الجنابة للمرأة بالاحتلام

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل تتحقَّق الجنابة من المرأة بالإنزال في اليقظة والمنام أم أنَّ ذلك يخصُّ الرجل؟

الجواب:

اختلفت الروايات في ذلك، فمفادُ بعضها أنَّ الجنابة تتحقَّق من المرأة بالإنزال في اليقظة والمنام تماماً كما هو الشأنُ في الرجل، وفي مقابل ذلك أفاد العديد من الروايات أنَّ الجنابة من المرأة لا تتحقَّق إلا بالمعاشرة وأمَّا الإنزال منها بالمداعبة أو في المنام فلا يُوجب حدث الجنابة والغسل للمرأة.

أمَّا الطائفة الأولى من الروايات:

فمنها: صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا (ع) عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ الْمَرْأَةَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وتُنْزِلُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا غُسْلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ"(1).

ومنها: صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي الْمَنَامِ مَا يَرَى الرَّجُلُ قَالَ: إِذَا أَنْزَلَتْ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ، وإِنْ لَمْ تُنْزِلْ فَلَيْسَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ"(2).

وأمَّا الطائفة الثانية:

فمنها: صحيحة عمر بن يزيد، قال: «اغتسلتُ يوم الجمعة بالمدينة ولبستُ ثيابي وتطيَّبت فمرَّت بي وصيفةٌ لي ففخذتُ لها فأمذيتُ أنا وأمنتْ هي، فدخلني مِن ذاك ضيقٌ، فسألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن ذلك؟ فقال: ليس عليك وضوء وليس‏ عليها غسل"(3).

ومنها: صحيحة عمر بن أُذينة قال: قلتُ لأبي عبد اللَّه (عليه السلام): "المرأةُ تحتلم في المنام فتُهريق الماء الأعظم، قال: ليس عليها غسل"(4).

وعليه لابدَّ من معالجة التعارض الواقع بين الطائفتين، وقد ذُكرت لذلك وجوه عدَّة لمعالجة التعارض:

المعالجة بالجمع العرفي وجوابه:

الوجه الأول: أنَّ التعارض بين الطائفتين غير مستحكِم، وذلك لإمكان الجمع العرفي بينهما، فالطائفة الأولى ظاهرةٌ في وجوبِ غسل الجنابة على المرأة بالإنزال، وأمَّا الطائفة الثانية فصريحةٌ في نفي الوجوب، ولهذا يكون مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين هو حمل الظاهر على الصريح، بمعنى أنَّ الطائفة الثانية لصراحتها تكون قرينةً على أنَّ المستظهر بدواً من الطائفة الأولى ليس مراداً جدَّا.

وبتعبير آخر: إنَّ الأمر بالغسل في الطائفة الأولى يحتملُ الوجوب ويحتملُ الاستحباب، نعم الاحتمال الأول هو المستظهَر بدواً من الأمر بالغسل إلا أنَّ هذا الظهور ينتفي عرفاً بقرينة الطائفة الثانية الصريحة في نفي الوجوب، ولذلك يتعيَّن ببركة الطائفة الثانية حمل الأمر بالغسل في الطائفة الأولى على الاستحباب.

وأجاب السيِّد الخوئي (رحمه الله)(5) عن هذا الوجه بما حاصله: أنَّ الجمع العرفي -بحمل الأمر بالغسل على الاستحباب بقرينة صراحة الطائفة الثانية في نفي الوجوب عن الغسل- يتمُّ لو كانت الأوامر والنواهي تكليفيَّة، إلا أنَّ الأمر بالغسل في الطائفة الأولى ليس من الأوامر التكليفية بل هو أمرٌ إرشادي، فالأمر بالغسل بعد الاإنزال ظاهر في الإرشاد إلى مانعية الإنزال وأنَّه لا تصحُّ معه الصلاة دون غسل، وأمَّا الطائفة الثانية النافية لوجوب الغسل فظاهرة في الإرشاد إلى عدم مانعية الإنزال، والعلاقة بين المانعية وعدم المانعية هو التعارض المستقِر الذي لا يُمكن معه الجمع العرفي، ولهذا يتعيَّن الرجوع إلى مرجِّحات باب التعارض ومع عدمها يكون المتعيِّن هو التساقط والرجوع إلى العمومات الفوقانيَّة إنْ وُجدت.

المقام من تعارض الحجَّة مع اللاحجَّة:

الوجه الثاني: هو البناء على سقوط الطائفة الثانية عن الحجيَّة، وذلك لإعراض المشهور عن العمل بها، فالتعارض بين الطائفتين وإنْ كان مستحكِماً إلا أنَّه مِن تعارض الحجَّة مع اللاحجَّة، إذ لا حجيَّة للطائفة الثانية حتى لو لم يكن لها معارِض، وذلك لإعراض المشهور عن العمل بها. ولهذا يتعيَّن العمل بالطائفة الأولى لواجديتها لشرائط الحجيَّة في نفسها، ولا مانع من العمل بها سوى وجود المعارِض والمفترض أنَّ المعارِض ساقطٌ عن الحجيَّة في نفسه.

وأُجيب عن هذا الوجه بأنَّه مبنيٌّ على دعوى أنَّ إعراض المشهور موجبُ لسقوط المعرَض عنه عن الحجيَّة، فإذا تمَت هذه الدعوى وتمَّ التثبُّت من الإعراض فالوجهُ المذكور صحيح، فالوجه المذكور مبنائيٌّ.

إلا أنَّ الصحيح هو أنَّ الوجه المذكور يكون مبنائياً لولم يبلغ الإعراض حدَّا يُعدُّ معه العامل بالرواية المُعرَض عنها شاذاً، والمقام من هذا القبيل فإنَّه لا عامل بمفاد الطائفة الثانية مطلقاً من المتقدِّمين والمتأخرين، فثمة تسالمٌ على عدم العمل بمفاد الطائفة الثانية رغم كثرتها وصحَّة أسانيد الكثير منها، وهو ما يزيد مِن وهنها، والاطمئنان بعدم صدورها لبيان الحكم الواقعي، ولذلك فالصحيح أن التعارض بين الطائفتين من تعارض الحجَّة مع اللاحجَّة.

الترجيح بالمرجح الجهتي:

الوجه الثالث: ترجيح الطائفة الأولى لكون الطائفة الثانية موافقة في مفادها لفتوى بعض العامَّة كما ذكر ذلك صاحب الوسائل(6) فتُحمل لذلك على التقية واستقرب ذلك صاحب الحدائق(7) وإن كان لم يقف كما أفاد على مَن أفتى منهم بذلك. 

فإن تمَّت هذه الدعوى وإلا فالوجه هو سقوط كلا الطائفتين عن الحجيَّة ويكون المرجع هو العمومات الفوقانيَّة، وهي الروايات التي أفادت أنَّ غسل الجنابة إنَّما يجبُ بخروج الماء الأكبر كصحيحة الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ عن أبي عَبْدِ اللَّه (ع): ".. وقَالَ كَانَ عَلِيٌّ (ع) يَقُولُ: إِنَّمَا الْغُسْلُ مِنَ الْمَاءِ الأَكْبَرِ فَإِذَا رَأَى فِي مَنَامِه ولَمْ يَرَ الْمَاءَ الأَكْبَرَ فَلَيْسَ عَلَيْه غُسْلٌ"(9) فمقتضى الإطلاق -كما أفاد السيد الخوئي(8)- هو عدم الفرق بين الرجل والمرأة، فكلٌّ منهما بمقتضى الإطلاق يجب عليه الغسل بإنزاله للماء الأكبر.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

28 / رجب المكرم / 1444ه

20 / فبراير / 2023م

------------------------------

1- الكافي -الكليني- ج3 / ص47، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج2 / ص186.

2- الكافي -الكليني- ج3 / ص47، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج2 / ص187.

3- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج1 / ص121، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج2 / ص191.

4- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج1 / ص123، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج2 / ص192.

5- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج6 / ص243.

6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج2 / ص192.

7- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج3 / ص16.

8- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج6 / ص243.

9- الكافي -الكليني- ج3 / ص48.