كيف عالجَ الإسلامُ ظاهرةَ الرقِّ 

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وحده لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).

 

عباد الله: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً رَاقَبَ رَبَّه، وتَنَكَّبَ ذَنْبَه، وكَابَرَ هَوَاه، وكَذَّبَ مُنَاه.. وزَمَّ نَفْسَه مِنَ التَّقْوَى بِزِمَامٍ، وأَلْجَمَهَا مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهَا بِلِجَامٍ، فَقَادَهَا إِلَى الطَّاعَةِ بِزِمَامِهَا، وقَدَعَهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِلِجَامِهَا، رَافِعاً إِلَى الْمَعَادِ طَرْفَه، مُتَوَقِّعاً فِي كُلِّ أَوَانٍ حَتْفَه.. كَدُوحاً لآِخِرَتِه.. جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِه والتَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِه.

 

ظاهرة الرقِّ كانت متجذِّرةٌ في عموم المجتمعات الإنسانيَّة:

أمَّا بعدُ: فالحديثُ حول مسألةِ الرِقِّ والاستعباد وأنَّه لماذا لم يُلغِ الإسلامُ ظاهرةَ الرقِّ المنافية لأبسطِ حقوق الإنسان في الحريَّة وأنْ يكون قراره بيدَه وأنَّه ليس لأحدٍ أنْ يستملكَه ويفرضَ إرادتَه عليه؟

 

والجواب هو أنَّه جاء الاسلامُ وظاهرة الرقِّ متجذِّرةٌ في عموم المجتمعات الإنسانيَّة، فلم تكن هذه الظاهرةُ مختصَّةً بالمجتمع العربي بل هي في المجتمعاتِ المتحضِّرةِ آنذاك كالفرسِ والرومان أكثرُ شيوعاً.

 

فكانت العبيدُ والإماءُ تُعدُّ من نفائسِ الأموال إنْ لم تكن هي الأنفسَ على الإطلاق، ولذلك اعتبر الإسلامُ عتقَ العبدِ وتحريرَه من أعظمِ القُربات وهو ما يُعبِّر عن أنَّ العبدَ في المجتمعاتِ الجاهليَّة كان من الأموال الباهظةِ الثمن التي يشقُّ على مَن يملكُها التخلِّيَ عنها دون مقابلٍ، ويشقُّ على مَن لا يملكُها ابتياعَها لغرض العِتقِ لها.

 

إلغاء ظاهرة الرقِّ لم يكن ميسوراً دون تمهيد:

ولو فرَضَ الإسلامُ على الناس تحريرَ ما يملكونَه من عبيدٍ وإماء لَما كان مثلُ هذا الفرضِ من الفروضِ القابلةِ للامتثال نظراً لما يترتَّبُ على هذا الفرض من مشقَّةٍ بالغة بل ولكان مثلُ هذا الفرضِ سبباً للحيلولة دون القبول بالإسلام عند الكثيرِ من الناس، لأنَّ إلغاء ظاهرة الرقِّ بالنسبة لهم يُساوقُ الإلغاءَ أو التفريطَ بمصالحِهم الحيويَّة كالتجارةِ والزراعةِ والعمرانِ، فالعبيدُ كانوا عصَبَ الحياة في مختلفِ المجتمعات، على أنَّ الإلغاء لظاهرةِ الرق يُساوقُ بنظرِهم التخلِّي عن القوَّةِ والمَنَعةِ، وهم أحرص شيءٍ عليها، لأنَّ المجتمعاتِ القبليَّة بل والمجتمعاتِ المتحضِّرة كانت تستطيلُ بعبيدها وتمتنعُ بهم، فهم كانوا مادَّةَ الحربِ ووقودَها، وبهم كانوا يستكثرون وهم مَن كان يسوسُ لهم دوابَّهم ومصالحَهم وبأيديهم يتمُّ تصنيعُ السلاحِ والعتاد، وعلى كواهلِهم تُشيَّد الحصونُ والقلاع.

 

تعميقُ القيم الفاضلة والتغيير الجذري لنمَطِ الحياة:

فلا يسعُ النبيُّ الكريمُ (ص) الإلغاء لظاهرةِ الرقِّ ابتداءً مالم يُمهِّد لذلك من خلال التغيير الجذري لنمَطِ حياتهم، ومن خلال التعميقِ لقيم الإسلام في قلوبِهم بما يُفضِي إلى الإيمانِ الوثيق عندهم بحريةِ الإنسان أيَّاً كان عِرقَه وجنسَه، وانَّ الناسَ سواسيةٌ كأسنانِ المُشط وأنَّهم جميعاً ينحدرونَ من سلالةٍ واحدة، فهم جميعاً لآدم، وآدمُ من تراب، وأنَّه لا تفاضلَ بينهم إلا بالتقوى، وأنَّ الحسبَ والنسبَ والجاهَ والثروةَ والقوَّةَ والكثرةَ وغيرَها من اعتباراتِ التفاضلِ عندهم ليست سوى وهمٍ وسرابٍ في المنظور الإسلامي، وأنَّ الإنسانَ "إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"(1) وأن كلَّ إنسانٍ يُولد حرَّاً ليس لأحدٍ عليه سبيل "متى تعبَّدتم الناسَ وقد ولدتهم أُمهاتُهم أحرارا"(2) هذه القيمُ وشبهُها يلزم تأصيلُها أولاً قبل الحكم بإلغاء مثل ظاهرةِ الرقِّ، فحينذاك يكون الحكمُ بالإلغاء مُفضياً لاستئصالِ هذه الظاهرة.

 

وليست هذه الظاهرةُ وحدها التي عمل الإسلامُ على استئصالها تدريجاً، فالكثيرُ مِن الظواهرِ الاجتماعيةِ السائدةِ في العصر الجاهلي عملُ الإسلامُ على استئصالِها أو تذويبِها أو تهذيبِها بنحو التدرُّج، وذلك من خلال التغيير المُمنهج لمنظومةِ القيم، ومِن خلال الاستحداثِ لأنماطٍ اجتماعيةٍ جديدة تتناغمُ مع القيمِ التي دأبُ على تأصيلِها والتي تُفضي في المحصَّلةِ إلى تذويبِ الظواهرِ السيئة التي كانت سائدةً بنحوٍ لا ينشأ عنه اختلالٌ في نظام الحياة ولا استيحاشٌ يحولُ دون القبولِ بالدين.

 

لم تكن ظاهرة الرقِّ وحدها بحاجةٍ إلى التدرُّج في الاستئصال:

فكان المجتمعُ مثلاً عشائرياً، كلُّ مائتين أو كلُّ ألفٍ أو ألفين من الناس يُشكِّلون مجتمعاً مستقلاً لا شأنَ له بالعشائرِ الأخرى إلا بما يحفظُ مصالحَه الخاصَّةَ والضيقة، وكثيراً ما تقتضي مصالحُهم المنابذةَ والحربَ والسلبَ ثم لم ينتبهوا إلا وهم مجتمعٌ واحد يمتدُّ بامتداد الجزيرةِ العربيَّةِ المتراميةِ الأطراف وقد ذابت بهدوءٍ في هذا المجتمعِ الكبير – بفعل الإسلام- كلُّ الحواجزِ القبليَّةِ والطبقيَّة، وأصبحت مصالحُهم واحدةً ومتشابكة بعد أن تأصَّلت فيهم قيمٌ مشتركة، فبعد أنْ كانوا أشتاتاً متناحرين صاروا إلى نمطٍ من الحياة مبايناً لِما كانوا عليه، فأصبحوا تحت زعامةٍ واحدة كالجسدِ الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائرُ الأعضاء بالسهر والحمَّى، فقد تحطَّمت بفعلِ الإسلام وحكمتِه البالغة كل ُّالحدودِ الجغرافيَّةِ والقبليَّةِ والطبقيَّة بعد أنْ وحَّدهم على ثقافةٍ واحدة وجذَّر فيهم قِيَماً تُفضي بطبيعتها إلى هذه الغاية التي كانت مرسومةً والتي لم يكن الإسلامُ بحاجةٍ إلى الإعلان عنها أكثرَ من حاجتِه إلى الدفعِ نحوها بخطىً ثابتة ومتأنية.

 

قيم الإسلام وخطاباتُه تُفضي لزوال الرقِّ تلقائياً:

وكذلك هو الشأن في ظاهرة الرقِّ، فإنَّ قيَمَ الإسلام وخطاباتِه وتشريعاتِه تُفضي في منتهى المطاف - لو رُوعيت- إلى ذوبان هذه الظاهرةِ إلا أنَّ حالة التراجع التي مُنيَ بها المسلمون لسوءِ اختيارهم أدَّت إلى أنَّ العديد من الظواهرِ الاجتماعيَّةِ السيئة التي عمل الإسلام على تذويبها بقيت ماثلةً أو عادت كما كانت بعد أنْ انتابها الضمور والانحسار.

 

فمنظومةُ القيم التي أصَّل لها الإسلام، ونمطُ الحياةِ الاجتماعيَّة التي أسَّس لها كان وحدهما كفلين في تذويب ظاهرة الرِقِّ إلى مستوى المحوِ لهذه الظاهرة وإلغائها من الوجود إلا أنَّ الإسلامَ لم يكتف بذلك بل وضع عدداً من التشريعات لو رُوعيت لساهمت في التسريع بعملية التذويب لهذه الظاهرة.

 

التشريعات تُسهِمُ في التسريع من زوال الرقِّ:

فمن التشريعات التي وضعها لذلك أنَّه ألغى جميع الوسائل التي بها يتمُّ الاسترقاق قبل الإسلام إلا ما كان في الحروب التي تقعُ بين المسلمين وخصوص الكفار، فمَن تمَّ أسرُه أو إثباته والحرب قائمةٌ قبل أنْ يُسلِم فهو رِقٌّ. وإبقاء هذه الوسيلة مشروعةً إنَّما كان لغرض النكاية بالأعداء المحاربين، فهم يعتمدونَ ذات الوسيلة، إذ أنَّ مَن يأسرونه من المسلمين أو يُثبتونه فإنَّهم يسترقُّونه، فكان لا بدَّ من مجازاتهم بجنس صنيعهم.

 

وبإلغاء الإسلام لوسائل الاسترقاق التي كانت سائدةً في العصر الجاهلي وتجفيف منابعه انحسرت هذه الظاهرة إلى حدٍّ كبير في المجتمع الإسلامي، إذ أنَّ كثرة الرقيق كان منشؤها النهبَ والسلبَ وقطعَ الطريق والغاراتِ والحروب البينيَّة التي كانت تقع بين القبائل، والمقامرةَ والاحتيالَ والغراماتِ والجناياتِ والرهنَ، وكلُّ هذه الوسائل وشبهِها أصبحت محرَّمةً، وقد اعتمد الإسلامُ في تصفيتها -مضافاً إلى ما أسَّس له من قيم- على ما فرضَه من تشريعاتٍ جنائية تُجرِّم كلَّ مَن اعتمد هذه الوسائل، ووضع تشريعاتٍ لفصل الخصومات ليس منها الاسترقاق وإنَّما كانت من قبيل الديات والغرامات والقصاص والحدود والتعزيرات، وكذلك فإنَّه اعتمدَ اسلوب النَظْم بالقوة لكلِّ مَن تجاوز هذه التشريعات.

 

ومن التشريعات التي وضعها لتذويبِ ظاهرة الرقِّ أنَّ كلَّ حرٍّ أولد أمةً فإنَّ هذه الأمةَ تُسمى أمُّ ولد، فيحرم بيعُها وهبتُها ثم إذا مات سيدُها فإنَّ هذه الأمةَ تنعتقُ بنصيب ولدها قهراً.

 

ومن التشريعات أنَّ كلَّ رجلٍ يملك عبداً أو أمةً فينكِّل به أو بها فإنَّه ينعتق عليه قهراً، وكذلك ينعتق العبد قهراً لو أصابه العمى أو الجذام أو صار مقعداً.

 

ومن التشريعات في ذلك أنَّ كلَّ ولد حرٍّ يُصبح مالكاً بميراثٍ أو غيره لأبيه العبد وإن علا أو امِّه الأمة وإنْ علت فإنَّه ينعتق عليه قهراً، وكذلك ينعتق عليه قهراً كل أولاده ذكورا وإناثا وإن نزلوا، وكذلك جميع محارمه من جهة النسب، وينعتق على المرأة كلا العمودين من الآباء والأمهات إذا ملكت أحدهم بميراث أو غيره.

 

ومن التشريعات في ذلك أنَّ مَن قتل مؤمناً خطأ لزمه مضافاً لدفع الدية إلى أهله أن يُعتق عبداً أو أمةً مؤمنة، وكذلك مَن قتل كافراً بينه وبين المسلمين ميثاق كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾(3).

 

ومن التشريعات في ذلك أنَّ مَن ظاهَرَ زوجته فلا يُباح له معاشرتُها قبل أنْ يُحرِّر عبداً، فإنْ كان له عبدٌ حرَّره وإلا لزمه شراء عبدٍ وتحريره كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(4).

 

ومن التشريعات في ذلك أنَّ من أفطر في نهار شهر رمضان على محرم لزمه مضافاً إلى صيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً أن يعتق رقبة مؤمنة كما هو مذهب مشهور الفقهاء، ومن أفطر على محلَّل لزمته إجماعاً إحدى خصال الكفارة والتي منها تحرير رقبةٍ مؤمنة.

 

ومَن نذر لله تعالى ثم حنث في نذره أو عاهد الله تعالى ثم حنث في عهده لزمته إحدى خصال الكفارة والتي منها تحرير رقبةٍ كما في معتبرة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألته عن رجلٍ عاهد الله في غير معصية ما عليه إنْ لم يفِ بعهده؟ قال: "يُعتق رقبة أو يتصدَّق بصدقةٍ أو يصوم شهرين متتابعين"(5).

 

وكذلك يجب بنظر المشهور على المرأة التكفير بإحدى خصال الكفارة والتي منها العتق لرقبة إذا جزَّت شعرها أو خدشت وجهها في المصيبة أو شقَّ الرجل ثوبه إذا فقَدَ ولده أو زوجته. كما في رواية خالد بن سدير أخي حنان بن سدير قال: سألتُ أبا عبد الله (ع): "... وإذا شقَّ زوجٌ على امرأته أو والدٌ على ولده فكفارته حنث يمين، ولا صلاة لهما حتى يكفِّرا أو يتوبا من ذلك، فإذا خدشت المرأة وجهها أو جزَّت شعرها أو نتفته ففي جزِّ الشعر عتقُ رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، وفي الخدش إذ أدميت وفي النتف كفارة حنث يمين.."(6).

 

ومن التشريعات التي وضعها الشارع في ذلك انَّه جعل التحرير للعبيد أو المساهمة في تحريرهم أحد مصارف الزكاة كما هو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(7)، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ أنَّ عِتقَ الرقاب "العبيد" أحد مصارف الزكاة. فللمكلَّف أن يشترىَ العبيد بما عليه من زكاة أموالِه ويُعتقُهم.

 

وكذلك فإنَّ الشارع حثَّ على قبول المالك بمكاتبة العبد وهو أنْ يأذن له في أنْ يسعى في تحرير نفسه، فيتوافق معه على مقدارٍ من المال فيسعى العبد في تحصيل ذلك المال بالكسب والاستعانة بالمؤمنين والزكوات قال تعالى: ﴿.. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ﴾(8).

 

هذا مضافاً إلى الآيات والرويات التي تفوق حدَّ التواتر والتي حثَّت على الإعتاق للعبيد واعتبرته من أعظم القربات لله جل وعلا، فمن الآيات قوله تعالى: ﴿.. وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾(9)، فالآية المباركة اعتبرت الإعتاق للرقاب من من البرِّ وجعلته في سياق الإيمان بالله تعالى وإقامة الصلاة والإيتاء للزكاة.

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ / فَكُّ رَقَبَةٍ / أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ (10) ومفاد الآية أنَّ فكَّ الرقبة من العبوديَّة أحدُ أسباب النجاة من النار يوم القيامة.

 

وأما الروايات فمنها معتبرة زرارة عن أبي جعفر (ع)، قال: قال رسولُ الله (ص): "من أعتقَ مسلماً أعتق الله العزيزُ الجبَّارُ بكلِّ عضوٍ منه عضواً من النار"(11).

 

ومنها: معتبرة حفص بن البختري عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع) أنَّه قال في الرجل يعتق المملوك؟ قال: "يعتق اللهُ عزَّ وجلَّ بكلِّ عضوٍ منه عضواً من النار"(12).

 

ومنها: معتبرة أبي أسامة زيد الشحام عن أبي عبد الله (ع): "انَّ أمير المؤمنين (ع) أعتقَ ألفَ مملوكٍ من كدِّ يده"(13).

 

فمثل هذه التشريعات وكذلك القيم التي أصَّل لها الإسلام والتي تُشدِّد على حرمة كلِّ بني الإنسان على اختلاف أعراقِهم وأنَّه لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى وأن الحرية حقٌّ أصيل لكلِّ مولود أيَّاً كان جنسُه وعِرقُه لا سبيل لأحدٍ عليه.

 

هذا مضافاً إلى النظام الاجتماعي والسياسي الذي أسَّس له الإسلام والذي يُفضي بمقتضى طبيعته إلى عدم ترتُّب أيِّ محذور من إلغاء ظاهرة الرقِّ.

 

كلُّ ذلك لو تمَّت رعايته لأفضى إلى اضمحلال ظاهرة الرقِّ في زمنٍ قصيرٍ من تاريخ الإسلام إلا أنَّ جشعَ الحكَّام اللذين هيمنوا ظلماً على مقدَّرات المسلمين وهوسَهم بالفتوحات غير المبرَّرة وسوءَ إدارتهم وجهلَهم بمقاصد الشريعة أدَّى إلى امتداد هذه الظاهرة المقيتة إلى وقتٍ متأخر.

 

وخلاصة القول: وخلاصة القول: إنَّ ظاهرة الرقِّ والاستعباد كانت سائدةً في مختلف المجتمعات دون استثناء العربيَّة وغيرها، وقد اختار الإسلامُ الإقرارَ بهذه الظاهرة ومعالجتَها بالتدريج نظرًا لاستحكامِها وتجذُّرِها في المكوِّن المجتمعي بنحوٍ يترتَّب على الحكم بإلغائها دفعةً واحدة مفاسدُ كثيرة، لذلك اختار الإسلامُ معالجةَ هذه الظاهرةِ الاجتماعيَّة بشيءٍ من التأنِّي، فكان ما أسَّس له من أحكامٍ عامَّة والأحكام الخاصَّةِ المتَّصلة بظاهرة الرقِّ تُفضي في المآل إلى غياب هذه الظاهرةِ الاجتماعيةِ تلقائيًا ودونَ مفاسد.

 

الإسلام اعتمد مسارين في معالجة ظاهرة الرقِّ:

فالإسلامُ قد اتَّخذ في سبيل معالجة ظاهرة الرقِّ مسارين في عرضٍ واحد، ففي الوقت الذي أقرَّ بظاهرة الرقِّ وتعاطى مع هذه الظاهرة على أساس أنَّها واقعٌ يحتاج إلى تهذيب في الوقت ذاته اتَّخذ مسارًا آخر يُنهي به ظاهرة الرقِّ تدريجًا وبذلك تنتفي الأحكام المجعولة للإنسان بصفته عبدًا مرقوقًا لأنَّه سيُبصبح حرًّا فتجري عليه أحكام الأحرار.

 

فالإسلام في المسار الأول وإنْ كان قد تعاطى مع ظاهرة الرقِّ وشرَّع أحكامًا مبتنية على الإقرار بهذه الظاهرة إلا أنَّ هذه الأحكام التي شرَّعها كانت إحدى أهم غاياته منها التهذيب للأحكام والأعراف التي التي كانت سائدة والتقليص من الفوارق بين حقوق الأحرار وحقوق العبيد بحيثُ أصبحت الفوارق محدودة بما يُمهِّد لإلغاء هذه الظاهرة.

 

وأمَّا المسار الثاني فقد وضع الإسلام عددًا من الأحكام والتشريعات تُفضي في المآل إلى التقليص من ظاهرة الرقِّ أولًا ثم إلى إلغاء وجودها انتهاءً، فهو من جهةٍ جفَّف منابعَ الشيوع لهذه الظاهرة وذلك بإلغاء التشريع لمعظم أسبابها وحصر تشريع الاستعباد بأُسارى الحرب، ومن جهةٍ أخرى وضع أحكامًا وتشريعاتٍ فرضَ فيها على المؤمنين الإعتاق للعبيد.

 

كلُّ ذلك مضافًا إلى الكثير من الخطابات الشرعية التي تحثُّ على الإعتاق وتعتبره من أفضل القرُبات عند الله تعالى والسيرةِ العملية لأهل البيت (ع) حيث حرصوا ما وسِعهم على شراء العبيد وإعتاقهم.

 

إنَّ الإسلام وإنْ اختار الإقرار بظاهرة الرقِّ درءً لمفاسدَ كبرى نظرًا لتغلغل هذه الظاهرة في المكوِّن الاجتماعي إلا أنَّه ورغم ذلك حرص على تقليص هذه الظاهرة تمهيدًا لإلغائها، وكان المقدَّر لهذه الظاهرة أنْ تزول في وقتٍ قريبٍ من ظهور الإسلام لا يتجاوزُ العقودَ الأولى من صدر الدعوة لولا جشعُ الحكَّام الذين تعاقبوا على إدارة شؤون العالم الإسلامي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلىِّ العظيم.

 

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(14).

 

والحمد لله رب العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

27 من جمادى الثاني 1444هـ - الموافق 20 يناير 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

----------------------------------------------------

1- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ص427، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج33 / ص600.

2- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج11 / ص98.

3- سورة النساء / 92.

4- سورة المجادلة / 3.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج22 / ص395.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج22 / ص402.

7- سورة التوبة / 60.

8- سورة النور / 33.

9- سورة البقرة / 177.

10- سورة البلد / 11-14.

11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج23 / ص9.

12- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج23 / ص9.

13- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص74.

14- سورة الكوثر / 1-3.