﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ..﴾ -2

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، لا نُشركُ باللهِ شيئا، ولا نتَّخذُ من دونه وليَّا، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، كذلك اللهُ لا إلهَ إلا هو إليه المصير، والحمد لله الذيَ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، ونشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، ونشهدُ أن محمداً عبدُه ونبيُّه ورسولُه إلى خلقِه، وأمينُه على وحيهِ، وأنَّه قد بلَّغ رسالاتِ ربِّه، وجاهدَ في اللهِ الحائدينَ عنه، العادلينَ به، وعبد اللهَ حتى أتاهُ اليقين صلَّى الله عليه وآله.

 

وأوصيكم -عباد الله ونفسي- بتقوى الله، وصدقِ الحديثِ، والوفاءِ بالعهد، وأداءِ الأمانةِ وتركِ الخيانة، ولينِ الكلامِ، وبذلِ السلام، وحفظِ الجارِ، ورحمةِ اليتيم، وحُسنِ العمل وقصرِ الأملِ وحبِّ الآخرة، والجزعِ من الحساب، ولزوم الايمانِ، والفقهِ في القرآن، وكظمِ الغيظِ، وخفضِ الجَناح.

 

يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد:  ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ / إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ / وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(1).

 

كنا قد تحدَّثنا فيما سبقَ حول الفقرةِ الأولى من الآيتين، وكان ذلك في محورين ونحدَّث هنا إنْ شاء الله تعالى حول المحورِ الثالث والمتَّصلِ بالفقرة الثانية من الآية الأولى وهي قوله: تعالى:﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ فقارونُ بعد أنْ أملى، وظهرَ عليه أثرُ الثراء تغيَّرَ سلوكُه، وساء خُلقُه، فتصدَّى جمعٌ من خيارِ قومِه لوعظِه ونصيحتِه، فكان فيما وعظوه به قولهم: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾.

 

الفرح المقابل للغمِّ والحزنِ ليس مذموماً:

والمرادُ من الفرحِ في الآية ليس هو الشعورَ بالاغتباطِ والابتهاجِ المُقابلَ للشعور بالغمِّ أو الحُزن، فإنَّ الفرحَ بهذا المعنى ليس مذموماً، فهو أثرٌ تلقائي ينتابُ النفسَ حين تحظى بمرغوبٍ، ولهذا قيل في تعريف الفرح بأنَّه سعادةٌ تغمرُ النفسَ لنيلِ ما يُشتهى أو هو انشراحٌ وانبساطٌ يعتري النفسَ، وذلك في مقابلِ الانقباضِ الناشئِ عن الحُزن أو الغمِّ أو الضجر أو القلق، فالفرحُ بهذا المعنى ليس مذموماً، وقد أمرَ اللهُ تعالى عباده المؤمنين أنْ يفرحوا بهدايتِه لهم وفضلِه عليهم ورحمتِه بهم في قوله جلَّ وعلا: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾(2) وقال تعالى يمدحُ المؤمنين في سورة الروم: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ -إلى قوله- وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾(3) وقال تعالى يُخبرُ عن حال الشهداء في عالم البرزخ: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(4).

 

إذن فما هو المرادُ من الفرح الذي نهتْ عنه الآيةُ، وأفادتْ أنَّ اللهَ تعالى لا يحبُّ الواجدين له؟

 

الفرح المذموم هو الفرح بمرتبة البطر:

والجواب هو أنَّ المرادُ من الفرح في الآية هو البطَر، والبطرُ كما هو شعور جامح يعتري النفس ويستحكم بها يشبهُ السكرة، وتنشأُ عن قلَّةِ احتمال النعمة، وشدَّةِ التعلُّقِ بما صار منها في يدِه، فالتعلُّقُ الشديدُ بما صار في اليد من مرغوبٍ هو البطَر، فالبطَرُ هو الفرح بمرتبتِه الشديدةِ الشبيهةِ بالسكرةِ والمقتضيةِ بطبعِها للذهولِ والغفلةِ عن الدين وضوابطِه وعن الآخرةِ وتبعاتِها، فهذا هو الفرحُ الذي نهتْ عنه الآيةُ وأفادت أنَّ الله تعالى لا يحبُّ الواجدينَ له، وهذا هو المرادُ من الفرحِ في مثل قوله تعالى: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ﴾(5) أي لكي لا تجزعوا على ما فاتكم ولا تبطُروا بما صارَ في أيديكم من النعيم، فيكون تعلُّقكم به شديداً تنسونَ معه دينَكم وحدودَه وآخرتَكم وتبعاتِها.

 

وكذلك هو معنى الفرح في مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾(6) فمعنى قوله: ﴿فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ هو أنَّهم بطروا واشتدَّ تعلُّقُهم بما أُوتوا مِن نعيم الدنيا فنسوا بذلك ما ذُكِّروا به من حدودِ الله فتجاوزُوها، لذلك أخذَهم اللهُ تعالى بغتةً فإذا هم مبلسون، أي فإذا هم حيارى لا يقوون على الانتصار لأنفسِهم أو الدفعِ عنها.

 

فالفرحُ المذمومُ والمنهيُّ عنه في الآية هو الفرحُ بمرتبتِه الشديدة المُعبَّر عنها بالبطَر والذي يعني شدَّةَ التعلُّقِ بنعيم الدنيا المُفضي بطبعِه لنسيانِ الآخرة، لذلك قال تعالى بعد قوله: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾ فتعقيب النهي عن الفرح بالأمر والحثِّ على ابتغاء الدار الآخرة فيه إشعار بأنَّ المراد من الفرحِ المنهيِّ عنه هو الفرحُ المُنسي للآخرة. 

 

الفرح بمرتبة البطَر يبعثُ بطبعِه على الطغيان:

ثم إنَّ الفرح بمرتبة البطَر يبعثُ بطبعِه على الطغيان والذي هو التجاوزُ للحدِّ، ويبعثُ على التبختُرِ والخيلاءِ والتجبُّر لذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(7) فالفرح المنهيُّ عنه في الآية هو الذي يبعثُ على الخيلاء والفخرِ والتبختُرِ والاستعلاء، وهذا هو الفرح بمرتبة البطَر، فالبطرُ يُستعمل تارةً في السبب، وأخرى في الأثر، فالسببُ الذي ينشأُ عنه البطَر هو الاغتباط الجامح المُفضي لشدَّةِ التعلُّقِ بالدنيا ونعيمِها، والأثرُ الذي يترتبُ على شدَّةِ التعلُّقِ بالدنيا هو الطغيانُ والتجبُّرُ والخيَلاءُ والاستكبارُ، وعليه فشدُّةُ التعلُّقِ بالدنيا بطَرٌ، والطغيانُ بطَر، ففي الأول استُعملَ البطرُ في السبَبِ، وفي الثاني استُعملَ في الأثر أو قل المُسبَّب، ومن الآيات التي استَعملت البطَرَ في الأثر والذي هو الطغيان قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾(8) أي طغت في معيشتِها.

 

أصنافُ البشر الذين لا يحبُّهم الله تعالى:

ثم إنَّ الآية بعد أنْ نهتْ عن الفرح بالمعنى الذي ذكرناه أفادت أنَّ الله تعالى لا يحبُّ الفرحين، وبالتتبُّع في آياتِ القرآن نجدُ أنَّ أصنافَ البشرِ الذين أخبرت الآياتُ عن أنَّ الله تعالى لا يُحبُّهم هم أسوأُ عبادِ الله، وأحقُّهم بسخطِه وغضبِه وعذابِه، فمِن ذلك قولُه تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾(9) وقولُه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(10) وقولُه تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾(11) وقولُه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾(12) وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(13) وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(14) وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾(15).

 

فالذين لا يُحبٌّهم اللهُ تعالى -بحسب هذه الآيات- هم الجاحدون لربِّهم المقيمون على الآثام، والمعتدون على حقوق الناس وعلى دمائهم وأعراضِهم وأموالِهم، والظالمون لعباد الله، والخائنونَ لأماناتهم وعهدهم، والمفسدون في الأرض، والمسرفون المتجاوزون لحدود الله، والمستكبِرون، فهذه الأصنافُ من البشر هم أسوأُ الأصنافِ وأحقُّهم بسخطِ الله تعالى، والعقوباتُ التي وقعتْ على الأُممِ الغابرة إنَّما نشأت عن اجتراح أبنائها لهذه الخِصال التي عليها هذه الأصناف من البشر، ومن ذلك يُستظهَر أنَّ المراد من الفرحين في الآية هم الذين نسوا الله، وخلدوا إلى الدنيا فأفضى ذلك بهم إلى البطَر والطغيان، ومعنى أنَّ الله تعالى لا يحبُّهم هو أنَّه تعالى ساخطٌ لهم وغاضبٌ عليهم، ومن يكونُ محلَّاً لغضبِ الله جلَّ وعلا فمآلُه الهلاكُ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾(16)

 

والمحور الرابع: حول ما يُمكن استلهامُه من الفقرة الثانية من الآية الأولى ونكتفي من ذلك بأمرين:

 

أثرُ النصيحة الجماعية والمتكررة:

الأمر الأول: نلاحظ أنَّ الآية الشريفة  قد أولت اهتماماً بنقل مفاد النصيحة التي قدَّمها قومُ قارونَ إليه، وفي ذلك إشعارٌ بأنَّ مسئوليَّةَ الأمرِ بالمعروف والنهي تظلُّ قائمةً حتى في فرض استبعاد قبول المجترِحِ للمنكر للنصيحة، وحتى في فرض استبعاد غفلته عن خطأ ما هو مقيم عليه، فلا يصحُّ الاعتذارُ بأنَّ الرجلَ عاقلٌ ومدرِكٌ لخطأ ما يفعلُه، فلا موجبَ لنصيحته ولا فائدة تُرجى من تنبيهه، فإنَّ ذلك لا يُصحح الاعتذار عن إسداء النصيحة له، فقد تُساهم النصيحةُ خصوصاً إذا صدرت من أطراف متعددة في تراجعه وارتداعه، ولعلَّه لذلك أفادت الآيةُ أنَّ الذين تصدوا لنصيحة قارون كانوا جمعاً من قومِه فإما أن يكون ذلك من طريق اجتماعهم وتوافقهم على تقديم النصيحة له مجتمعين أو يكون ذلك من طريق تتابع النصيحة مراتٍ متكاثرة من أفرادٍ متعددين، فقد يُساهم أحدُ هذين الطريقين في الضغط على مرتكب المنكر فيتراجع عن خطئه، وقد تُساهم في عدم تماديه واسترساله في غيِّه، فكثيراً ما ينشأ استرسالُ الإنسان في أخطائه لأنَّه لا يجدُ مَن ينكرُ عليه أخطاءه بل قد يجدُ مُن يمالئه ويداريه  أو يُجامله فيدفعُه ذلك إلى التمادي والإصرار إلى أنْ يصبحَ الذنبُ مأنوساً عنده فيغفلُ عن تبعاته ولا يستوحشُ من الإقامةِ على فعله، وعلى خلاف ذلك ما لو وجد هذا العاصي أو هذا المستهترُ أهلَه وعشيرتَه وأصدقاءَه وزملاءَه يُكثرون من نصيحته وتذكيره بعواقب سلوكه فإنَّ ذلك إنْ لم يُجدِ في تراجعه فإنَّه سوف يسهم في عدم استرساله وتماديه، كما أن الإكثار من النصيحة يمنع من صيرورة الذنب مأنوساً عنده فيظلُّ يشعر بالتأثم والتأنيب وبخطأ ما يفعله وهو ما قد يبعثه يوماً ما على التراجع والتدارك لتبعاتِ ما كان يفعله.

 

ثم إنَّ النصيحةَ المتكرِّرة والصادرة من أطرافٍ مختلفة إن لم تُجدِ في إصلاح مرتكبِ الخطيئة فإنَّها قد تبعثُه على المحاذرة من المجاهرةِ بها خشيةَ أنْ يُصبح منبوذاً في مجتمعه، وهذا الأثر يستحقُّ بذل الوسع لتحصيله، إذ أنَّ عدم المجاهرة بالمعصية ينفعُ في المنع من صيرورتها مأنوسة لدى المجتمع، كما أنَّ تكرارَ النصيحةِ والإنكارِ من أطرافٍ مختلفة يُسهمُ في تحصين المجتمع من ارتكاب غيره لذات المعصية حذراً من أن يكون محلاً لإنكار المجتمع.

 

مآلُ شدَّة التعلُّقِ بالمرغوب:

الأمر الثاني: إنَّ الفرح بمرتبة البطر الذي أفادت الآية أنَّ الله تعالى لا يحبُّ الواجدين له كما ينشأ عن شدَّة التعلُّق بالمالِ والثروة فإنَّه قد ينشأ عن شدَّة التعلُّق بغيره من شواغل الدنيا كالشهرة والجاه والمنصب وشهوات الجسد واللهو واللعب وغيرها من المباهج التي لا تعدو الوهم والخيال واقعاً، فقد يعشقُ الإنسانُ الشهرةَ  أو قد يعشق المنصب  فيصبحُ هذا المرغوب هو الحاضرَ في نفسه والمستوليَ على مشاعره وشغلَه الشاغل الذي لا يفكر في شيء سواه ولا يكون سعيه في الحياة إلا لغرض تحصيله ويكون على استعدادٍ لأنْ يضحِّي بقيمه ومبادئه وأعرافه ومجتمعه في سبيل الوصول إليه، فإذا حظي به حرص على الاحتفاظ به أيَّا كان الثمن حتى لو كان الثمن هو التجاوز لضوابط الدين أو كان الثمن هو الانسلاخ من هويته وتاريخه، وهذا هو البطر الذي يُشبه السكرة الغاشية والتي تحول دون التعقُّل والانضباط بضوابط الدين وهذا هو الذي حذَّر منه أهل البيت (ع) وأفادوا أنَّ شدة التعلُّق بالمرغوب أيَّاً كانت طبيعته مآله الهلاك وسوء العاقبة لأنَّه يعمي ويُصم ويحول دون التراجع كما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾(17) ويقول أمير المؤمنين (ع) فيما يؤثر عنه: "الهوى إلهٌ معبود"(18) وورد عنه (ع) أنَّه قال: "الهوى شريكُ العمى"(19) و"إنَّك إنْ أطعتَ هواكَ أصمَّكَ وأعماكَ، وأفسدَ منقلبَك وأرداك"(20).

 

لذلك ينبغي للمؤمن أنْ يُحاذرَ من أنْ يشتدَّ تعلُّقُه بالمرغوب وإنْ كان مباحاً فإنَّ شدَّةَ التعلٌّق بالشيء تحولُ دون النظرِ في عاقبتِه، فالمؤمنُ العاقل هو مَن يُحسِنُ الإدارة لمرغوباته فيقودُها ولا ينقادُ لها، وذلك لا يتمُّ إلا حينَ لا  يتجاوزُ تعلُّقُه بها حدَّ الاعتدالِ الذي يتمكنُ معه من التخلِّي عن أيِّ مرغوبٍ وجده يتنافى ومقتضيات الدين أو التعقُّل. 

 

معنى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾:

المحور الخامس: قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾ معناه وأطلب بما أعطاك الله من مالٍ النجاةَ والفوزَ في الدارِ الآخر، وذلك بأنْ تُنفقَ منه في طريقِ الخير فيكونُ ذلك سبباً في نجاتِك وفوزِك في الدار الآخرة.

 

فالآية تحضُّ على اتِّخاذِ عطايا الله ومنحِه وسيلةً لتحصيلِ مرضاةِ اللهِ في الآخرة، وذلك في مقابلِ مَن يتَّخذُ عطايا اللهِ وسيلةً لتحصيل المُتَعِ العاجلةِ والتي سُرعانَ ما تنقضي لذَّتُها وتبقى تبعاتُها، وأسوأُ منه من يتَّخذُ عطايا الله جلَّ وعلا وسيلةً للفساد والإفساد، ووسيلةً للاستعلاءِ والاستكبارِ والاستطالةِ على عبادِ الله تعالى.

 

ثم إنَّ المراد من الاسم الموصول في قوله: ﴿فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ﴾ لا يختصُّ بالمال وإنْ كان هو موردَ الآيةِ الشريفة، فصلةُ الموصول المفسِّرة للاسم الموصول تصدقُ على كلِّ ما آتاهُ وأعطاهُ اللهُ للإنسان - وجودَه، وعقلَه، وجوارحَه، وقوَّتَه، وصحَّتَه، وعلائقَه، وما ينعمُ به من مالٍ وجاهٍ وعلمٍ، وما هو مسخَّرٌ لنفعِه ممَّا هو في باطنِ الأرضِ وعلى ظهرِها، وممَّا هو في قعرِ البحر وطبقاتِ السماء، فكلُّ ذلك وشبهِه مِن عطايا الله تعالى ومنحِه، والآية تحضُّ الانسانَ على أنْ يتَّخذ منها وسيلةً لتحصيلِ مرضاةِ الله والفوزِ بنعيمِ الآخرة.

 

فالدنيا عرَضٌ زائلٌ، وليست بدارِ قرار، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾(21) فمَن عمَّر دار إقامتِه فهو العاقلُ كما أفاد أميرُ المؤمنين(ع) يقول (ع): "إنَّما الدنيا دارُ مَجاز، والآخرةُ دارُ قرار، فخذوا مِن ممرِّكم لمقرِّكم"(22) و"اجعلوا اجتهادكم فيها التزوُّدَ من يومِها القصير، ليوم الآخرةِ الطويل، فإنَّها دارُ عمل، والآخرةُ دارُ القرارِ والجزاء"(23).

 

معنى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾:

ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ وقد ذُكر للمراد من هذه الفقرة من الآية أكثرُ من معنى:

 

المعنى الأول: هو أنَّ النصيب الحقيقي للإنسان من هذه الدنيا هو ما ينفعُه لآخرته، فهو الذي يبقى أثرُه، وأمَّا ما ينتفعُ به في هذه الدنيا فهو عرَضٌ زائل، وعليه فمفادُ هذه الفقرة مِن الآية هو أنَّه لا تُهمِل نصيَبك الحقيقي الذي سيبقى فتتركَه وتشتغلَ بما هو زائلٌ من مُتَع الدنيا. فالنسيانُ هنا بمعنى الإهمال والإعراض والترك كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾(24) يعني جاءتك الآياتُ فأهملتَ العملَ بمقتضاها وأعرضتَ عنها ولم تعبأْ بها لذلك صارَ جزاؤك يومَ القيامة أنْ يتمَّ إهمالُك والإعراضُ عنك وعدمُ الرعايةِ والاستجابةِ لاستغاثتِك.

 

وببيانٍ آخر: إنَّ النِعمَ التي يحظى بها الإنسانُ في هذه الدنيا تارةً يصرفُها كلَّها في مُتعِه وتأمينِ معاشِه، ولا يستبقي منها شيئاً يذخرُه لآخرتِه فمثلُه يكونُ ممَّن قد ضيَّع على نفسِه حظَّه من نِعَمِ الدنيا لأنَّه لم ينتفعْ بشيءٍ منها لآخرتِه فيكونُ قد أهدرَ نصيبَه من نِعمِ الدنيا، لأنَّه صرفها فيما لا يبقى وأهملَ الانتفاعَ بها فيما يبقى. فالآيةُ تنهى الإنسانَ عن أن يكون كذلك أي تنهاهُ عن أنْ يتمحَّضَ اشتغالُه بما يفنى وبما لا عائدَ من ورائه ويتركَ التأمينَ لِمَا يبقى.

 

المعنى الثاني: الذي يُحتملُ إرادتُه من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ هو أنَّ نصيبَك من هذه الدنيا -مهما توسَّعت- فإنَّه ليس لك منها إلا ما تأكلُه وتلبسُه وتسكنُ فيه وتتوسَّلُ به لقضاء حوائجك، وأمَّا ما زادَ على ذلك فأنتَ تجمعُه لغيرِك. فالآيةُ بصدد التذكيرِ بهذه الحقيقة التي لو استوعبَها الإنسانُ وأذعنَ لها فسوفَ يحرصُ على توظيفِ ما يصلُه من النِعَم في تأمين حياتِه في الدار الآخرة.

 

تُحسنُ إلى العباد وتُحسنُ تدبير النعم:

ثم قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ ومؤدَّى هذه الفقرة هو أنَّ ما بيدِك مِن أموالٍ وما تتمتعُ به من موفورِ النِعَم ليس منه شيءٌ قد وصلَك لأنَّك تستحقُّه على الله تعالى بل أُعطيتَ إيَّاه تفضُّلاً وإحساناً من الله تعالى إليك، فكان مقتضى الشكرِ لله جلَّ وعلا على إحسانِه إليك أنْ تُحسِن إلى عبادِه، وأنْ تُحسنَ تدبيرَ هذه النعم فتصرفُها فيما يُرضِي اللهَ تعالى أو لا أقلَّ فيما لا يُسخطُه، إذ يقبحُ بذوي المروءةِ أن يتَّخذوا من عطايا المُحسنِ وسيلةً لفعلِ ما يُسخُطُه.

 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(25).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

15 من ربيع الثاني 1444هـ - الموافق 11 نوفمبر 2022م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

----------------------------------

1- سورة القصص / 76-77.

2- سورة يونس /  215.

3- سورة الروم / 3-4.

4- سورة آل عمران / 170.

5- سورة الحديد / 23.

6- سورة الأنعام / 44.

7- سورة الحديد / 23.

8- سورة القصص / 58.

9- سورة البقرة / 276.

10- سورة البقرة / 190.

11- سورة آل عمران / 57.

12- سورة النساء / 107.

13- سورة المائدة / 64.

14-الأنعام / 141.

15- سورة النحل / 23.

16- سورة طه / 81.

17- سورة الجاثية / 23

18-عيون الحكم والمواعظ -الليثي الواسطي- ص66.

19- عيون الحكم والمواعظ -الليثي الواسطي- ص50.

20- عيون الحكم والمواعظ -الليثي الواسطي- ص172.

21- سورة غافر / 39.

22- نهج البلاغة- خطب الإمام علي(ع)- ج2 / ص183.

23- الكافي -الكليني- ج8 / ص174.

24- سورة طه / 126.

25- سورة العصر / 1-3.