إسناد عيسى الإحياء لنفسه هل هو حقيقي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

سماحة الشيخ الجليل:

قوله تعالى على لسان عيسى(ع): ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.

 

 هذه آية من المحكمات وهي صريحة في المعنى، فهل يتعارض ذلك مع القول إنَّ كلام عيسى (ع) كان على سبيل المجاز؟ أي أنَّه كان يدعو ولكنَّه نسب لنفسه الاحياء مجازا؟

 

الجواب:

الظاهر أنَّ معنى قوله تعالى على لسان عيسى(ع): ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾(1) هو أنَّه يُحيي الموتى بتمكين الله تعالى وإقداره، فالإحياء منسوبٌ حقيقةً لعيسى (ع) ولكنَّ قدرته على الإحياء كان بإقدار الله تعالى وتمكينه تماماً كما هو الكلام والمشي والأكل بالنسبة لنا فهو مسندٌ لنا حقيقةً ولكن بإقدار الله تعالى وتمكينِه.

 

وأمَّا دعوى أنَّ في الآية مجازاً في الإسناد بمعنى أنَّ عيسى (ع) قد أضاف الإحياء إلى نفسه على سبيل المجاز والتوسُّع، فالإحياءُ مضافٌ حقيقةً لله تعالى، وأما إضافة عيسى(ع) الإحياء لنفسه فهو من إضافة الشي إلى غير ما هو له، لذلك فهو من المجاز في الإسناد، تماما كما هو الحال في قولنا: أنبت الربيعُ البقل، فإنَّ إضافة الإنبات للربيع من المجاز في الإسناد، والمصحِّح لإسناد عيسى (ع) الإحياء لنفسه هو أنَّ الله تعالى كان يحيي الموتى عند دعائه.

 

هذه الدعوى وإن كانت محتملة ولكنَّها خلاف الظاهر، فإنَّ المستظهَر عرفاً من إسناد الفعل للنفس هو أنَّه إسنادٌ حقيقي ما لم تقُم قرينةٌ على إرادة المجاز، وليس في المقام قرينةٌ على إرادة المجاز إلا استبعاد نسبة الإحياء لغير الله تعالى، وهذا الاستبعاد ينتفي عند الالتفات إلى أنَّ الإحياء الذي نسَبه عيسى (ع) إلى نفسه كان بإذن الله تعالى وإقداره وتمكينه، فالشأن في إحياء الموتى كالشأن في إبراء الأكمه والأبرص، فإنَّ عيسى أسند فعل كلَّ ذلك إلى نفسه وقيَّده بإذن الله، فكما أنَّه لا محذور- عند صاحب الدعوى- في كون الإسناد حقيقياً في الموردين كذلك لا محذور في كون إسناد الإحياء لنفسه حقيقيَّاً.

 

وإذا كان المانع من كون الاسناد حقيقياً هو أنَّ عيسى (ع) عاجزٌ عن الإحياء باستقلاله فهو عاجزٌ كذلك المشي والكلام باستقلاله لولا تمكين الله وإقداره، فلو كانت استحالةُ الاستقلال بالإحياء موجباً للبناء على مجازيَّة الإسناد لكان ذلك موجباً للبناء على مجازيَّة إسناد مُطلق الأفعال للإنسان، لأنَّ مُطلق الأفعال الصادرة من الإنسان لا تكون إلا بتمكين الله تعالى وإقداره، وهذا ما لا يلتزم به أحدٌ ظاهراً.

 

نعم الفرق بين الإحياء وسائر الأفعال التي تصدرُ من عامَّة الناس أنَّ الإحياء لا يتَّفق لعامَّة الناس، وإنَّما يتَّفق لمَن كان مؤيَّداً بتأييدٍ خاصٍّ من الله تعالى وإلا فالإحياء وسائر الأفعال لا تكون إلا بتمكين الله تعالى.

 

وخلاصة القول: هو إنَّ الظاهر من نسبة عيسى (ع) الأفعال -التي ذكرها – إلى نفسه هو أن هذه النسبة وهذا الإسناد حقيقيٌّ فذلك هو المستظهر عرفاً من قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(2).

 

فالمجيء بالآية كان من فعل عيسى (ع) وكذلك هو الخلق لهيئة الطير من الطين والنفخ فيه، وكذلك فإنَّ الإبراء للأكمه والأبرص والإحياء للموتى والإنباء لهم بما يأكلون وما يدَّخرون كلُّ ذلك من فعل عيسى (ع) غايته أنَّه كان يفعلها بتأييد الله تعالى وتمكينه.

 

وهذا هو المستظهر أيضاً من قوله تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾(3).

 

فإنَّ الله تعالى قد نسبَ الخلق لهيئة الطير والنفخ فيه لعيسى (ع) وكذلك نسَب له الإبراء للأكمه والأبرص والإخراج للموتى وظاهر هذه النسبة وهذه الإضافة هو أنَّها إضافة حقيقيَّة وليست مجازيَّة غايته أنَّ الآية أفادت أنَّ عيسى (ع) لم يكن بوسعه القيام بهذه الأفعال لولا تأييد الله تعالى وتمكينه.

 

فالصحيح أنَّ إضافة الإحياء لعيسى (ع) حقيقية ومقصودنا من أنَّها حقيقية هو أنَّ هذه الإضافة حقيقة لغويَّة وإلا فالمحيي واقعاً وفي نفس الأمر هو الله تعالى، وعيسى (ع) لم يكن سوى واسطة مجعولة من قبل الله تعالى تماماً كما هو شأن الملائكة الموكلين بالمدد والتثبيت للمؤمنين والملائكة الموكلين بقبض الأرواح والنفخ في الصور والتدبير لبعض الشؤون.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

28 / شعبان المعظم / 1444ه

22 / مارس / 2023م

----------------------------

1- سورة آل عمران / 49.

2- سورة آل عمران / 49.

3- سورة المائدة / 110.