مدلول: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(1)؟

 

الجواب:

مؤدَّى الآية المباركة هو أنَّ المتعيَّن على المؤمنين تقديمُ النبيَّ (ص) على أنفسِهم في مختلف الشؤون، ففي كلِّ مورد يدور فيه الأمرُ بين النبيِّ الكريم (ص) وبين النفس يتعيَّن على المؤمن تقديم النبيِّ (ص) على نفسِه، فمعنى أنَّ النبيَّ (ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم هو أنَّه أحقُّ بأنفسهم من أنفسهم، في الحفظ والطاعة والرغبة والمودَّة ومطلق الشؤون.

 

فحفظُ الانسان نفسه من الهلاك حقٌّ لازمٌ عليه، وهو حقٌّ مقدَّم على التكليف بحفظ سائر النفوس، فلو دار الأمرُ بين حفظِ الإنسانِ نفسه وبين حفظِ نفسِ غيره بحيث لا يتمكَّن من الجمع بين حفظ نفسِه وحفظ غيره ففي هذا الفرض يكونُ الحفظُ لنفسِه أحقَّ من الحفظ لنفس غيره، فنفسُه أحقُّ بالحفظ من نفس غيره إلا أنْ تكون تلك النفس هي نفس النبيِّ الكريم (ص) فإنَّه إذا دار الأمر بين حفظ المؤمن لنفسِه وبين حفظه لنفس النبيِّ (ص) ففي هذا الفرض يكون حفظُ نفس النبيِّ (ص) أحقَّ من حفظ النفس، فيجب على المؤمن أنْ يقيَ النبيَّ بنفسه. بمقتضى مفاد الآية الشريفة.

 

وكذلك فإنَّ للإنسان حقَّ الولاية على قرارته المتَّصلة بشخصِه، وليس لأحدٍ أنْ يفرضَ عليه قراراً لا يُريده، فقراراتُه المتصلة بشخصه خاضعةٌ لاختياره وحده، فله مثلاً أن يختار الطعام الذي يأكلُه والبيتَ الذي يسكنُه والبلدَ الذي يقطنه، وله أنْ يختار الزواجَ وأنْ يختار عدمَه، وأن يختار هذه المهنة وأنْ يختار التخلِّي عنها، وله أن يختار القبول بهذه المعاملة وأنْ يختار عدم القبول، وهكذا هو الشأن في سائر القرارات المتَّصلة بشخصه فإنَّه لا ولاية لأحدٍ عليه فيما يختار إلا أنَّ هذه الولاية الثابتة له على نفسِه تنتفي حين يختارُ له النبيُّ (ص) أمراً على خلاف اختياره، فولايةُ النبيِّ (ص) عليه مقدَّمةٌ على ولايته على نفسِه، وهذا هو مؤدَّى قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ فلو اختار مثلاً أنْ يبيع داره فاختار النبيُّ (ص) له أنْ لا يبيع فإنَّ المتعيَّن عليه الامتناع من البيع بمقتضى مفاد الآية الشريفة، فيكون مؤدَّى هذه الآية هو مؤدَّى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(2) فولايةُ الله تعالى الثابتة بالذات وولايةُ النبيِّ (ص) الثابتة له بالجعل من الله تعالى مقدَّمةٌ على ولاية المؤمن على نفسِه وخياراته. فلا خيار له في مقابل ما يختاره له النبيُّ الكريم (ص).

 

وهكذا هو الشأنُ في سائر الحقوق الثابتة للمؤمن والحقوق الثابتة عليه فإنَّ حقَّ النبيِّ (ص) في مورد الدواران مقدَّمٌ على مطلق الحقوق الثابتة له وعليه، فإنَّ للمؤمن مثلاً حقَّ الولاية على أمواله وعلى صغاره، وحقَّ القوامة على زوجته، فلو أنَّ النبيَّ (ص) منعه من التصرُّف في ماله أو أمره بالخروج من مالِه أو مِن بعضه فليس له في هذا الفرض أن يُعمِل ولايته على ماله في مقابل ولايةِ النبيِّ (ص) وكذلك فإنَّ المؤمن لو اختار لصغاره السكنى في هذه الدار فمنعَه النبيُّ (ص) واختار لهم السكنى في دارٍ أخرى فليس للمؤمن أن يُعمِل ولايته في مقابل ولاية النبيِّ (ص) وكذلك لو اختار المؤمنُ لزوجته أنْ لا تخرج واختار له النبيُّ (ص) أن تخرجَ فإنَّ المتعيَّن هو تقديمُ اختيار النبيِّ (ص) على اختياره.

 

وكذلك هو الشأنُ في الحقوق الثابتة عليه، فمِن الحقوق الثابتة عليه مثلاً هو أنْ لا يُدخِلَ الأذى على أبويه، فليس له أنْ يفعل ما يبعثُ على حُزنهما إلا أنَّه لو أمرَ النبيُّ (ص) بالجهاد مثلاً وكان ذلك موجباً لحزن الأبوين فإنَّ حقَّ النبيِّ (ص) في امتثال أمره أولى بالرعاية من حقِّ الأبوين على المؤمن. وقد رُوي -كما في تفسير مجمع البيان- "أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) لمَّا أراد غزوة تبوك، وأمرَ الناس بالخروج، قال قوم: نستأذنُ آباءنا وأمهاتِنا، فنزلت هذه الآية "(3).

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ مفاد الآية الشريفة هو أولويَّة النبيِّ (ص) على نفسِ المؤمن في مطلق الشؤون، فحياتُه أولى بالحفظ من حياته، وإرادتُه في مختلف الشؤون أحقُّ بالرعاية من إرادته، فلو دعته نفسُه إلى شيءٍ وإن كان مباحاً وأمره النبيُّ (ص) بخلاف ما دعته إليه نفسُه وجب عليه تقديمُ الأمر النبويِّ على هوى نفسه، ولو أراد إبرام أمرٍ يتَّصل بشخصه أو بما له حقٌّ تكوينيٍّ أو اجتماعي واعتباري في اختياره واختار له النبيُّ (ص) خلافَه وجب عليه تقديمُ إرادة النبيِّ (ص) على إرادته واختياره.

 

هذا هو مفاد الآية الشريفة وما يقتضيه إطلاقها، فهي تدلُّ بإطلاقها على أنَّ له الولاية المطلقة على المؤمنين وأنَّ إرادته ناجزة عليهم وحكمه نافذ، وأنَّ طاعته لازمةٌ في مختلف الشؤون الخاصَّة والعامة. فذلك هو مؤدَّى أن سلطانه عليهم مقدَّم حتى على سلطانهم على أنفسِهم وعلى الحقوق الثابتة لهم تكويناً واعتباراً.

 

مَن كنتُ وليُّه فعليٌّ وليُّه:

ثم إنَّ هذه الولاية وهذه السلطنة المطلقة المجعولة من الله تعالى للنبيِّ (ص) على المؤمنين، هذه الولاية ثابتة بالجعل لأمير المؤمنين (ع) كما أفاد ذلك الرسول (ص) في حديث الغدير حيث ثبت أنَّه خاطب جموع المؤمنين بقوله: "أيُّها الناس إنِّي تاركٌ فيكم أمرين لن تضلُّوا إنْ اتبعتموهما، وهما كتابُ الله، وأهلُ بيتي عترتي، ثم قال: أتعلمونَ أنِّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا: نعم، فقال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه"(4).

 

وأخرج أحمد بن حنبل في المسند بسنده عن أبي الطفيل قال: جمع عليٌّ الناس في الرحبة ثم قال لهم: أنشد بالله كلَّ امرئٍ مسلمٍ سمع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غديرِ خمٍّ ما قال لما قام، فقام إليه ثلاثون من الناس قال أبو نعيم: فقام ناسٌ كثير فشهدوا حين أخذ بيده فقال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى يا رسول الله قال: مَن كنتُ مولاه فهذا مولاه، اللهمَّ وال مَن والاه وعادِ مَن عاداه، قال فخرجتُ كأنَّ في نفسي شيئا فلقيتُ زيد بن أرقم فقلتُ له إنِّي سمعتُ عليَّاً يقول: كذا وكذا قال: فما تُنكر قد سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك. قال الهيثمي تعليقا على الرواية: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة"(5) قال الذهبي في تاريخ الإسلام: وروى نحوه يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه سمع عليَّاً ينشد في الرحبة. وروى نحوه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، من حديث سماك بن عبيد، عن ابن أبي ليلى، وله طرق أخرى ساقها الحافظ ابن عساكر في ترجمة علي يصدق بعضها بعضاً"(6).

 

وفي مسند أحمد: حدثنا عبد الله حدثني أبي بسندٍ له عن ميمون أبى عبد الله قال: قال زيد بن أرقم وأنا أسمع: نزلنا مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بوادٍ يُقال له وادي خم فأمر الصلاة، فصلاها بهجير، قال: فخطبنا وظُلِّل لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بثوبٍ على شجرة سمرة من الشمس، فقال: ألستم تعلمون أو لستم تشهدون أنِّى أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فمَن كنتُ مولاه فإنَّ عليَّاً مولاه، اللهم عادِ من عاداه، ووالِ مَن والاه"(7) قال ابن كثير في البداية والنهاية: ثم رواه أحمد: عن غندر، عن شعبة، عن ميمون أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم إلى قوله من كنت مولاه فعلي مولاه. قال ميمون حدثني بعض القوم عن زيد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم وال مَن والاه، وعاد من عاداه ". وهذا إسناد جيد رجاله ثقات على شرط السُنن وقد صحَّح الترمذي بهذا السند حديثا في الريث"(8).

 

أقول: والروايات حول قصة الغدير في هذا المعنى متواترة لدى الفريقين. وقد ورد هذا المعنى مستفيضاً في غير قصة الغدير أيضاً:

 

فمِن ذلك ما أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد عن سعد بن أبي وقاص: أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد عليٍّ فقال: ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم مَن كنتُ وليُّه فعليٌّ وليُّه". قال الهيثمي: رواه البزار ورجالُه ثقات"(9) وروى نحوه أحمد من طريقٍ إلى بريدة وكذلك النسائي وابن أبي شيبة وغيرهم(10).

 

ومنه: ما أورده الحاكم النيسابوري بسنده عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال غزوتُ مع علي إلى اليمن فرأيتُ منه جفوة فقدمتُ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فذكرتُ عليا فتنقَّصتُه فرأيتُ وجهَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتغيَّر فقال: يا بريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم؟ قلتُ: بلى يا رسول الله، فقال: مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه وذكر الحديث "قال الحاكم النيسابوري: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"(11).

 

أئمة أهل البيت (ع) أولى بالمؤمنين من أنفسهم:

وكذلك فإنَّ هذه الولاية وهذه السلطنة المطلقة المجعولة من الله تعالى للنبيِّ الكريم (ص) على المؤمنين والمجعولة من الله تعالى لأمير المؤمنين (ع) بمقتضى ما ثبت عن الرسول (ص) هذه الولاية المطلقة مجعولة كذلك لأئمة أهل البيت (ع) كما ثبت ذلك عن الرسول الكريم (ص) وعن أمير المؤمنين (ع) ونقتصر في ذلك بنقل رواية واحدة -خشية الإطالة- أوردها الشيخ الصدوق في العيون وفي كمال الدين بسنده عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعتُ عبد الله بن جعفر الطيَّار يقول لنا عند معاوية والحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن عباس وعمر بن أبي سلمه وأسامة بن زيد يذكر حديثاً جرى بينه وبينه، وأنَّه قال لمعاوية بن أبي سفيان: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسِهم، ثم أخي عليُّ بن أبي طالب عليه السلام أولى بالمؤمنين من أنفسِهم، فإذا استُشهد فابني الحسنُ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم، ثم ابني الحسينُ عليه السلام أولى بالمؤمنين من أنفسِهم، فإذا استُشهد فابني عليُّ بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسِهم، وستُدركه يا علي، ثم ابني محمد بن عليٍّ الباقر أولى بالمؤمنين من أنفسِهم، وستدركه يا عبد الله وتكملة اثنى عشر إماماً تسعة من وُلد الحسين قال عبد الله -ابن جعفر الطيَّار-: ثم استَشهدتُ الحسنَ والحسين عليهما السلام وعبدَ الله بن عباس، وعمرَ بن أبي سلمه، وأسامة بن زيد فشهدوا لي عند معاوية قال سليم بن قيس: وقد كنتُ سمعتُ ذلك من سلمانَ وأبي ذر والمقداد وأسامة أنَّهم سمعوا من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)"(12).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

20 / محرم الحرام / 1445ه

8 / أغسطس / 2023م

------------------------------

1- سورة الأحزاب / 6.

2- سورة الأحزاب / 36.

3- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج8 / ص121.

4- المستدرك على الصحيحين ج3 / ص110.

5- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج4 / ص370، مجمع الزوائد- الهيثمي- ج9 / ص104، المستدرك على الصحيحين ج3 / ص110، تاريخ مدينة دمشق-ابن عساكر- ج42 / ص205.

6- تاريخ الإسلام -الذهبي- ج3 / ص632.

7- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج4 / ص372.

8- البداية والنهاية -ابن كثير- ج5 / ص231.

9- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص107.

10- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص350، فضائل الصحابة -النسائي- ص14، المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص494، السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص45، خصائص أمير المؤمنين -النسائي- ص94.

11- المستدرك على الصحيحين ج3 / ص110، مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص347، فضائل الصحابة -النسائي- ص14، السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص45، خصائص أمير المؤمنين -النسائي- ص95، المصنف -ابن أبي شيبة - ج7 / ص506.

12- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 / ص52، كمال الدين -الشيخ الصدوق- ص270، الإمامة والتبصرة -علي بن بابويه القمي- ص110.