﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ﴾ هل أخطأ النسَّاخ في إضافة الألف

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾(1).

 

هل أخطأ الكُتَّاب في كتابة قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾؟ واذا كان الجوابُ بالنفي، فماذا نفعل مع هذه الروايات الواردة في كتاب الكافي والتي أفادت أنَّ الكتَّاب قد أخطأوا وأنَّ الصحيح هو "يحكم به ذو عدلٍ منكم".

 

الجواب: 

الرواياتُ المشار إليها هي:

الأولى: صحيحة عُمَرَ الْيَمَانِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ قَالَ: الْعَدْلُ رَسُولُ اللَّه (ص) والإِمَامُ مِنْ بَعْدِه ثُمَّ قَالَ: هَذَا مِمَّا أَخْطَأَتْ بِه الْكُتَّابُ"(2).

 

الثانية: موثقة زُرَارَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) عَنْ قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَحْكُمُ بِه ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ قَالَ الْعَدْلُ رَسُولُ اللَّه (ص) والإِمَامُ مِنْ بَعْدِه ثُمَّ قَالَ هَذَا مِمَّا أَخْطَأَتْ بِه الْكُتَّابُ"(3).

 

الثالثة: صحيحة حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ تَلَوْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) ﴿ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فَقَالَ ذُو عَدْلٍ مِنْكُمْ هَذَا مِمَّا أَخْطَأَتْ فِيه الْكُتَّاب"(4).

 

مفاد الروايات المذكورة:

وأمَّا المراد من قوله (ع): "هَذَا مِمَّا أَخْطَأَتْ بِه الْكُتَّابُ" فهو أنَّ الكتَّاب أخطأوا الواقعَ أي أنَّهم أخطأوا القراءة الصحيحة النازلة على النبيِّ (ص) فأضافوا الألف فأوهموا بذلك إرادة التثنية والواقع -بحسب هذه الروايات- أنَّها بدون ألف.

 

فيكون مفاد الآية بناءً على حذف الألف هو أنَّ المُحرِم إذا قتل صيداً فإنَّ عليه أنْ يكفِّر بمثله من الأنعام، والذي يحكم بأنَّ هذا يماثل الصيد المقتول هو ذو العدل وفسَّرته الروايات المذكورة بالنبيِّ (ص) وبالإمام من بعده، فالإمام مثلاً حكم بأنَّ مَن قتل نعامة فعليه بدنة، ومن قتل ظبياً فعليه شاة، فالبدنة بمقتضى حكم الإمام هي مثل النعامة والشاة هي مثل الظبي ولا يعتبر في المماثلة أكثر من ذلك، فلا تعتبر المماثلة في الحجم ولا في السنِّ، ولا في الذكورة والأنوثة. هذا ما يقتضيه مفاد الروايات المذكورة والتي أفادت أنَّ القراءة الصحيحة هي "يحكم به ذو عدلٍ منكم" أي يحكم بالمماثلة النبيُّ (ص) والإمام من بعده.

 

منشأ سقوط الروايات عن الاعتبار:

إلا أنَّ الصحيح أنَّ هذا الروايات غيرُ قابلةٍ للتصديق، فلا بدَّ من طرحِها وردِّ علمِها إلى أهلِها كما أفاد ذلك السيد الخوئي (رحمه الله) وأفاد أنَّ منشأ البناء على لزوم طرح هذه الروايات هو استلزامها للقول بتحريف القرآن المجيد وهو باطلٌ قطعاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(5) وقوله تعالى:‏ ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(6) هذا أولاً.

 

وثانياً: إنَّ خطأ النسَّاخ في الكتابة لا يستلزم الخطأ في القراءة، فالقراءة لآيات القرآن لا تعتمد على ما هو المرسوم في المصحف وإنَّما تعتمد على التلقِّي من الحفَّاظ، فالأخطاء في رسم المصحف كثيرة إلا أنَّه نجد القرَّاء لا يقرأون القرآن بالنحو الذي عليه رسم المصحف بل يقرأونه بالنحو الذي تلقَّوه صدراً عن صدر وجيلاً عن جيل، فالرحمن -مثلاً- تُقرأ بالألف بعد الميم رغم أنَّها مرسومة دون ألف، وهكذا فإنَّ كلمة جنَّات مرسومة في المصحف (جنت) دون ألفٍ بعد النون ولكنَّها تقرأ بالألف، وكذلك فإنَّ كلمة الصابئين مرسومة في المصحف (الصبئين) دون ألف ولكنَّها تُقرأ بالألف بعد الصاد.

 

فلو سلَّمنا أنَّ الكتَّاب أخطأوا فزادوا الألف بعد الواو في قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فهل أخطأ القرَّاء أيضاً فقرأوها بالألف رغم أنَّهم لا يعتمدون المرسوم في المصحف؟! إنَّ اتفاق القرَّاء منذ عصر الصحابة -على كثرتهم واختلاف أصقاعهم- على القراءةِ بالألف جيلاً بعد جيل يوجب القطع بأنَّ الآية نزلت كذلك، ولهذا فدعوى أنَّها نزلت دون ألف وأنَّ الألف كانت من زيادات النساخ هذه الدعوى شاذة لا يصح الالتفات إليها. والمورد ليس من موارد الاختلاف في القراءات وذلك لعدم اختلاف القرَّاء في أنَّ الآية نزلت بالألف أي بالتثنية. والمقابل لما عليه عامَّة القرَّاء شاذ لا يلتفت إليه.

 

ثالثاً: إنَّ الروايات المذكورة فسَّرت "ذو عدلٍ منكم" أنَّه النبيُّ (ص) والإمام (ع) من بعده، ومن غير المتعارف استعمال القرآن وصف النبيِّ (ص) بأنَّه ذو عدل بل إنَّ من غير المناسب لمقام النبيِّ (ص) ومقام الإمام (ع) التعبير عن أحدهما أنَّه ذو عدل، فإنَّما يوصف بهذا الوصف سائر الناس ممَّن يحظون بملكة العدالة والتي هي متاحة لعامة الناس، ثم إنَّ كلمة "ذو عدل" لو كانت القراءة الصحيحة لكانت دالة على الإطلاق فاستعمالها في المفرد وهو النبي (ص) والإمام من بعده وإن كان جائزاً ولكنَّه خلاف مقتضيات البلاغة ويتعزز منافاتها لمقتضيات البلاغة اضافة كلمة "منكم" فإنها توجب استظهار أنَّ الذي أعطي صلاحية الحكم بالمماثلة عدلٌ منكم أي من المسلمين فتفسير فتفسير "ذو عدلٍ منكم" بالنبيِّ (ص) والإمام من بعده خلاف الظاهر جدَّاً، فالصحيح أنَّ المستظهَر من الآية خصوصاً مع الالتفات إلى قوله "منكم" أنَّ الذي يحكم بالمماثلة بين الصيد المقتول وفدائه هو اثنان من عدول المسلمين.

 

وبتعبير آخر: إنَّ مفاد الآية هو أنَّه إذا قتل المحرمُ صيداً فإنَّ عليه أنْ يكفِّر بمثله وتتحدَّد المماثلة بمراجعة خبيرين من عدول المسلمين يحكمان بأنَّ هذا الظبي المقتول تُماثله هذه الشاة في الحجم والسنِّ أو أنَّ هذه البقرة الوحشيَّة التي تمَّ قتلها يُماثلها في الحجم والسن هذه البقرة الأهليَّة دون تلك، وهكذا.

 

هذا حاصل ما أفاده السيد الخوئي (رحمه الله) في بيان منشأ الطرح للروايات المذكورة وردِّ علمها إلى أهلها(7)، فهي وإن كانت معتبرة سنداً إلا أنَّ ذلك وحده غير كافٍ لاعتمادها فإنَّ كلَّ خبرٍ وإن صحَّ سنده فإنَّه يكون ساقطاً عن الاعتبار إذا كان منافياً لما نصَّ عليه القرآن أو كان منافياً لما ثبت بالتواتر.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

15 / محرم الحرام / 1445ه

3 / أغسطس / 2023م

 

-------------------------------

1- سورة المائدة / 95.

2- الكافي -الكليني- ج4 / ص396.

3- الكافي -الكليني- ج4 / ص397.

4- الكافي -الكليني- ج8 / ص205.

5- سورة الحجر / 9.

6- سورة فصلت / 42.

7- المعتمد في شرح المناسك -السيد الخوئي- ج28 / ص324، الواضح في شرح العروة الوثقى- السيد الخوئي- ج3 / ص209.