراد من المفاتح هي خزائن الكنوز وليست هي المفاتيحَ التي يُفتحُ بها الأقفال، واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾(2) أي وعنده تعالى خزائنُ الغيب إلا أنَّ الصحيح -ظاهراً- أنَّ المفاتح وإنْ كانت تُستعمل في الخزائن لكنَّها في المقام تعني -ظاهراً- آلاتِ الفتحِ للأغلاق، إذ أنَّ الآيةَ بصدد التعبير عن كثرة كنوزِه وأموالِه بحيثُ إنَّ مفاتيحَ خزائنِ هذه الكنوز يشقُّ على العُصبةِ حملُها فكيف بالكنوز نفسِها، ولو كان المرادُ من المفاتح هي الخزائنَ نفسَها لكانت ثقيلةً بطبعها، فلا يكونُ لمقدار ما يملكُه قارونُ من كنوزٍ خصوصيَّة كانت الآيةُ بصدد الإشارةِ إليها.

 

وكيف كان فقد أفادت الآيةُ أنَّ قارونَ بعد أنْ أصبح من أصحابِ الثراء والأموال الطائلة بغى على قومِه أي تجبَّر واستعلى واستطال على قومه، والأصل اللغوي لكلمة البغي هو طلب العتو بغير وجهِ حقٍّ، والعتو يعني التجاوز للحدِّ في طريق الشرور والفساد، فهو بتجبُّره واستعلائه يكون قد تجاوزَ قدره، وأعطى نفسه مِن المقام والجاه فوقَ ما تستحقُّ، وباستطالتِه يكون قد تجاوزَ حقَّه وتعدَّى على حقوق غيره.

 

منشأ إخفاق قارون في الامتحان:

وهذا الإخفاق الذي وقع قارونُ في شرَكه نشأ عن رقَّة إيمانه وضعفِ تديُّنه واقعاً رغم أنَّه كان يتوهَّمُ أنَّه من أهل الصفوة، وأنَّه من خيار المؤمنين بموسى (ع) لذلك لم يكن يخشى على نفسِه من الزيغ والزلل، فلم يكن يُراقبُها ويتعاهدُها بالتزكية والتهذيب فأفضى ذلك إلى ابتلائه بالعُجبِ بذاتِه وهو ما عمَّق حالةَ الذهول والغفلة عمَّا يتعيَّنُ عليه فعلُه من التعاهُد لنفسه بالمحاسبة والمراجعة والتزكية. فكانت النتيجة هي إخفاقه عند أول امتحانٍ امتحَنه الله تعالى به فطغى وبغى على قومه لمجرَّد أنَّه تميَّز عليهم بالثراء وهي ميزةٌ لا تُعبِّر عن كمالٍ في الذات، فالثراءُ يتَّفق للجاهل والأحمق والوضيع من الناس إلا أنَّ الإنسان حين يغفلُ عن ذاته يغرقُ بعد حينٍ في الوهم فيحسب أنَّه على شيء وأنَّه إنَّما حظيَ بالثراء لتميُّز ذاتِه وعلو قدره ثم يأخذُ في الانحدار فينتابه شعورٌ بأنَّه إنَّما حظيَ بالثراء لرجاحة عقله وحسن تقديره وتدبيره ثم يشطُّ به العجب بذاته والشعور بالتفوُّق فيسوقه إلى الاعتقاد بالاستقلال والاستغناء عن ربِّه فيطغى ويتجاوز الحدودَ فلا يَرعى حرمةً ولا يتقَّيَّدُ بتكليف كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى / أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾(3) فهو إنَّما يطغى لأنَّه بلغ من الغفلةِ عن واقعه حدَّاً اعتقد معه بالاستغناء عن ربِّه، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾ فالرؤية في الآية بمعنى الاعتقاد وليست بمعنى الرؤية البصرية، فهي من أفعال القلوب بقرينة أنَّ الفاعل والمفعول الأول للفعل رأى ضميران، ولا يكون ذلك إلا للرؤية القلبيَّة، فمفاد الآية أنَّ الإنسان يطغى ويتعدَّى طورَه إذا اعتقد في نفسه أنَّه مستغنٍ بما عنده عن ربِّه، وهذا الاعتقادُ قد لا يظهر على سطح النفس لكنَّه مخبوءٌ في أعماقها ويكشفُ عنه طغيانه في سلوكه، فكأنَّ الآية تنبًّه الانسانَ الذي يُغلِّف نفسه بالشعور الكاذب أنَّه مؤمنٌ بالله تعالى وأنَّ كلَّ ما لديه فإنَّه من عند الله تعالى وأنَّه لا غنى له عن توفيق الله ورعايتِه هذه الآية تنبِّه مثلَ هذا الإنسان أنَّ طغيانَه وتجاوزَه لحدود الله تعالى وإقامتَه على ذلك دون مراجعةٍ لا يكون إلا عن اعتقادٍ مخبوءٍ في أعماق النفس بالاستغناءِ عن الله تعالى.

 

ثراء قارون ما هو إلا مثلٌ ضربه القرآن:

ثم إنَّ الثراء الذي أفضى بقارونَ إلى البغي والاستعلاء والاستطالة على قومه ما هو إلا مثلٌ ضربه القرآن للناس، فقد ينشأ البغيُ عن الثراء، وقد يكون منشأه الجاه أو المنصبَ أو القوةَ أو التكاثرَ بالعشيرة أو بالأتباع، وقد ينشأ عن الشعور بالتفوُّقِ في العلم أو الفهم أو بغيرها من الملكات والكمالات الني لا يمكن يحظى من أحدٍ بشيءٍ منها دون أن تكونَ ممنوحةً له من الله تعالى، فشعورُ الإنسان بالاستغناء فيما حظيَ به عن الله هو الذي يقودُه إلى الطغيان والبغي.

 

فالقويُّ يطغى بالبطش، والثريُّ يطغى بالجشع والبخل والحرمان لذوي الحقوق من حقوقهم، وذو المنصبِ يطغى بالفساد في الأرض وتوظيفِ منصبه في الابتزاز والاستحواذ على ما لا حقَّ له في الاستحواذِ عليه، وذو العلم يطغى باستصغار مَن دونه وتحقيرِهم أو التغريرِ بهم أو خداعِهم والتكاثر بهم، وهكذا فكلُّ طغيانٍ بحسبِه.

 

المحور الثاني: إنَّ ممَّا يُمكن استلهامُه من صدر الآية الأولى مضافاً لما تقدَّم مجموعةُ أمور:

 

صلاح الإنسان لا تكشفُ عنه بداياتُه:

الأمر الأول: إنَّ صلاح الإنسان لا تكشفُ عنه بداياتُه وإنَّما الأمورُ بخواتيمها، فقد تظهرُ على الإنسان آثارُ الصلاح، ويكون في الصفوف الأولى للمؤمنين، وقد يعتقدُ في نفسِه أنَّه من أهل التقوى والورع، ويظلُّ كذلك ردحاً مِن عمره بل قد يمتدُّ ذلك إلى أُخرياتِ عمره لأنَّه لم يبتلِ بامتحانٍ حقيقي يكشفُ عن واقع ما هو عليه أو أنَّه ابتُليَ بامتحاناتٍ فنجحَ في تجاوزها فكان ذلك سبباً في اغتراره بنفسِه وأنَّه عصيٌّ على الإخفاق وأنَّ إيمانه من الرسوخ بحيثُ لا يُخشى عليه من الاهتزاز فضلاً عن التصدُّع والانهيار فيبتلى بمحنةٍ غيرِ مرتقبة فتنسفُ تاريخَه الإيماني برمَّته، كذلك كان قارون فقد ابتُلي ببطش فرعونَ واستضعافِه لبني إسرائيل فصبرَ فيمَن صبرَ من أصحاب موسى (ع) ثم هاجرَ فيمَن هاجروا، فكان قاب قوسين من الهلاك، ثم كابدَ مرارةَ الاغتراب عن مسقط رأسِه ثم حين وقعتْ فتنةُ السامري لم يكن بمقتضى المأثوراتِ فيمَن افتُتن بعبادة العجل لكنَّه حين ابتُلي بالثراءِ طغى وبغى على قومِه وتنكَّرَ لتاريخه الإيماني، فذهب جهادُه الطويلُ أدراجَ الرياح، فكان كمَن ﴿نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾(4).

 

الثراءُ لا يكون بالضرورة خيراً للإنسان:

الأمر الثاني: إنَّ ممَّا يُمكن استلهامُه من صدر الآية الأولى وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ أنَّه قد لا يكون الثراءُ بالضرورة خيراً للإنسان من الفقر أو الكفاف، فقد لا يُصلِحُ هذا الإنسان أو ذاك إلا الفقرُ أو الكفاف، ولو ابتُلي بالثراء لطغى وزاغ عن الصراط فكانت عاقبتُه الخسرانَ، ولذلك ورد في الحديث القدسي: "وإِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُه إِلَّا الْفَقْرُ ولَوْ صَرَفْتُه إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَكَ"(5).

 

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص) قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَاداً لَا يَصْلُحُ لَهُمْ أَمْرُ دِينِهِمْ إِلَّا بِالْغِنَى والسَّعَةِ والصِّحَّةِ فِي الْبَدَنِ فَأَبْلُوهُمْ بِالْغِنَى والسَّعَةِ وصِحَّةِ الْبَدَنِ فَيُصْلِحُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، وإِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ لَعِبَاداً لَا يَصْلُحُ لَهُمْ أَمْرُ دِينِهِمْ إِلَّا بِالْفَاقَةِ والْمَسْكَنَةِ والسُّقْمِ فِي أَبْدَانِهِمْ فَأَبْلُوهُمْ بِالْفَاقَةِ والْمَسْكَنَةِ والسُّقْمِ فَيُصْلِحُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ وأَنَا أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ عَلَيْه أَمْرُ دِينِ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ"(6).

 

فينبغي للمؤمن أنْ لا يجزعُ ولا يتبرَّمُ ممَّا هو عليه من حال، فلعلَّه لو تحوَّل منها إلى حالٍ أخرى لفسد عليه دينُه، فقد يدعو الانسانُ ربَّه أنْ يمنحه الثراء أو يمنحَه هذا المنصب أو تلك الوظيفة أو يزوِّجه بتلك المرأة أو يرزقَه الكثير من البنين والبنات، فقد يدعو بكلِّ ذلك أو بشيء منها وهو لا يعلم أنَّ شقاءه يكمنُ في أنْ يُعطى ذلك، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾(7) فينبغي للمؤمن العاقل أن يسأل ربَّه ما يرغبُ في تحصيله ويسألُه في ذات الوقت أنْ يستجيب له إن كان صلاحُه في أنْ يستجيب لدعائِه، فإذا لم يوفق للاستجابة فليثقْ أنَّ الله تعالى هو الأعلمُ بما يُصلحه، فقد يكون صلاحُه في تأخير الإجابة لدعوته، وقد يكون صلاحُه في عدم الاستجابةِ لدعوته بل عليه أن يشكرَ ربَّه لعدم الاستجابةِ لدعوته، إذ لعلَّ شقاءه في الإجابة لدعوته، وهذا معنى ما ورد في الدعاء المأثور عن أهل البيت (ع): "اللهمَّ إنِّي أسألك إيماناً تباشرُ به قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلمَ أنَّه لن يُصيبَني إلا ما كتبتَ لي، ورضِّني من العيشِ بما قسمتََ لي"(8).

 

وفي مقابل هذا مَن يسخطُ على ربِّه ويشعر أنَّه قد أهانَه لأنَّه لم يستجب لدعوتِه أو لأنَّه لم يوسِّع عليه في رزقه أو لأنَّه ابتلاه في صحَّتِه أو في أولاده كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ / وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾(9) فمقياسُ رضاه عن ربِّه وسخطِه عليه هو ما عليه من حال فإنْ وجد نفسَه يرفُل في النعيم رضيَ عن ربِّه وتوهَّم أنَّ ربَّه راضٍ عليه لذلك أكرمه، وإنْ أصابته ضائقةٌ سخِط على ربِّه وتوهَّم أنَّ ربَّه قد أهانه بإيقاعه في هذه الضائقة. مثل هذا يعبدُ الله على حرف -أي على طرف- كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾(10).

 

المحاذرة من الاغترار بالمظهَر:

الأمر الثالث: إنَّ ممَّا يُمكن استلهامُه من صدر الآية المباركة هو المحاذرة من الاغترار بالمظهَر، فقد يُخفي الإنسانُ وراء التزامه بعملِ الصالحات مآربَ وغاياتٍ يرى أنَّه لا يُمكنُ الوصولُ إليها إلا من طريق التمظهُر بالنسُك حتى إذا بلغ غايتَه كشفَ عن مخبوء سريرته بعد أنْ يكون قد أوقعَ الكثيرَ من البسطاء في حبائلِه، واتَّخذ منهم مطيَّةً لتمرير مشاريعِه ومطامحِه، كذلك كان قارون، فقد كان على ظاهر الصلاح، وكان يحفظُ التوراة، وكان من أحسنِهم تلاوةً لها، وكان في أوائل المستجيبين لدعوة موسى وهارون، فلولا أنَّ الله تعالى كشف عن مخبوء سريرته بابتلائه بالثراء الفاحش لكان ربَّما ادَّعى لنفسه منصباً إلهيَّا بعد رحيل موسى إلى ربِّه، وسيجدُ الكثيرَ ممَّن يستجيبُ لضلالاته اتكالاً على ما كان يظهرُ من صلاحِه وقُربِه من موسى (ع) وهذا هو أحدُ أهم مناشئ الضلال الذي مُنيت به هذه الأمَّة بعد رسول الله (ص) لذلك كان أمير المؤمنين (ع) يقول: "إنَّ الحقَّ لا يُعرف بالرجال، اعرف الحقَّ تعرفُ أهله"(11) وكان يقول: "لا يُعرفُ الحقُّ بالرجال، وانَّما تُعرفُ الرجالُ بالحق .. اعرف الحقَّ تعرف مَن أتاه، واعرف الباطلَ تعرف من أتاه"(12).

 

نستكملُ الحديثَ حول الآيتين فيما بعد إن شاء اللهُ تعالى.

 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(12)

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

1 من ربيع الثاني 1444هـ - الموافق 28 اكتوبر 2022م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

----------------------------------

1- القصص / 76، 77.

2- الأنعام: 59.

3- العلق: 6، 7.

4- النحل: 92.

5- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار- الطبرسي- ص 537.

6- الكافي -الكليني-ج2/60.

7- الاسراء: 11.

8- مصباح المتهجد -الطوسي- ص 598.

9- الفجر: 15، 16.

10- الحج :11.

11-روضة الواعظين- الفتال النيسابوري- ص 31.

12- أنساب الأشراف -البلاذري- ج2/ 274، تاريخ اليعقوبي- اليعقوبي- ج2/ 210.

13- سورة العصر: 1-3.