موضعُ الدخول المُوجِبِ للعدَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

إذا دخل الرجل بزوجته دبراً ثم طلَّقها قبل أنْ يدخلَ بها في موضع الحيض فهل تجب عليها العدَّة؟

الجواب:

المشهور بين الفقهاء أنَّ الدخول بالزوجة من أيٍّ من الموضعين موجبٌ للعدَّة بل أدُّعي عدم الخلاف في ذلك(1) نعم توقَّف صاحبُ الحدائق في إيجاب العدَّة بالدخول دبراً ومنع من ظهور الروايات في الشمول لهذا الفرض(2) وكذلك فإنَّ المستظهَر من العلامة في التحرير عدم إيجاب العدَّة بغير الدخول في القُبُل(3).

الاستدلال لدعوى المشهور بالآية الشريفة:

هذا ويُستدلُّ لما عليه المشهور من إيجاب العدَّة بالدخول من أيٍّ من الموضعين.

بمثل قوله تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾(4).

فإنَّ المسَّ في الآية يعني المعاشرة الزوجيَّة كما الظاهر عرفاً من مدلولها إذ من غير المحتمل إرادة مجرَّد الملامسة التي تتحقق بمثل المصافحة والتقبيل وتتحقق بما دون ذلك فالمماسَّة التي عنته الآية هو المعاشرة الزوجيَّة ويؤكد ذلك بما ورد في صحيحة عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: مُلَامَسَةُ النِّسَاءِ هُوَ الإِيقَاعُ بِهِنَّ"(5).

فإذا كانت الملامسة والمماسة تعني الإيقاع فهي تصدقُ عرفاً على الدخول في أيٍّ من الموضعين دون تجوُّز.

الاستدلال للمشهور بروايات الدخول:

وكذلك يُمكن أنْ الاستدلال على إيجاب العدَّة بالدخول في أيٍّ من الموضعين بالروايات التي اعتبرت موضوع العدَّة عنوان الدخول والذي يصدقُ دون عناية على الدخول في أيٍّ من الموضعين:

فمن ذلك: صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَه قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ تَزَوَّجُ مِنْ سَاعَتِهَا إِنْ شَاءَتْ وتُبِينُهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وإِنْ كَانَ فَرَضَ لَهَا مَهْراً فَلَهَا نِصْفُ مَا فَرَضَ"(6).

ومنه: موثق أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَه قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَقَدْ بَانَتْ مِنْه وتَزَوَّجُ مِنْ سَاعَتِهَا إِنْ شَاءَتْ"(7).

ومنه: صحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا (ع) فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِكْراً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ كُلَّ شَهْرٍ تَطْلِيقَةً؟ قَالَ: بَانَتْ مِنْه فِي التَّطْلِيقَةِ الأُولَى واثْنَتَانِ فَضْلٌ وهُوَ خَاطِبٌ يَتَزَوَّجُهَا مَتَى شَاءَتْ وشَاءَ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ، قِيلَ لَه:  فَلَه أَنْ يُرَاجِعَهَا إِذَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ؟ قَالَ: "لَا إِنَّمَا كَانَ يَكُونُ لَه أَنْ يُرَاجِعَهَا لَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوَّلاً فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَا رَجْعَةَ لَه عَلَيْهَا قَدْ بَانَتْ مِنْه مِنْ سَاعَةٍ طَلَّقَهَا"(8).

الجواب عن دعوى الانصراف:

فالواضح من هذه الروايات أنَّ موضوع وجوب العدَّة هو عنوان الدخول وهو صادقٌ دون عناية على الدخول بالزوجة في أيٍّ من الموضعين، ودعوى انصراف عنوان الدخول وكذلك الملامسة والمواقعة والإيقاع إلى الدخول من موضع القُبل باعتباره الفرد الشائع -كما أفاد صاحبُ الحدائق- لا تتم فإنَّه مع التسليم جدلاً بالانصراف فهو لا يصحِّح رفع اليد عن الظهور في الإطلاق، إذ أنَّ الانصراف الناشئ عن الشيوع أو غلبة الوجود لا يمنع من الظهور في الإطلاق ولا يصلح لتقييده كما هو محرَّرٌ في محلِّه.

دلالة صحيحة ابن سنان على مبنى المشهور:

وأما ما ورد في صحيحة عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: .. قِيلَ لَه فَإِنْ كَانَ وَاقَعَهَا فِي الْفَرْجِ ولَمْ يُنْزِلْ فَقَالَ إِذَا أَدْخَلَه وَجَبَ الْغُسْلُ والْمَهْرُ والْعِدَّةُ"(9) فهو كذلك ظاهر في إيجاب العدَّة بالدخول من أيٍّ من الموضعين، فإنَّ المواقعة في الفرج تصدق على الدخول من أيٍّ من الموضعين وذلك لصدق عنوان الفرج عرفاً على كلٍّ من الموضعين على حدٍّ سواء ويؤيِّد ذلك ما أفاده اللغويُّون كما في تاج العروس للزبيدي قال: وفي المصباح: "الفَرجُ من الإِنسان يُطْلَق على القُبُلِ والدُّبُر"(10) وكما في لسان العرب: والفَرْجُ: العَوْرَة .. والفَرْجُ: اسم لجمع سَوآت الرجال والنساء والفِتْيان وما حَوالَيْها، كله فَرْج"(11)  وهذا هو المستظهَر من عنوان الفرج في مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ .. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾(12) وقوله تعالى: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾(13).

الاستدلال على نفي العدَّة بروايات التقاء الختانين:

قد يقال -كما أفاد بعض الأعلام- إنَّه يمكن الانتصار لدعوى عدم وجوب العدَّة بالدخول دبراً بمثل صحيحة حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْمَهْرُ والْعِدَّةُ والْغُسْلُ"(14) وذلك بتقريب دلالة الجملة الشرطية على أنَّه إذا لم يلتقِ الختانان فلا تجب العدة، ومقتضى إطلاق هذا المفهوم للجملة الشرطية هو عدم وجوب العدة بالوطء دبراً.

الجواب عن الاستدلال بروايات التقاء الختانين:

إلا أنَّ الظاهر عدم تمامية الاستدلال بالرواية على ذلك فإنَّها بصدد بيان ما يتحقق به الدخول الموجب للعدَّة وأنَّ أدناه التقاء الختانين وأنَّ ما دونه لا يتحقق به الدخول، فهي ليست بصدد بيان حصر موضع الدخول وإنما هي بصدد بيان أنَّ الدخول من جهة القُبل لا يتحقَّق إلا بالتقاء الختانين. وعليه فهي ساكتة عن أنَّ الدخول دبراً هل هو موجب للعدَّة أو لا. فلا تكون هذه الرواية منافيةً لما دلَّ على أنَّ مطلق الدخول الشامل للموضعين موجبٌ للعدَّة.

هذا وقد أُجيب عن الاستدلال بالرواية بجوابٍ آخر حاصله أنَّ إطلاق المفهوم للرواية يقتضي عدم وجوب العدَّة مع عدم الوطء من رأس ومع الوطء دبراً فتكون العلاقة بين إطلاق المفهوم لهذه الرواية وبين ما دلَّ على وجوب العدَّة بمطلق الدخول هو العموم من وجه، فالتعارض بين الطائفتين يكونُ في الوطء دبراً، فمقتضى إطلاق المفهوم هو عدم وجوب العدَّة، ومقتضى إطلاق روايات الدخول هو جوب العدَّة بالوطء دبراً.

وعليه فالمتعيَّن هو ترجيح الطائفة المقتضية لوجوب العدَّة بمطلق الدخول الشامل للوطء دبراً وذلك لأنَّها المناسبة لما عليه المشهور. إلا أنَّ ذلك إنَّما يصحُّ بناءً على أنَّ الشهرة من مرجِّحات باب التعارض. فالأولى الترجيح للطائفة المقتضية لوجوب العدَّة بالوطء دبراً بموافقة ظاهر الكتاب المجيد وهو قوله تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ فإنَّ المُستظهَر عرفاً من المماسَّة الموجبة للعدَّة هو مطلق المعاشرة الزوجيَّة الشاملة للوطء من أيٍّ من الموضعين.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

11 / ربيع الثاني / 1444ه

7 / نوفمبر / 2022م

-----------------------------------------

1-الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني-  ج25 / ص393، جواهر الكلام- الشيخ حسن النجفي-  ج32 / ص213.

2-الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج25 / ص394.

3- تحرير الأحكام -العلامة الحلِّي- ج4 / ص151.

4- سورة الأحزاب / 49.

5- الكافي -الكليني- ج6 / ص109  

6- الكافي -الكليني- ج6 / ص83.

7- الكافي -الكليني- ج6 / ص84.

8- الكافي -الكليني- ج6 / ص84.

9- الكافي -الكليني- ج6 / ص109.

10- تاج العروس- الزبيدي- ج3 / ص452.

11- لسان العرب -ابن منظور- ج2 / ص342.

12- سورة النور / 30-31.

13- سورة الأحزاب / 35.

14- الكافي ج6 / ص109.