معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما معنى الإصْر في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾(1).

الجواب:

موارد استعمال كلمة الإصر:

يُستعمل الإصْر في كلام العرب(2) ويُراد منه الثقل أو الشدَّة أو هو وصف لما يكون تحمُّله ثقيلاً، ولهذا يُقال للأيمان وللعهد والميثاق الذي يكون متعلَّقه ثقيلاً إصرٌ، لأنَّ أداءه يكون ثقيلاً ويكون المتعهِّد به محتبساً بإنجازه والوفاء به، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَقْرَرْتُمْ وأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي﴾(3) أي عهدي وميثاقي. وكذلك يُقال للمسئوليات والتكاليف المناطة بالإنسان أنَّها إصرٌ، وذلك لثقلها وكون الإنسان محتبساً بأدائها، وُيقال كذلك للعقوبة المستحقَّة واقعاً أو اعتباراً إنَّها إصرٌ لثقلها ومسئولية الجاني -أو متعلَّقيه- عن تحمُّلها، ويُقال للإثم والذنب إصرٌ لتحمل فاعله لتبعاته، ويُقال كذلك لمثل الضرائب والأتاوات والأعمال والأموال والاعتبارات التي يتحمَّلها الإنسان قسراً أو عن غير طيبٍ من نفسه إنَّه إصْر، ولعلَّ من ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾(4) فالإصرُ هنا -ظاهرا- هو الثقل الذي يتحمَّله الإنسان دون وجه حقٍّ. وكذلك يُقال للعبء الثقيل التي يتحمَّله الإنسان اختياراً ودون أنْ يكون مكلَّفاً بتحمُّله إنَّه إصرٌ، ومن ذلك قول النابغة:

يا مانعَ الضيمِ أنْ يغشى سراتهم، ** والحامل الإصر عنهم بعدما غرقوا(5)

 

ويُطلق الإصْر كذلك على القرابة والرحِم، وكلُّ ما عطفك على شيء من عهدٍ أو رحم، فهو إصرٌ، وجمعه آصار، ومنشأ ذلك -ظاهراً- أنَّ القرابة والرحم أشبه بالعهد الذي يجد الإنسان نفسه ملزماً برعايته وتحمُّل ما ينوبُه من ثقل، ومن ذلك قولهم: عطف عليَّ بغير آصرة أي بغير قرابة ورحم.

معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾

 وأمَّا المراد من الإصر في قوله تعالى: ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً﴾ فهو -ظاهرا- بمعنى التكاليف الثقيلة التي يشقُّ علينا تحمُّلها، فهو دعاءٌ بأن تكون التكاليف المفروضة علينا خفيفةً وميسَّرة، ويُؤكِّد إرادة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الفقرة: ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ فإنَّ هذه الفقرة تُشير إلى أنَّ الله تعالى قد كلَّف بعض الأمم الغابرة ببعض التكاليف التي يشقُّ تحمُلها كتكليف بني إسرائيل بالتوبة من عبادة العجل من طريق القتل لأنفسِهم كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾(6) وكذلك حرَّم عليهم بعض الطيبات جزاءً لهم على بعض ذنوبهم كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾(7) وقال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾(8).

ويؤيد هذا الفهم أيضاً ما ورد في حديث الاحتجاج: ".. فقال (صلَّى الله عليه وآله): "اللهمَّ إذا أعطيتني ذلك فزدني" قال الله تبارك وتعالى له: سلْ، قال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ يعني بالأصْر: الشدائد التي كانت على مَن كان من قبلنا، فأجابه الله عزَّ وجلَّ إلى ذلك، وقال تبارك اسمُه: قد رفعتُ عن أمَّتِك الآصارَ التي كانت على الأُمم السالفة، كنتُ لا أقبلُ صلاتهم إلا في بقاعٍ معلومةٍ من الأرض اخترتُها لهم وإنْ بعُدتْ، وقد جعلتُ الأرض كلَّها لأمتك مسجداً وطهورا، فهذه مِن الآصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتُها عن أمَّتِك .. وكانت الأمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار، وهي من الشدائد التي كانت عليهم، فرفعتُها عن أمَّتك وفرضتُ صلاتهم في أطراف الليل والنهار، وفي أوقات نشاطهم، وكانت الأمم السالفةُ قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتاً وهي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتُها عن أمتك وجعلتُها خمساً في خمسة أوقات، وهي إحدى وخمسون ركعة، وجعلتُ لهم أجرَ خمسين صلاة .."(9).

معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِه﴾

وأمَّا قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ فالظاهر أنَّه دعاءٌ بالمعافاة من العقوبات الشديدة في الدنيا على ما نجترحُه من الذنوب كالعقوبات التي أصابت الأمم الغابرة حين اجترحوا الذنوب والموبقات، فليس مفاد الآية -ظاهراً- الدعاء بعدم التكليف بما لا يُطاق، فإنَّ ذلك من الدعاء بتحصيل الحاصل، فإنَّ العقل يُدرك قطعاً باستحالة أنَّ يكلِّف اللهُ تعالى العباد بما لا يُطاق، فبهذه القرينة، يكون المستظهَر من الآية الدعاء بعدم المجازاة على الذنوب بما لا تسعه طاقتنا. فإنَّ المجازاة بغير ما يُطاق جائزٌ ومستحَقٌ ولكننا نسأل الله تعالى أن يعافيَنا من مثل هذه العقوبات في الدنيا، فلا يُصيبنا ما أصاب الأمم الغابرة من الخسف والمسخ وغيرهما من ألوان العذاب.

ويُؤيِّد ذلك ما ورد في رواية الاحتجاج: ".. قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): اللهمَّ إذ قد فعلتَ ذلك بي فزدني، فألهمَه الله سبحانه أنْ قال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: قد فعلتُ ذلك بأمَّتك، وقد رفعتُ عنهم عظيمَ بلايا الأمم"(10).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

30 / شهر رمضان / 1444ه

22 / ابريل / 2023م


1- سورة البقرة / 286.

2- لاحظ: أساس البلاغة -الزمخشري- ص14، لسان العرب -ابن منظور- ج4 / ص22، تاج العروس -الزبيدي- ج6 / ص26.

3- سورة آل عمران / 81.

4- سورة الأعراف / 157.

5- أساس البلاغة -الزمخشري- ص14. 

6- سورة البقرة / 54.

7- سورة النساء / 160.

8- سورة الأنعام / 146.

9- الاحتجاج -الطبرسي- ج1 / ص328.

10- بحار الأنوار -المجلسي- ج16 / ص347، الاحتجاج -الطبرسي- ج1 / ص330.