أميرُ المؤمنين (ع) والحديدة المحماة لعقيل

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما صحة رواية الامام علي (عليه السلام) وأخيه عقيل:

".. واللَّه لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً ورَأَيْتُ صِبْيَانَه شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ - كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ - وعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً - فَأَصْغَيْتُ إِلَيْه سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُه دِينِي وأَتَّبِعُ قِيَادَه مُفَارِقاً طَرِيقَتِي - فَأَحْمَيْتُ لَه حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِه لِيَعْتَبِرَ بِهَا - فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَه: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِه وتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِه أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى ..".

 

وعلى فرض الصحة، كيف نوجّه كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في التعامل مع عقيل وهو فقير محتاج بحسب الوصف الظاهر من الرواية، مع علمنا بأنَّ الامام (عليه السلام) كان رؤوفاً رحيماً بالفقراء والمساكين. وحتى لو فرضنا استيفاء عقيل حقَّه من بيت مال المسلمين، فالرواية تُشير إلى فقرِه وحاجتِه وهذا فيه إشارة بأنَّ ما هو حقه لم يكن كافياً له ولعياله، وهو ما ألجأه إلى الطلب من أمير المؤمنين (عليه السلام).

 

الجواب:

بعض مصادر الخطبة الشريفة:

الرواية المذكورة جزءٌ من خطبةٍ شهيرةٍ لأمير المؤمنين (ع) أوردها الشريفُ الرضي (رحمه الله) في نهج البلاغة(1) وأوردها السيِّد المرتضى في رسائله(2) وأورد جزءً من الخطبة الزمخشري في ربيع الأبرار(3) وابن حمدون في التذكرة الحمدونية(4) وغيرهم، وكذلك أوردها مع تفاوتٍ الشيخُ الصدوق في الأمالي بسنده عن المُفضَّل بن عمر عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه، عن أبيه (عليهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ..(5) وابنُ شهراشوب في المناقب(6).

 

الوجهُ في امتناع الإمام (ع) لطلب عقيل رغم فقره: 

وأمَّا الوجه في امتناع أمير المؤمنين(ع) من الاستجابة لطلب عقيلٍ (رحمه الله) فالواضحُ من مساق الخطبة الشريفة أنَّ عقيلاً جاء يطلبُ غيرَ حقِّه من بيت مال المسلمين، كما يُستفادُ ذلك من مثل قوله(ع): "اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً" فالخطاب للمسلمين فعقيل طلب أن يعطى من أموال بيت مال المسلمين وقوله (ع): واللَّه لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّه ورَسُولَه (ص) يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ"(7) فعقيل (رحمه الله) جاء يطلبُ من أمير المؤمنين (ع) أن يسدَّ عوزه وحاجته بما يفوقُ حقَّه من بيت مال المسلمين، وهذا ما لا يسع أمير المؤمنين(ع) فعله والاستجابة إليه، فأموالُ بيتِ مال المسلمين والتي هي أموال الخراج لا تُصرفُ بحسب الحاجة وإنَّما تُصرفُ بين المسلمين بالسويَّة، فحقُّ الفقيرِ منها مساوٍ لحقِّ الغني، وحقُّ الحاكم وكذلك حقُّ قرابته منها مساوٍ لحقِّ سائر أفراد الرعيَّة، ولهذا اعتبر أميرُ المؤمنين (ع) الاستجابةَ لطلب عقيل ظلماً لبعض العباد وغصباً لشيء من الحطام.

 

وأمَّا أنَّ عقيلاً كان فقيراً مُعدَماً كما يظهرُ من الخطبة الشريفة فصحيحٌ إلا أنَّ حاجة الفقير لا تُسدُّ من أموال الخراج وإنَّما تُسدُّ حاجةُ الفقير -إذا لم يكن حقٌّه من الخراج كافياً لسدِّها- من الصدقات والزكوات والأخماس إنْ وُجدت.

 

الإمام (ع) كان يؤمِّن لعقيلٍ وعياله قوتهم:

هذا وقد ورد في الأخبار أنَّ الإمام عليَّاً (ع) كان يعتني بعقيلٍ وعياله، فحين جاءه إلى العراق أنزله عنده وطلب من ابنه الإمام الحسن (ع) أن يكسوه من ثيابه، وكان يُعطيه كلَّ يوم من الشعير ما يكفيه ويكفي عيالَه ووعده أنْ يواسيه بنصيبه من العطاء(8) ولكنَّ عقيلاً (رحمه الله) كان يطمح فيما يفوقُ ذلك، وقد أقرَّ عقيلٌ -بحسب ما أفاده ابنُ أبي الحديد في شرح النهج- بذلك حين سُئل عن قصَّة الحديدة المحماة فقال فيما قال: إنَّ عليَّاً (ع) بعد أنْ أحمى له حديدة فقرَّبها منه فتأوَّه من حرارتها قال له (ع) ثكلتَك أمُّك هذا من حديدةٍ أوقدتُ لها نارَ الدنيا فكيف بك وبي غداً إنْ سُلكنا في سلاسلَ جهنَّم ثم قرأ: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ ثم قال (ع): ليس لك عندي فوق حقِّك الذي فرضَه الله لك"(9) فعقيلٌ كان يطلبُ ملحِّاً فوق حقِّه من بيت المال كما هو الواضح من هذا النصِّ.

 

هذا وقد وجاء في كتاب المناقب لابن شهراشوب أنَّ عقيلاً (رحمه الله) قدم على أمير المؤمنين (ع):

"قدم عليه عقيل فقال للحسن: اكس عمَّك .. فلما حضر العشاء، فإذا هو خبزٌ وملحٌ، فقال عقيل ليس إلا ما أرى؟ فقال أوليسَ هذا من نعمة الله فله الحمد كثيرا -قال عقيل-: اعطني ما أقضي به ديني وعجِّل سراحي حتى أرحل عنك، قال (ع): فكم دينُك يا أبا يزيد؟ قال: مائة ألف درهم، قال (ع): واللهِ ما هي عندي، ولا أملكها ولكن اصبر حتى يخرجَ عطائي فأواسيكه، ولولا أنَّه لابدَّ للعيال من شيءٍ لأعطيتُك كله، فقال عقيل: بيتُ المال في يدِك وأنتَ تُسوِّفُني إلى عطائك؟! وكم عطاؤك؟! وما عسى يكون ولو أعطيتنيهِ كلَّه، فقال (ع): ما أنا وأنت فيه إلا بمنزلةِ رجلٍ من المسلمين، وكانا يتكلمان فوق قصر الأمارة مُشرفين على صناديق أهلِ السوق فقال له عليٌّ (ع) إنْ أبيتَ يا أبا يزيد ما أقولُ فأنزِلْ إلى بعض هذه الصناديق فاكسرْ اقفاله وخُذْ ما فيه، فقال: وما في هذه الصناديق؟ قال (ع): فيها أموالُ التّجار، قال: أتأمرني أنْ أكسِرَ صناديقَ قومٍ قد توكَّلوا على اللهِ وجعلوا فيها أموالَهم، فقال أميرُ المؤمنين (ع): أتأمرُني أنْ افتحَ بيتَ مال المسلمين فأُعطيك أموالَهم وقد توكَّلوا على الله واقفلوا عليها؟! وإنْ شئتَ أخذتَ سيفَك وأخذتُ سيفي وخرجنا جميعاً إلى الحيرة فإنَّ بها تجاراً مياسير فدخلنا على بعضِهم فأخذنا مالَه، فقال أوَ سارقٌ جئتُ! قال (ع): تسرقُ من واحدٍ خيرٌ مِن أنْ تسرقَ من المسلمينَ جميعاً"(10).

 

وقد أورد ابن عساكر -قريباً من هذا النصِّ- بسنده عن عبد الله بن عياش المرهبي وإسحاق بن سعيد عن أبيه أن عقيل بن أبي طالب لزمه دين فقدم على عليِّ بن أبي طالب الكوفة فأنزلَه وأمرَ ابنَه الحسن فكساهُ فلمَّا أمسى دعا بعشائه، فإذا خبزٌ وملحٌ وبقلٌ، فقال عقيل: ما هو إلا ما أرى؟ قال: لا، قال: أفتقضي ديني قال: وكم دينُك قال: أربعون ألفاً قال: ما هي عندي ولكن اصبِرْ حتى يخرجَ عطائي فإنه أربعةُ آلاف فأدفعُه إليك، فقال له عقيل: بيوت المال بيدِك وأنت تُسوِّفُني بعطائك، فقال: له اكسِرْ صندوقاً من هذه الصناديق وخُذْ ما فيه، فإنَّ فيه أموالُ الناس، فقال له: أتأمرُني بذلك؟! فقال له: أتأمرني أنْ أدفعَ إليك أموالَ المسلمين وقد ائتمنوني عليها .."(11).

 

وأورد ابن عساكر أيضاً بسنده عن حميد بن هلال أنَّ عقيل بن أبي طالب سأل عليَّاً فقال يا أمير المؤمنين إنِّي محتاج وإنِّي فقيرٌ فأعطني، قال: اصبِرْ حتى يخرجَ عطائي مع المسلمين فأعطيكم معهم فألحَّ عليه، فقالَ لرجلٍ خُذْ بيده فانطلق به إلى حوانيتِ أهل السوقِ فقل دقَّ هذه الأقفال وخُذْ ما في هذه الحوانيت، قال: يريدُ عليٌّ أنْ يتَّخذَني سارقاً فخرج إليه فقال: يا أمير المؤمنين أردتَ أن تتَّخذني سارقاً؟! قال: أنتَ واللهِ أرددتَ أن تتَّخذني سارقاً أنْ آخذَ أموالَ الناس فأُعطيكَها دونهم.."(12).

 

أقول: أراد الإمامُ أمير المؤمنين (ع) من هذا الحوار -بناءً على وقوعه- أنْ يُبيِّن لعقيلٍ أنَّ ما يطلبه منه لا يقصرُ في شناعته عن السرقة لأموال الناس وعمَّا يفعله قطَّاع الطريق من التهديد للآمنين وسلب أموالهم بقوَّة السلاح، إلا أنَّ الظاهر أنَّ عقيلاً رحمه الله لم يستوعب ذلك، ولهذا ظلَّ يُلحُّ على أمير المؤمنين (ع) أنْ يسدَّ حاجته من بيت مال المسلمين.

 

وجاء في كتاب شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي قال: -إنَّ عقيلاً- أتى عليَّاً (عليه السلام) وهو في الكوفة، فقال له: أعطني مِن المال ما اتَّسعُ فيه كما اتَّسع الناسُ، فعرَض عليٌّ (ع)- عليه ما عنده، فلم يقبضْه، وقال: أعطني ما في يديك من مال المسلمين، فقال له (ع): أمَّا هذا فما إليه من سبيلٍ، ولكنِّي أكتبُ لك إلى مالي بينبع فتأخذ منه، قال: ما يُرضيني مِن ذلك شيئاً"(13).

 

ونقل ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه ما يقربُ من هذا النصِ قال: إنَّ عقيلاً جاء إلى عليٍّ بالعراق فسألَه، فقال(ع): إنْ أحببتَ أنْ أكتبَ لك إلى مالي بينبُع فأعطيكَ منه .."(14) ولكنَّ عقيلاً رحمه الله أبى.

 

وخلاصة القول: إنَّ عقيلاً (رحمه الله) وإنْ كان فقيراً إلا أنَّه لم يكن في وسْعِ أمير المؤمنين (ع) أنْ يعطيَه ما يزيدُ على حقِّه من بيتِ مال المسلمين، ولكنَّه واساهُ بأموالِه الشخصيَّة، فكان قد أنزله عنده وكساهُ من ثياب ولده، وكان يطعم عياله كلَّ يوم إلا أنَّ هذا المقدار لم يكن يسدُّ حاجة عقيلٍ لابتلائه بدينٍ ثقيل ولم يكن في أموال أمير المؤمنين (ع) الشخصيَّة ما يتَّسع لسداد دينه، لهذا كان عقيل يطمع أنْ يعطيه أميرُ المؤمنين (ع) من بيت مال المسلمين، ولعلَّه كان يتوهَّم أنَّ للإمام أن يُعطي مَن يشاء بالمقدار الذي يشاء فبيَّن له الإمام (ع) أنَّ ذلك لا يسوغ، فحين ألحَّ في الطلب لقَّنه درساً يتَّخذُ منه الولاة منهجاً إذا أرادوا اعتماد العدل في إدارة شؤون الرعية، فليس للولاة أنْ يُفاضلوا بين الناس في العطاء، وليس لهم أن يُحابوا قريباً لقرابته أيَّاً كانت المبرِّرات.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

13 / ذو الحجَّة / 1444ه

2 / يوليو / 2023م

---------------------------

1- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ص346.

2- رسائل الشريف المرتضى -الشريف المرتضى- ج3 / ص139.

3- ربيع الأبرار -الزمخشري- ج1 / ص163.

4- التذكرة الحمدونيَّة -ابن حمدون- ج1 / ص97.

5- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص718.

6- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج1 / ص376.

7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ص346.

8- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج1 / ص376، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج41 / ص22، الصواعق المحرقة -ابن حجر الهيتمي المكي- ص132.

9- سورة غاقر / 71، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج11 / ص254.

10- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج1 / ص376.

11- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج41 / ص22، أسد الغابة -ابن الأثير- ج3 / ص423.

12- دتاريخ مدينة مشق -ابن عساكر- ج41 / ص21، تاريخ الخلفاء -السيوطي- ص223.

13- شرح الأخبار -القاضي النعمان- ج3 / ص241.

14- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج 41 / ص24.