شرح دعاء: "اللهمَّ اجعل قلبي بارَّا .."

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

السلام عليكم ورحمة الله

جاء في مصباح الشيخ: يستحب أن يقول في السجدة بين الأذان والإقامة: "اللهمَّ اجعل قلبي بارَّاً، ورزقي دارَّاً، واجعل لي عند قبرِ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستقرَّاً وقَراراً".

إذا أمكن أنْ تشرحوا الحديث وأنْ تُوضِّحوا معنى مستقرَّاً وقَرارا.

 

الجواب:

الوارد في مصباح المتهجِّد في النسخة المتداولة هو: "اللهمَّ اجعل قلبي بارَّا، ورزقي دارَّا، واجعل لي عند قبرِ نبيِّك صلَّى الله عليه وآله مستقرَّاً وقرارا"(1).

 

وورد الدعاء بشيءٍ من الاختلاف في الكافي للكليني بسنده عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَقْظَانَ رَفَعَه إِلَيْهِمْ (ع) قَالَ: يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الأَذَانِ وجَلَسَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ قَلْبِي بَارّاً، وعَيْشِي قَارّاً، ورِزْقِي دَارّاً، واجْعَلْ لِي عِنْدَ قَبْرِ نَبِيِّكَ ص قَرَاراً ومُسْتَقَرّاً"(2).

 

وفي مصباح الكفعمي: اللهم اجعل قلبي بارا ورزقي دارا وعيشي قارا واجعل لي عند قبر نبيِّك محمد صلَّى الله عليه وآله مستقرَّاً وقرارا"(3).

 

وزاد الطبرسي في المكارم فقرة "وعملي سارَّا" فورد الدعاء بهذا النص: "اللهم اجعل قلبي بارا ورزقي دارا وعملي سارا وعيشي قارا واجعل لي عند قبر نبيك صلواتك عليه وآله مستقرا وقرارا"(4).

 

معنى: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ قَلْبِي بَارّاً":

وأما معنى فقرات هذا الدعاء الشريف فقوله (ع): "اللَّهُمَّ اجْعَلْ قَلْبِي بَارّاً" معناه اجعل قلبي مؤمناً بالله تعالى وبما أنزل فإنَّ هذا القلب المؤمن هو الذي وصفه القرآن بالقلب البار في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ..}(5) أي ولكن ذا ابر هو من آمن بالله أو ولكنَّ البارَّ من آمن بالله فجاء بالمصدر وأراد منه اسم الفاعل، وكذلك فإنَّ القلب البار هو القلب المتقي لله تعالى فالقلب المتَّقي لله تعالى هو الذي وصفه القرآنُ المجيد بالقلب البار في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}(6)

 

والقلبُ البارُّ هو القلبُ الرحيم العطوف الباعث على الإحسان، وذلك في مقابل القلب القاسي المتغطرس، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (7) ورجل بارٌّ بوالديه أي رحيمٌ بهما عطوفٌ عليهما محسِنٌ إليهما .

 

والقلبُ البارُّ هو القلب الصادق، ومن ذلك قولهم: فلانٌ بَرَّ في يمنيه أي صدق فهو بَارٌّ أي صادق، ولعلَّ من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ / وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}(8) فلعلَّ المراد من الأبرار هم الصادقون وذلك بقرينة المقابلة مع الفجَّار المستعمل في الكاذبين.

 

معنى قوله: "ورِزْقِي دَارّاً":

ومعنى قوله: "ورِزْقِي دَارّاً" واجعل رزقي كثيراً متجدِّداً مِن: درَّ اللبنُ يدرُّ درَّاً ودُرُوراً إذا كثر وسال، وناقة دَرُورٌ ودَارٌّ أي كثيرةُ الدَّرِّ(9)، ومن ذلك قولهم دَرَّت السماء بالمطر دَرّاً ودُرُوراً إِذا كثر مطرها وتتابع هطوله، وسماءٌ مِدْرَارٌ وسحابة مِدْرَارٌ، قال تعالى: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}(10) أي يُرسل عليكم المطر الكثير المتتابع في الهطول والانصباب والاندفاق، فالرزق الدار هو الكثير الذي يتبع بعضه بعضاً، وهو معنىً آخر للتجدُّد. وذلك في مقابل الزرق المنقطع. فهو يسأل ربَّه أن يجعل رزقه كثيراً ومتجدِّداً.

 

معنى قوله: "وعَيْشِي قَارّاً":

ومعنى قوله: "وعَيْشِي قَارّاً" من القرار المقابل للاضطراب الناشئ عن اختلاف الأحوال بين الأمن والخوف، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والكثرة والقلَّة، فهو يسألُ ربَّه أن تكون معيشته هانئة لا يشوبها ما يكِّدر صفوها ويُقلقُ راحتها.

 

ويحتمل أن يكون "قاراً" -كما أفاد الشهيد الثاني(11)- بمعنى واجعل رزقي قارَّاً لعيني فيكون مشتقَّاً من الفعل المتعدِّي أقرَّ اللهُ عينك، وعليه يكون المفعول به لاسم الفاعل محذوفاً، ومعنى الفقرة -بناءً على ذلك- هو واجعل عيشي مرضياً، فالعيش القرير هو العيش المرضي الباعث على الابتهاج، فمعنى أقرَّ الله عينك بلَّغك أمنيتك حتى ترضى نفسُك وتسكنُ عينك فلا تستشرف إلى غيره(12) أو بتعبير آخر منحَك الله تعالى ما تُحب وما يسِرُّ قلبك فتستقر عينُك فلا تطمح إلى شيء آخر، وقريب من هذا المعنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (13) وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(14) أي لا تدرك العقول مهما بلغ بها الخيال ما ادُّخِر لها من النعيم الجزيل الذي تقرُّ به العيون والذي هو كناية عن غاية الرضا والاغتباط. 

 

واحتمل البعض أنَّ المراد من قوله: "وعَيْشِي قَارّاً" أي مقيماً، وذلك في مقابل العيش متنقلاً من بلدٍ إلى بلد فمعنى: "وعَيْشِي قَارّاً" هو اجعل عيشي موصوفاً بالاستقرار والمقام في الوطن فلا تُلجئني صروف الدهر إلى التنقل بين البلدان لتأمين الرزق أو تحصيل الأمن.

 

معنى قوله (ع): "وعملي سارَّاً":

ومعنى قوله (ع): "وعملي سارَّاً" هو الطلب بأن تكون أعمالي صالحة تبعث على المسرَّة الابتهاج، وذلك في مقابل الأعمال التي تبعثُ في المآل على الندم والحسرة، أو تبعث على استياء الآخرين أو حُزنهم، فكلمة "ساراً" اسم فاعل بمعنى المُوجِب للسرور، فالعملُ السار هو الباعثُ والمنتِج لسرور النفس ولسرور مَن صدر العمل لأجله، فالإحسان مثلاً للأبوين عملٌ سار لأنَّه يبعث على ابتهاج فاعله بما عمله من عملٍ صالح وهو سارٌّ للأبوين لأنَّه يبعث على شعورهما بالمسرَّة والرضى.

 

معنى قوله: "واجْعَلْ لِي عِنْدَ قَبْرِ نَبِيِّكَ (ص) مُسْتَقَرّاً وقرارا":

ومعنى قوله (ع): "واجْعَلْ لِي عِنْدَ قَبْرِ نَبِيِّكَ (ص) مُسْتَقَرّاً وقرارا" أو "واجعلْ لي عند قبرِ رسولِ الله (ص) مستقرَّاً وقَراراً. فالمستقَر -بصيغة اسم المفعول- هو موضع الاستقرار أي مكان للاستقرار والعيش أو قل المكان الذي يُستقرُّ فيه وعليه كما في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(15) والقرار أيضاً قد يُراد منه موضع الاستقرار كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا}(16) أي موضعاً ومحلاً للاستقرار، فيكون المراد من المستقر والقرار واحداً، ويكون عطفُ أحدهما على الآخر لغرض التأكيد .

 

وقد يُستعمل القرار بمعنى الاطمئنان المقابل للانزعاج وعدم الارتياح، فيكون معنى الفقرة -بناءً على ذلك- هو: واجعل موضع استقراري واقامتي عند قبر نبيِّك (ص) واجعله مُستراحاً لي، أي تستريح عنده نفسي وتسكنُ وتستشعر الاطمئنان والانبساط.

 

وقد يُستعمل القرار بمعنى المكث والإقامة الدائمة كما في قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}(17) فالآخرة دار القرار أي أنَّها دار الإقامة الدائمة، فبناءً على هذا الاستعمال يكون معنى قوله: "واجْعَلْ لِي عِنْدَ قَبْرِ نَبِيِّكَ (ص) مُسْتَقَرّاً وقرارا" هو: واجعل موضع استقراري في الدنيا عند قبر نبيِّك (ص) واجعل قراري واقامتي في الآخرة عند قبر نبيِّك (ص) وهذا المعنى يستقيم بناءً على ما ورد في بعض نسخ الدعاء حيث ورد فيه: "واجعل لي عند رسولك (ص) مستقرَّا وقرارا"(18) فيكون مفاد الدعاء واجعلني مع نبيِّك (ص) في الدنيا والآخرة، فأكون في الدنيا مستقرَّاً وثابتاً على دينه وهدْيه وشريعته ويكون قراري وموضع إقامتي في الآخرة مع النبيِّ (ص) في دار إقامته.

 

وهنا معنىً آخر قد يكون هو المراد من قوله: "واجْعَلْ لِي عِنْدَ قَبْرِ نَبِيِّكَ (ص) مُسْتَقَرّاً وقرارا" وهو الطلب بأنَّ يجعل الله تعالى قبر نبيِّه (ص) مستقرَّا لي أي موضعاً تأنسُ به نفسي ويسكنُ له قلبي، وينشرح له وعنده صدري، واجعله قراراً أي واجعل أُنسي به وسكوني إليه دائماً بدوام بقائي في الدنيا.

 

والحمد ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

11 ذو الحجة 1444ه

30 يونيو 2023م

--------------------------

1- مصباح المتهجد -الطوسي- ص30.

2- الكافي -الكليني- ج3 / ص308.

3- مصباح الكفعمي ص14.

4- مكارم الأخلاق -الطبرسي- ص399.

5- سورة البقر / 177.

6- سورة البقرة / 189.

7- سورة مريم / 32.

8- سورة الانفطار / 13-14.

9- لاحظ العين -الفراهيدي- ج8 / ص6، لسان العرب -ابن منظور- ج4 / ص279، النهاية -ابن الأثير- ج2 / ص112.

10 -سورة نوح / 11.

11- الفوائد الملية لشرح الرسالة النفليَّة- الشهيد الثاني- ص145.

12- النهاية -ابن الأثير- ج4 / ص39، لسان العرب -البن منظور- ج5 / ص89.

13- سورة الفرقان / 74.

14- سورة السجدة / 17.

15- سورة البقرة / 36.

16- سورة غافر / 64.

17- سورة غافر / 39.

18- الفوائد الملية لشرح الرسالة النفليَّة -الشهيد الثاني- ص146.