الإمام الجواد (ع): "ولا هدْمَ للدينِ مثلُ البِدَعِ .." -2

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربِّ العالمين، اللّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ وَلَكَ المَجْدُ وَلَكَ العِزُّ وَلَكَ الفَخْرُ وَلَكَ القَهْرُ وَلَكَ النِّعْمَةُ وَلَكَ العَظَمَةُ وَلَكَ الرَّحْمَةُ وَلَكَ المَهابَةُ وَلَكَ السُّلْطانُ وَلَكَ البَهاءُ وَلَكَ الاِمْتِنانُ وَلَكَ التَّسْبِيحُ وَلَكَ التَّقْدِيسُ وَلَكَ التَّهْلِيلُ وَلَكَ التَّكْبِيرُ وَلَكَ ما يُرى وَلَكَ مالا يُرى وَلَكَ ما فَوْقَ السَّماواتِ العُلى وَلَكَ ما تَحْتَ الثَّرى وَلَكَ الأَرْضُونَ السُّفْلى وَلَكَ الآخرةُ وَالأوّلى وَلَكَ ما تَرْضى بِهِ مِنَ الثَّناءِ وَالحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالنَّعْماءِ، صلِّ على محمد وآل محمد الطاهرين وانْفّعْنا بِحُبِّهِمْ وَأَوْرِدْنا مَوْرِدَهُمْ وَارْزُقْنا مُرافَقَتَهُمْ وَأَدْخِلْنا الجَنَّةَ فِي زُمْرَتِهمْ بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

 

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّ التقوى غايةٌ لا يهلكُ من اتَّبعها، ولا يندمُ من عَمِلَ بها، لأنَّ بالتقوى فاز الفائزون، وبالمعصيةِ خَسِر الخاسرون، إنَّ مَن فارقَ التقوى أُغري باللَّذات والشهوات، ووقعَ في تَيهِ السيئات، ولزِمه كبيرُ التبعات.

 

منشأ خطورة البدع:

المحور الرابع: حول ما أفاده الإمام أبو جعفرٍ الجواد (ع) من أنَّه ليس من شيءٍ يهدمُ الدين مثلُ البدع، فوسائلُ النقضِ والتقويض لبُنى الدين عديدةٌ إلا أنَّ أمضاها وأكثرَها فاعليَّةً وأشدَّها تدميراً في ذلك هي البدعُ في الدين، فالبدعةُ تعني في الواقعِ أنْ يتعدَّد الواضعُ للدين والمشرِّعُ له، فبعد أنْ كان الدينُ من عند الله وحده، فهو المبيِّنُ وحده لما يتعيَّنُ الاعتقادُ به وهو المشرِّعُ وحدَه لأحكامِه وفرائضِه وسننِه، وهو المعرِّف وحده بالوسائلِ الكاشفة عمَّا هو من الدين وما هو ليس من الدين كما قال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾(1) فبعد أنْ كان الدينُ من عند الله وحدَه يُصبح مع البدع -لو قُدِّر لها أنْ تروج- مزيجاً من دينٍ جاء من عند الله تعالى ودينٍ من وضع البشر، فالبِدَع -كما اتَّضح- تعني الاستحداث لتشريعاتٍ ومعتقداتٍ ووسائلَ لإنتاجِ تشريعاتٍ ومعتقداتٍ وعدِّها ضمنَ دين الله تعالى، فيُصبحُ الدينُ معها مزيجاً من تشريعاتٍ إلهيَّة وأخرى وضعيَّة، ومعتقدات إلهيَّة وأخرى بشرَّيَّة.

 

ولذلك وصف القرآنُ المُبتدعة بالأرباب التي تُعبدُ من دون الله تعالى، ذلك لأنَّهم بما ابتدعوه من أحكام وبما اختلقوه من مُعتقدات قد شاركوا اللهَ تعالى في وضع الدين، وهذا هو معنى ما أفاده أبو عبد الله الصادق (ع) كما في معتبرة ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ أنَّه سأل أبا عَبْدِ اللَّه (ع) عن قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله﴾ فَقَالَ (ع): "أَمَا واللَّه مَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ ولَوْ دَعَوْهُمْ مَا أَجَابُوهُمْ ولَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاماً وحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلَالاً فَعَبَدُوهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُون"(2).

 

وفي معتبرة أُخرى لأَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي قَوْلِ اللَّه جَلَّ وعَزَّ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله﴾ فَقَالَ (ع): "واللَّه مَا صَامُوا لَهُمْ ولَا صَلَّوْا لَهُمْ ولَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاماً وحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلَالاً فَاتَّبَعُوهُمْ"(3).

 

فالقرآنُ المجيد اعتبر المُبتدِعةَ في الدين بمنزلة الأربابِ التي تُعبدُ من دون الله، وذلك لأنَّهم جعلوا من أنفسهم شركاء لله تعالى في وضع الدين.

 

ولك أنْ تتصوَّر ديناً اختلط فيه ما هو إلهيٌّ معصوم بما هو بشريٌّ قاصرٌ عن الإحاطة بالحقائق وعن الاستيعاب لأوجهِ المصالح والمفاسد وتتحكَّم فيه الأهواءُ والمصالحُ الشخصية والفئوية وعبثُ المنافقينَ ممَّن يُضمرونَ العِداءَ لدين الله تعالى ويتظاهرونَ بالتنسُّك والانتماء للدين. إنَّ ديناً يكون كذلك دينٌ مشوُّهٌ ممسوخٌ لا تصحُّ نسبتُه إلى الله تعالى.

 

خطورة البدع تتبيَّنُ من ملاحظة تاريخ الأديان:

ويكفي للوقوفِ على حجم الخطورة التي تنشأ عن البدع وأهلِ البدع الملاحظةُ لتاريخ الأديانِ التي اِنحرفتْ عن صراط الله تعالى، فإنَّ منشأ انحرافِها إلى مستوى المسخِ الكامل هو رواجُ البدع واعتمادُ مخاريق المبتدعين. فمِن أينَ جاء التثليثُ للنصارى فقالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾(4) وهم يزعمونَ أنَّهم على منهاج السيِّد المسيح، وكيف أصبحَ السيِّدُ المسيح إلهاً يُعبدُ مع الله تعالى، ألم ينشأ ذلك من دعوى المُبتدعين من أتباع المسيح أنَّ السيَّد المسيح هو من جاءهم بذلك كما أخبر القرآن عن زعمِهم بقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ .. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾(5) فهم قد اعتقدوا بأنَّ المسيح هو الله وزعموا أنَّ المسيحَ هو من أخبرهم عن ذلك فنسبوا له ولدين الله ما ليس منه وهذا معنى البدعةِ في الدين.

 

وكذلك هو الشأنُ في انحرافات اليهود فإنَّها نشأت عن أراجيف المُبتدعة من اليهود فنسبوا لله تعالى ولموسى (ع) ما لم يقلْه ونسبوا للتوراة ما ليس منه كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(6) فالآيةُ تُقرِّرُ أنَّ الانحرافَ الواسع في دين اليهود نشأ عمَّا كان ينسبُه أتباعُه كذباً على الله جلَّ وعلا وما كانوا ينسبونه للتوراة والواقعُ أنَّه ليس من التوراة، وهذه هي البدعة التي نتحدَّثُ عنها وقد وصفها القرآن المجيد بالتحريف في أكثرِ من موضع كما في قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾(7).

 

فالانحرافاتُ الكبيرةُ والخطيرةُ التي آلتْ إليها الرسالات والتي بلغت حدَّ الشركِ الصريح والمسخِ الكامل لدين التوحيد كما أخبر القرآن بذلك عن اليهود والنصاري قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ / اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(8).

 

انحرافاتُ الأديانِ الكبيرة إنَّما نشأت عن بِدَع المبتدعين:

فهذه الانحرافاتُ الكبيرة والخطيرة إنَّما نشأت عن بدع المبتدعين ونسبةِ ما ليس من الدين إلى الدين، فهي تبدأ محدودةً وبقضايا قد لا تَمَسُّ جوهرَ الدين إلا أنَّه وبتمادي الزمن تتضخمُ وتستشري بهدوء لتطالَ بعدَه جوهرَ الدين وأصولَه ومرتكزاتِه فتَمسخُ حقائقَه ومبانيه وتعبثُ بتشريعاته.

 

ولهذا أفاد الإمامُ أبو جعفرٍ الجواد (ع) أنَّه ليس من شيءٍ يهدمُ الدين مثلُ البدع، وأفاد أميرُ المؤمنين (ع) كما في موثقة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالاً، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعاً فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه ونَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنَى"(9).

 

المُبتدع يستعينُ بالحقِّ لتسويقِ الباطل:

فالمبتدعُ حين يسعى لترويج بدعته يعملُ على تغليفِها بظاهر الحقِّ أو يمزجُ الباطلَ بالحقِّ، ويستعينُ بالحقِّ على تسويق الباطل، فلو أنَّه جاء بالباطل محضاً لتقطَّن الناس إلى بدعته لكنَّه لا يفعلُ ذلك بل يُغلِّف باطلَه بالحقِّ أو يمزجُه بالحقِّ لذلك يفتتنُ الناسُ من البسطاء ومن غير ذوي البصيرة ببدعته.

 

بدعةُ الوقف مثالاً:

ويُمكن التمثيلُ لذلك ببدعة الوقف التي وقعتْ في عهد الإمام الرضا (ع) والتي ابتدعها الواقفة أمثال عليِّ بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي (10) فلكي يُروِّجوا لبدعتهم وزعمهم أنَّ إمامة أهل البيت (ع) تنتهي عند الإمام الكاظم (ع) وأنَّه لا إمام بعده قالوا إنَّ الإمام الصادق (ع) وصف الإمام موسى بن جعفر بالقائم أي بقائم آل محمد (ص) وهذا القول حقٌّ دون ريب فإنَّ الإمام الكاظم(ع) قائم آل محمد (ص) لكنَّهم استعانوا بهذا القول الحقِّ لترويج دعواهم بانقطاع الإمامة عند الإمام الكاظم (ع) والحال أنَّ الإمام الصادق (ع) كان يعني مِن وصف الإمام الكاظم بالقائم هو أنَّه الإمام القائم بعده، فكلُّ إمام من أئمة أهل البيت (ع) فهو القائمُ في زمان إمامته، فالإمامُ الصادقُ (ع) مثلاً هو قائم آل محمد (ص) في زمان إمامته، كما صرح بذلك الإمام الباقر(ع) في صحيحة جابر بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (ع) قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْقَائِمِ (ع) فَضَرَبَ بِيَدِه عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) -الصادق- فَقَالَ هَذَا واللَّه قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (ص) قَالَ عَنْبَسَةُ: فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَأَخْبَرْتُه بِذَلِكَ فَقَالَ: صَدَقَ جَابِرٌ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَرَوْنَ أَنْ لَيْسَ كُلُّ إِمَامٍ هُوَ الْقَائِمَ بَعْدَ الإِمَامِ الَّذِي كَانَ قَبْلَه"(11).

 

فالقائم وصفٌ ينطبقُ على كلِّ إمامٍ من أئمة أهل البيت (ع) كما في صحيحة أَبِي خَدِيجَةَ سالم بن مكرم عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أَنَّه سُئِلَ عَنِ الْقَائِمِ فَقَالَ: كُلُّنَا قَائِمٌ بِأَمْرِ اللَّه وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُ السَّيْفِ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ السَّيْفِ جَاءَ بِأَمْرٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَ"(12) وفي رواية عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ قَالَ: إِمَامِهِمُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وهُوَ قَائِمُ أَهْلِ زَمَانِه"(13).

 

فالإمام الكاظم (ع) هو قائم آل محمد (ص) في زمانِ إمامته، وهكذا هو الشأن في الإمام الباقر والإمام الرضا والجواد والهادي والعسكري(ع) فكلُّ إمام من أئمة أهل البيت (ع) فهو القائم في زمان إمامته.

 

فأصحابُ بدعة الوقف استعانوا بالحقِّ لترويج باطلِهم، وفسَّروه على غير وجهه وتنكَّروا للنصوص المتواترةِ والصريحة والتي دلَّت على أنَّ الائمة بعد رسول الله (ص) اثنا عشر إماماً قد نصَّ عليهم الرسول (ص) بأسمائهم وأسماءِ آبائهم.

 

وكذلك فإنَّ المبتدِعَ يستعينُ لترويج بدعته بما يأتي به من صدق في بعض إخباراته ومواقفه فيتوهَّم الناس أنَّه صادق لا يكذب فيُذعنون لدعوته ويقبلون ببدعته كما وقعَ ذلك لمثل أحمد بن هلال العبرتائي، وابن أبي العزاقر الشلمغاني صاحب كتاب التكليف المشتمل على الكثير من الصدق وقد خرج التوقيعُ الشريف بلعنه والبراءة منه(14). وكذلك يستعينُ المبتدع بتأريخه وعلاقاته فلا يتوقع الناس منه الكذب والنفاق، ولذلك كان الإمام عليٌّ (ع) في زمن الفتنة يؤكدُ بأنَّ الحقَّ لا يُعرف بالرجال اعرف الحقَّ تعرفْ أهلَه واعرف الحقَّ تعرفْ مَن أتاه(15).

 

والمتحصَّل أنَّ خطورة البدع وأهلها تكمنُ في سببين أساسيين:

 

بدع وشبهات المنتمين للدين أيسر رواجاً من شبهات الأعداء

السبب الأول: أنَّ رواجها أيسرُ من رَواج الضلالات والشبهات التي يُثيرها المضلِّون من خارج الدين، فالذين هم من خارج الدين لا يخفى على المؤمنينَ عداؤهم للدين، لذلك فهم يحذرونهم ولا يُصغون إلى شبهاتهم، ولو بلغتهم شبهةٌ عنهم فلم يُحسنوا معالجتها فإنَّ إدراكهم لكون مثيرها من أعداء الدين يكونُ مانعاً في الغالب دون القبول بها أو لا أقلَّ من التشكيك في صوابيتها، وهو ما يدفعهم لمراجعة ذوي الاختصاص للوقوف على وهْنِ الشبهة وفسادها، وأمَّا حينما تصدرُ الشبهة أو البدعة من أبناء الدين فإنَّها تُصاغ بلغة الحِرص على الدين ويتمُّ تلبيسُها بلباس الدين فيخفى على البسطاء من غير ذوي البصيرة فسادُها ومناقضتها للدين، لذلك فهم يُذعنون لها أو لا يَرون فيها بأساً، ويتعزَّز استحكام البدعة في أوساطهم أنَّ مبتدعها غيرُ متَّهمٍ بالعِداء للدين لذلك، فهم لا يجدون حاجة للتثبُّت من صحتها وبذلك يدبُّ الانحرافُ ويستشري إلى أنْ يتفاحشَ ويتعاظمَ ويكون من العسير تداركُه، ولهذا شدَّد الرسولُ الكريم (ص) وكذلك أهلُ البيت (ع) على ضرورة تصدِّي العلماء لمعالجة ما يطرأ من بدعٍ أو شبهات وأنْ لا ينتظروا بها إلى أن تستحكم، وذلك هو مؤدَّى ما ورد عن الرسول (ص) أنَّه: "إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَه فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْه لَعْنَةُ اللَّه"(16).

 

وما ورد عن الصادِقينَ (ع) أنَّه: "إذا ظهرت البدعُ فعلى العالمِ أنْ يُظهرَ علمَه فإنْ لم يفعلْ سُلبَ نورَ الإيمان"(17).

 

البدع إذا استحكمت صارت جزءً من الدين:

السبب الثاني: هو أنَّ الانحرافات التي تأتي من خارج الدين قد يتأثرُ الناس بها وينساقون إليها ولكنَّهم يُدركونَ أنَّ ذلك انحرافٌ عن دين الله فإمَّا أن يخرجوا من الدين أو يشعروا بالتأثُّم وأنَّه ينبغي لهم العودةُ إلى دين الله وأصوله وقيمه ومبادئه، وأمَّا البدع فإنَّها إذا راجت واستحكمتْ فإنَّها تُصبحُ بعد حينٍ جزءً من الدين، فيكون الدينُ مع البدع مزيجاً من تشريعاتٍ إلهيَّة وأخرى وضعيَّة، ومُعتقدات إلهيَّة وأخرى بشرَّيَّة، فيتديَّن الناسُ بغير شرع الله ويعتقدونَ بغير ما جاء من عند الله تعالى. وبتمادي الأزمان يُبنى على تلك البدع التي صارت جزءً من الشريعةِ والعقيدة وتُستحدَث بدعٌ تلوَ بدع إلى أنْ يُصبح دين الله مِسخاً لا يبقى منه إلا اسمُه ورسمه، وهذا هو ما وقع للأديان التي سبقت الإسلام بل إنَّ الكثير من الديانات الوثنيَّة التي لا تنتمي إلى نبيٍّ أو كتابٍ سماوي كانت في بداية نشوئها على دين التوحيد الذي جاءت به الأنبياء إلا أنَّ بدع المضلِّين التي استحدثها المنتمون لتلك الديانات انحرفت تدريجاً بتلك الديانات عن صراط اللهِ تعالى إلى أنْ أصبحت في موقع النقيض لدين التوحيد.

 

ومن ذلك يتَّضح منشأُ تشديد القرآن المجيد والرسولِ الكريم (ص) على لزوم الاعتصام بما جاء عن الله محضاً وأنَّ الطريقَ الضامن للأمن من الضلال هو التمسُّك بكتاب الله تعالى وعترة أهل بيته (ع) فإنَّهما لن يفترقا إلى قيام الساعة كما أفاد رسول الله (ص): إنِّي مخلف فيكم الثقلين ما إنْ تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنَّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض(18).

 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(19).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

18 من رجب المرجَّب 1444هـ - الموافق 10 فبراير 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

---------------------------------------------

1- سورة الزمر / 3.

2- الكافي -الكليني- ج1 / ص53.

3- الكافي -الكليني- ج1 / ص53.

4- سورة المائدة / 73.

5- سورة المائدة / 116-117.

6- سورة آل عمران / 78.

7- سورة النساء / 46.

8- سورة التوبة / 30-31.

9- الكافي-الكليني- ج1 / ص54.

10- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص63.

11- الكافي -الكليني- ج1 / ص307.

12- الكافي -الكليني- ج1 / ص536.

13- الكافي -الكليني- ج1 / ص537. 

14- الفهرست -الطوسي- ص224، رجال النجاشي-النجاشي- ص378، الغيبة -الطوسي- ص373.

15- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص135، الأمالي -الطوسي- ص626، أشراف الأنساب -البلاذري- ج2 / ص274، تاريخ اليعقوبي-اليعقوبي- ج2 / ص210.

16- الكافي-الكليني- ج1 / ص54.

17- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص103.

18- الكافي -الكليني- ج2 / ص415. راجع كتاب حديث الثقلين لنجم الدين العسكري

19- سورة العصر / 1-3.