الدافع المِحوريُّ لانطلاق نهضةِ الإمام الحسين (ع) -1

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، لا نُشْرِكُ بِالله شيئاً وَلا نَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ وَليّا، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ، وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخرةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ، وأشهدُ أنْ لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأنّ محمّداً (ص) عبدُه ورسولُه.

 

عِبادَ اللهِ اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الدُّنْيا عَلى حَذَر، فَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى، واتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

 

تمهيد:

الحديث حول تحديدِ الدافع المحوري لانطلاق نهضة الإمام الحسين (ع) فثمة فريقٌ من الباحثين ذهب إلى اختيار دعوى أنَّ الذي دفعَ الإمام الحسين (ع) للثورة على بني أميَّة هو الاستجابة لدعواتِ أهل الكوفة بحيثُ لو لم يُبدِ أهلُ الكوفة استعدادَهم لنصرته لمَا اختار النهوض في وجه بني أميَّة، وذهب فريقٌ آخر إلى أنَّ الدافع لنهضة الإمام الحسين (ع) هو إصرارُ الأمويين على مطالبتِه بالبيعة، فلو تركوه وشأنَه، فلم يُطالبوه بالبيعة لاختار المسالمة ولم يتخذ خيار النهضة؟ فهل يصحُّ ما تبنَّاه الفريقُ الأول من الباحثين أو أنَّ الصحيحَ هو ما تبنَّاه الفريقُ الثاني أو أنَّ كلا الفريقين أخطأ في تشخيصِ الدافعِ المحوري لنهضة الإمام الحسين (ع)؟

 

فنقول تمهيداً للجواب على ذلك هو أنَّ ثمة عواملَ ودوافع تُذكر لاختيار الحسين (ع) طريقَ النهضة، وهي ثلاثة:

الأول: رفضُ البيعة للنظام الأمويِّ.

الثاني: الاستجابةُ لدعوات أهل الكوفة.

الثالث: طلبُ الإصلاح والتغيير والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر.

 

طلبُ الإصلاح هو محور الدوافع:

ولعلَّ ثمة توافقًا بين الباحثين على أنَّ هذه العوامل الثلاثة كان لكلٍّ منها لها تأثيرٌ في انطلاق النهضة الحسينيَّة لكنَّهم يختلفون في العامل الأساس منها، فبعضُهم يعتبرُ دعواتِ أهل الكوفة هي العامل الأساس من بين هذه العوامل، وبعضُهم يعتبرُ رفضَ البيعة هو العامل الأساس، بينما يتبنَّى آخرون العاملَ الثالث وهو الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر وطلبُ الإصلاح والتغيير للواقع الفاسد فيعتبرونَه المنشأَ والمحرِّكَ الأولَ والمحوريَّ لنهضة الإمام الحسين (ع) وأمَّا العاملانِ الآخرانِ فأحدُهما وهي دعواتُ أهلِ الكوفة كان واحدًا من الوسائل المُتاحة للأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر أو قل هي واحدةٌ من الأدوات التي أراد الحسين(ع) من الرعاية لها أنْ تكون وسيلةً من أهم الوسائلِ في طريق غايتِه الأولى من النهضة وهي الأمرُ بالمعروف وطلبُ الإصلاح والتغيير.

 

وأمَّا العامل الآخر وهو رفضُ البيعة للنظام الأموي فهي وظيفةٌ دينيَّة رأى الإمامُ الحسين (ع) أنَّه بصفته مكلَّفًا من المكلَّفين ملزمٌ بها شرعًا بحسب تشخيصه المعصوم للظروف التي عايشها، وهو في ذات الوقت أعني رفضَ البيعة مبدأُ انطلاق النهضة من أجل الإصلاح والتغيير، فرفضُ البيعة لم يكن هو الدافع أو لم يكن هو الدافع الأساس للنهضة، نعم يُمكن اعتبار الإعلان عنه الفصلَ الأول لانطلاق النهضة المباركة.

 

والواضح من ملاحظة النصوص المأثورة والمستفيضة عن الإمام الحسين (ع) وكذلك من ملاحظة مجريات الأحداث التي اكتنفت النهضة المباركة أنَّ الباعث والعامل الذي يحظى بالمركزيَّة وعليه مدارُ نهضة الإمام الحسين (ع) في مجمل مفاصلِها وتفاصيلِها هو الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر وطلبُ الإصلاح والتغيير للوضع الفاسد والتصحيحُ للمسار الذي انحرفَ بفعلِ المكر الأمويِّ عن الصراط الذي رسمَه الرسولُ الكريم (ص).

 

النصوص الدالَّة على محوريَّة طلب الإصلاح:

وللتأكيد على ما ذكرناه نستعرضُ أولاً عددًا من النصوص المأثورة عن الإمام الحسين (ع) والتي تُعبِّر عن الباعث والغاية الأولى والمحوريَّة لنهضته المباركة:

 

النص الأول: وصيَّتُه الشهيرة لمحمَّد بن الحنفيَّة التي خطَّها بقلمِه الشريف حين أزمع الهجرةَ إلى مكَّة، فكانت هي الإعلان الأول لنهضتِه المباركة وقد اتَّسم هذا الإعلان بالوضوح حيثُ تبيَّن منه ما هي الغاية المركزيَّة من حركته التي لها ومنها بدأ، وإليها انتهى، يقول (ع): "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسينُ بن عليِّ بن أبي طالب إلى أخيه محمَّدٍ المعروفِ بابن الحنفية أنَّ الحسينَ يشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، جاء بالحقِّ من عند الحقِّ، وأنَّ الجنَّة والنار حقٌّ، وأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّ اللهَ يبعثُ من في القبور، وأنَّي لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا ولا مُفسدًا ولا ظالمًا وإنَّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أمَّة جدِّي (صلَّى الله عليه وآله) أُريد أنْ آمرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسيرَ بسيرة جدِّي وأبي عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فمن قبِلني بقبولِ الحقِّ فاللهُ أولى بالحقِّ، ومَن ردَّ عليَّ هذا أصبرُ حتى يقضيَ اللهُ بيني وبين القومِ بالحقِّ وهو خيرُ الحاكمين .. ثمّ طوى الحسينُ (عليه السلام) الكتابَ وختَمه بخاتمه، ودفعَه إلى أخيه محمَّد، ثمّ ودَّعه وخرجَ في جوفِ الليل"(1).

 

بهذا الإعلان الموجز والبيِّن انطلقت نهضةُ الحسين (ع) وبدأ الفصلُ الأول منها، وقد أوضح الإمامُ (ع) فيه أنَّ باعثَه على الخروج -والذي هو تعبيرٌ آخر عن الثورة والنهضة- هو طلبُ الإصلاح والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر واستفراغُ الوسع من أجل إعادة الأمة إلى الجادَّة التي رسمَها جدُّه الرسولُ الكريم (ص) وتمثَّل بهديها الإمامُ عليُّ بن أبي طالب (ع).

 

والجديرُ بالذكر أنَّ الإمام الحسين (ع) حرصَ على أنْ يكون هذا الإعلانُ مكتوبًا بيدِه ومختومًا بخاتمِه الشريف، فلا مسرحَ بعده للاجتهاد فيما هو دافعه وما هي غايتُه من الخروج وما هو مطلبُه، كما أنَّ إيداعه لهذه الوصية بيد أخيه محمَّدِ بن الحنفيَّة -ليكون هو الكاشف عنها- يُضفي عليها مزيدًا من الوثوق، فلا يتطرَّق وهمٌ في انتحالها وسيكونُ ذلك أيضًا منشأً لذيوعها وانتشارها، فهو نظرًا لقرابتِه القريبة من الحسين (ع) سيكونُ أولَ مَن يُسأل مِن قِبل الناس والصحابة والسلطان عن غاية الحسين (ع) من خروجه، على أنَّ توصيف الإعلان بعنوان الوصيَّة لمحمَّد بن الحنفية يعني صريحًا بأنَّ محمَّد بن الحنفية مكلَّفٌ بالإعلان عن هذه الوصية وتبليغها، فالحسينُ لم يكتب الوصيَّة لكي يتمَّ ايداعُها في صندوقٍ والتكتُّم عليها، فهي ليست من قبيل الوصية بمالٍ أو عقار، فلحنُ الوصية ومضمونُها يقتضيان أنْ يكون أداؤها والوفاءُ بها إنَّما هو بتبليغها وايقافِ الناس عليها وإلا كان الغرض العقلائي من كتابتها منتفيًا.

 

إذن فغايةُ الحسين (ع) من خروجه على النظام الأمويِّ هو طلبُ الإصلاح والأمرُ بالمعروف، والمُلفتُ أنَّ الحسين (ع) لم يذكر أنَّ من دوافع نهضتِه هو مطالبة النظام له بالبيعة بل لم يشتمل الخطاب على الإشارة لذلك بل إنَّ لحنَ خطابه يقتضي أنْ لا يكون ذلك هو باعثَه على النهضة، إذ ليس من المناسب لفحوى الخطاب أنْ يُقال إنَّ الحسين (ع) سوف لن يخرج لطلب الإصلاح ولن يأمرَ بالمعروف وينهى عن المنكر إذا لم يُطالبْه النظامُ الأمويُّ بالبيعة، فالواضحُ من هذا النصِّ الشريف أنَّ الحسينَ (ع) أزمَعَ الخروجَ والنهضة سواءً طالبَه النظامُ بالبيعة أو لم يطالبْه.

 

ثم إنَّ ظرفَ صدورِ الخطاب كان قبل أنْ تصلَه كتبُ أهل الكوفة بل لعلَّه قبل أنْ يصلَ خبرُ موتِ معاوية إلى أهل الكوفة، فهذا الخطابُ صدر في شهرِ رجب قُبيل مسيره إلى مكة، وإنَّما وصلتْ إليه كتبُ الكوفة بعد العاشر من شهر رمضان المبارك وذلك ما يُعزِّز أنَّ الإمام الحسين (ع) قد عقد العزمَ على مناهضةِ النظام الأُموي بقطع النظر عن استعدادِ الكوفة لمؤازرتِه أو عدم استعدادِها.

 

النص الثاني: أوردَه الطبريُّ وغيرُه قال: إنَّ الحسين (عليه السلام) خطَبَ أصحابه وأصحاب الحرِّ بالبيضة، فحمِد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَيُّهَا النّاسُ! إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قالَ: من رأى سلطانًا جائرًا مستحِلًا لحُرَمِ الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنَّةِ رسول الله، يعملُ في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقًّا على الله أنْ يُدخلَه مدخلَه. أَلا وَإِنَّ هؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيْطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيءِ، وَأَحَلُّوُا حَرامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَ .."(2).

 

إذن فالغايةُ من نهضته -بحسب هذا الخطاب- هي التغييرُ للواقع الفاسد الذي تصدَّى (ع) لتوصيفِه بدقَّةٍ متناهية، فالنظامُ الأمويُّ قد لزِم طاعةَ الشيطان فهو يصدرُ عن أمرِه وإيحائه في إشارةٍ إلى مثل قوله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(4) وتركوا طاعةَ الرحمن فلا يرون لطاعتِه حقًّا يلزمُهم الاِنبعاث عنه، وأظهروا الفسادَ غيرَ عابئين ولا وجِلين من المجاهرةِ به، وعطَّلوا حدودَ الله وشريعةَ سيِّدِ المرسلين (ص) عنادًا ومكابرةً، واستأثروا بالفيء واستحوذوا على معايشِ الناس ومنابِع أرزاقهم، وجهدوا في طمسِ معالمِ الدين وتغييرها، فأحلَّوا ما حرَّم الله وحرَّموا حلالَه، فذلك هو النهجُ الذي اعتمده الأمويُّون في إدارتِهم لشؤون الأُمة، وهو ما يضعُ على عُهدة كلِّ مسلمٍ مسئوليةَ العمل على تغييره بمقتضى ما أفاده الرسولُ (ص) بقوله: "فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقًّا على الله أنْ يُدخله مدخله" والحسين (ع): "أحقُّ من غيَّر" كما أفاد (ع) ومِن غير المناسب القبول باستظهار أنَّ الحسين (ع) أراد القول بأنَّه يكون مسئولًا عن الجهاد والعمل على التغيير لو كان مُطالبًا من قِبَل النظام الأموي بالبيعة ويكون معفيًّا من هذه المسئوليَّة لولم يُطالبْه النظامُ الأمويُّ بالبيعة، فلحنُ هذا الخطاب والتصدِّي لتوصيف ما يقترفُه النظامُ من عظائم التي تُفضي إلى تقويض بُنى الإسلام يقتضي الجزم بأنَّ الإمامَ الحسين (ع) أراد من ذلك التعبير عن أنَّه بصدد العمل على تغيير هذا الواقع مطلقًا سواءً طالبَه النظامُ الأمويُّ بالبيعة أو لم يُطالبْه بذلك.

 

إذن فهذا النصُّ واضحُ الدلالة في أنَّ الغاية المحوريَّة من نهضة الإمام الحسين (ع) هو طلبُ الإصلاح والتغيير والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر بقطع النظر عن قضيَّة البيعة، كما أنَّ هذا النصَّ يُؤكِّد أنَّ نهضته المباركة لم تكن منوطةً بدعوات أهل الكوفة، إذ إنَّ ظرف صدور هذا الخطاب كان بعد خُذلان الكوفة ومقتلِ مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وبعد إحكام الأمويِّين هيمنتَهم على الكوفة ومحاصرتِها وإغلاق جميع منافذها والطرقِ المؤدِّية إليها -فليس لأحدٍ أنْ يدخلَ أو يخرجَ منها- وبعد اعتقال من يُخشى تأثيره وبعد ممالئةِ الأعيان وزعماء العشائر للنظام حيثُ مُلئت غرائرُهم بالأموال وقلوبُهم بالرعب من بطش النظام الأمويِّ، في مثل هذا الظرف صدرَ هذا الخطاب من الإمام (ع) وهو ما يُؤكِّد على أنَّ نهضته لمقارعة النظام الأمويِّ لم تكن منوطةً ابتداءً واستمرارًا بدعوات أهل الكوفة، إذ لو كانت منوطةً بدعوات أهل الكوفة لكان ذلك يقتضي الكفَّ عن المُنابذة للنظام الأمويِّ بعد تبيُّن عدم امكانيَّة احتضان الكوفة لنهضتِه المباركة.

 

وأمَّا قولُه (ع) بعد ذلك: "قَدْ أَتَتْني كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ أَنَّكُمْ لا تُسْلِمُوني وَلا تَخْذُلُوني، فَإِنْ تَمَّمْتُمْ عَلىِّ بَيْعَتَكُمْ تُصيبُوا رُشْدَكُمْ، فَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، نَفْسي مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلي مَعْ أَهْليكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتي مِنْ أَعْناقِكُمْ فَلَعَمْري ما هِيَ لَكُمْ بِنُكْر، لَقَدْ فَعَلْتُمُوها بِأَبي وَأَخي وَابْنِ عَمّي مُسْلِم! وَالْمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِكُمْ، فَحَظَّكُمْ أَخْطَأْتُمْ، وَنَصيبَكُمْ ضَيَّعْتُمْ ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾(5) وَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُه"(6).

 

فهي من أجل إقامة الحجَّة بعد الحجَّة، وهي في ذات الوقت محاولةٌ لاستنهاض عزائمِهم الخائرة بتذكيرهم بالوعود التي قطعوها على أنفسِهم وتحذيريِهم من مغبَّة نقضِهم لعهودِهم واستفراغ الوسع في الوعظ والنصيحة لهم ثم أفاد (ع) أنَّ الله تعالى سيُغني عنهم تعبيرًا عن أنَّ خذلانَهم لن يُثنيه عن المضيِّ في طريقِه من أجل الإصلاح وتصحيحِ المسار.

 

وأمَّا قولُه (ع) المتكرِّر في خطاباتٍ عديدة أَّنَّه على استعداد للانصراف عن دخول الكوفة(7) فهو لأنَّ الكوفة أصبحتْ غيرَ مؤهَّلةٍ لاحتضان نهضتِه، فهو لا يبتغي بذلك التراجع عن المضيِّ في نهضته وإنَّما يبتغي من ذلك التربُّص علَّه يجدُ حاضنةً أخرى لنهضتِه أو يُتاح له الإعداد لذلك، وكانت السلطة الأمويَّة تُدرُك ذلك جيِّدًا، ولهذا كانت في سباقٍ مع الزمن خشيةَ أنْ لا يتهيأ لها تصفيةُ الحسين (ع) والتخلُّصُ من خطر وجوده لو تَراختْ في اقتناص هذه الفرصة السانحة.

 

النص الثالث: ما رواه ابنُ الجوزي من كلامٍ للإمام الحسين (ع) ردًّا على تحذير الفرزدق له من المصير إلى الكوفة والتي وصف أهلها بأنَّ قلوبَهم معه وسيوفَهم مع بني أميَّة فكان جوابُ الإمام- بحسب رواية ابن الجوزي- معبِّرًا عن أنَّ الثورة على بني أمية أبعد من أنْ تدور مدار استعداد أهل الكوفة لمؤازرته أو عدم استعدادهم، يقول (ع) مبرِّرًا الخروج على بني أميَّة: "يا فَرَزْدَقُ! إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيْطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأَظْهَروُا الْفَسادَ في الأْرْضِ، وَأَبْطَلُوا الْحُدُودَ، وَشَرِبُوا الْخُمُورَ، وَاسْتَأْثَروُا في أَمْوالِ الْفُقَراءِ وَالْمَساكينَ، وَأَنا أَوْلى مَنْ قامَ بِنُصْرَةِ دينِ اللهِ وَإِعْزازِ شَرْعِهِ وَالْجِهادِ في سَبيلِهِ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا .."(8).

 

إذن فالغايةُ من النهضة هي نصرةُ دين الله والجهادُ في سبيله، والعملُ على تغيير هذا الواقع الفاسد "لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا" وهذه الغاية قائمةٌ ولازمة حتى وإنْ خذلَه أهلُ الكوفة بل وحتى لو تخاذلتِ الأمةُ برمَّتها عن نصرتِه، وقد فعلَتْ فلم يعبأ بل كان يُدرِكُ أنَّها ستخذلُه فلم يُثنِه ذلك عن الشروع والإصحار بنهضته.

 

النص الرابع: كتاب الإمام الحسين (ع) إلى أهل البصرة بحسب ما أوردَه الطبريُّ وغيرُه قال: "وكتبَ بنسخةٍ إلى رؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف فكتبَ إلى مالك بن مسمع البكري وإلى الأحنف بن قيس وإلى المُنذر بن الجارود وإلى مسعود بن عمرو وإلى قيس بن الهيثم وإلى عمرو بن عبيد الله بن معمر فجاءت منه نسخةٌ واحدة إلى جميع أشرافها: "أمَّا بعد فانَّ الله اصطفى محمدًا (صلَّى الله عليه وآله وسلم) على خلقِه وأكرَمه بنبوَّتِه، واختارَه لرسالتِه ثم قبضَه اللهُ إليه وقد نصحَ لعبادة وبلَّغ ما أُرسل به (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وكنَّا أهلَه وأولياءَه وأوصياءه .. وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فانَّ السُنَّة قد أُميتتْ وإنَّ البدعة قد أُحييت وإنْ تسمعوا قولي وتُطيعوا أمري أهدكم سبيلَ الرشاد والسلام عليكم ورحمة الله"(9).

 

وأورد الدينوري في كتابه الأخبار الطوال أنَّه جاء في كتاب الحسين (ع) لأهل البصرة: ".. سلامٌ عليكم، أمَّا بعد، فإنِّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقِّ وإماتةِ البدع، فإنْ تُجيبوا تهتدوا سُبلَ الرشاد، والسلام"(10).

 

فالسببُ الذي برَّرَ به الإمامُ الحسين (ع) لأهل البصرة دعوتَه للثورة والمؤازرة -بحسب ما أورده الطبري- هو أنَّ سنَّة الرسول (ص) قد أُميتت واستُعيض عنها بالبدع، ومثل هذا المبرِّر للنهضة لا يصحُّ تأطيرُه بمطالبة النظام الأمويِّ له بالبيعة بحيثُ إنَّه لولم يُطالبه الأمويُّون بالبيعة فإنَّ له أنْ يغضَّ الطرف عن إماتتهم للسنَّة وإحيائهم للبدعة، فلو كان الأمرُ كذلك لكان معناه اتِّهام الحسين(ع) بأنَّه برغماتي وأنَّ توصيفه لواقع الأمويين كان لمجرَّد التهويل والتحشيد، وهذا ما لا يجسرُ على توهُّمه مسلمٌ يخشى الله تعالى.

 

إنَّ هذا النصَّ والذي يليه يؤكِّدان أنَّ غاية الحسين (ع) من نهضته هو إحياء معالم الحقِّ وإحياء السنَّة -التي جهد النظامُ الأمويُّ على إماتتها- وأنَّه ماضٍ تحت أيِّ ظرفٍ في طريق تحقيقها سواءً طالبَه النظامُ الأموي بالبيعة أو كفَّ عنه وتحاشا استفزازَه.

 

ثم إنَّ هذا النصَّ خطابٌ بعثَه الإمام (ع) من مكة إلى أهل البصرة ولم يكن أهلُ البصرة قد كتبوا إليه، فهو المُبادِر إلى دعوتهم لمؤازرته في الثورة على بني أمية، وذلك يُعبِّر عن أنَّ الإمام (ع) كان يعمل من مقرِّه في مكة المكرمة على الإعداد لحواضنَ لنهضته، فمراسلتُه لأهل البصرة وقع قبل أنْ يتبيَّن له ظاهرًا أنَّ الكوفة جادَّة في استعدادِها أو لم تكن جادَّة، وهو ما يكشفُ عن أنَّ قرار النهضة قد سبق قرار المصير إلى الكوفة، فقرارُ النهضة قد حُسم في مرحلةٍ سابقة بل إنَّ الإعلان عنها والإصحار بها قد وقع منذُ أول يومٍ أعلنَ فيه الرفض القاطع للبيعة، فالرفضُ للبيعة وإنْ لم يكن هو الدافع للنهضة ولكنَّه كان مبدأ انطلاقها، ولهذا فالرسلُ والمراسلاتُ والخطبُ والمحاوراتُ كانت الغايةُ منها جميعًا الدعوةَ للمشاركة في مشروعٍ قد اتُّخذ القرار في امضائه أيَّاً كانت الظروف، فالحسينُ (ع) كان يعلم أنَّ الظروف في أيِّ وجهةٍ قد اتَّجهت فإنَّ ذلك لن يُؤثِّر في انجازه للغاية من نهضته المباركة، فنجاحُ الحسين (ع) في مشروعِه لم يكن متوقِّفاً على استعداد أهل الكوفة واستجابة أهل البصرة وسائر الحواضر، نعم هو متوقِّفٌ على دعوتهم لمؤازرته وإلقاء الحجَّة عليهم وهو لم يألو جهدًا في ذلك ولم يُخصِّص دعوته بالكوفة والبصرة فقد خاطب جماهير الحجَّاج فقال: "ألا فمَن كان باذلاً فينا مُهجتَه موطِّنًا على لقاء الله نفسَه فليرحلْ معنا فإنِّي راحلٌ مصبحًا إنْ شاء الله"(11).

 

فنهضتُه ونجاحُها لا يتوقَّفان على توفُّر أسباب الانتصار العسكري نعم هي متوقِّفة على السعي من أجل إيجاد أسبابِ الانتصار العسكري، فإنْ أُتيح ذلك وإلا فالتضحية والفداء هي الوسيلة التي بها يُحقِّق الإمامُ (ع) غايته وهي طلب الإصلاح والتغيير للواقع الفاسد.

 

ونستكمل الحديث فيما بعد إنْ شاء الله تعالى.

 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد، واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(12).

 

 والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

15 من شهر صفر 1445هـ - الموافق 1 سبتمبر 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

--------------------------------

1- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج1 / ص188، الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص21، بحار الأنوار نقلًا عن مقتل السيد محمد بن أبي طالب الموسوي ج44 / ص329، وأورد ذلك ابن شهراشوب بشيء من التفاوت في كتابه مناقب آل أبي طالب ج3 / ص241.

2- تاريخ الطبري ج4 / ص304، الكامل -ابن الأثير- ج5 / ص48، الفتوح ج5 / ص81، نقل البلاذري في أنساب الأشراف -البلاذري- جزء من الخطبة ج3 / ص171.

3- سورة البقرة / 268.

4- سورة النور / 21.

5- سورة الفتح / 10.

6- تاريخ الطبري ج4 / ص304، الكامل -ابن الأثير- ج5 / ص48، الفتوح ج5 / ص81.

7- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص85، مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص247، روضة الواعظين ص181.

8- تذكرة الخواص ص217.

9- تاريخ الطبري ج4 / ص266، أنساب الأشراف -البلاذري- ج2 / ص78، البداية والنهاية ج8 / ص170، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص17.

10- الأخبار الطوال -الدينوري- ص231.

11- مثير الأحزان- ابن نما الحلي- ص30، اللهوف - السيد ابن طاووس- ص38، كشف الغمة -الأربلي- ج2 / ص239.

12- سورة النصر / 1، 3.