الدافع المِحوريُّ لانطلاق نهضةِ الإمام الحسين (ع) -2

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، اللهمَّ لك الحمدُ بديعَ السماواتِ والأرضِ ذا الجلالِ والاكرامِ، وإلهَ كلِّ شيءٍ مألوهٍ، وخالقَ كلِّ شيءٍ مخلوقٍ، ووارثَ كلِّ شيءٍ، ليس كمثلِه شيءٌ، ولا يغربُ عنه علمُ شيءٍ، وهو بكلِّ شيءٍ محيطٌ، وهو على كلِّ شيءٍ رقيبٌ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ (ص).

 

عبادَ اللهِ أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ فإنَّكم في دارِ أملٍ، بين حياةٍ وأجلٍ، وصحَّةٍ وعِللٍ، دارِ زوالٍ متقلِّبةِ الحالِ، جُعلتْ سبباً للارتحالِ، فرَحِمَ اللهُ امرأً قصَّرَ من أملِه وجَدَّ في عملِه، وأنفقَ الفضلَ من مالِه، وأمسَكَ الفضلَ من قوتِه فقدَّمه ليومِ فاقتِه، يوم تُحشرُ فيه الأمواتُ، وتَخشعُ فيه الأصواتُ.

 

أما بعدُ:

فاستكمالاً للحديث حول ما هو الدافعُ المحوريُّ لنهضة الإمام الحسين (ع) وكنَّا قد ذكرنا أنَّ الدافع الأساس والذي عليه مدار نهضة الحسين (ع) هو الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر وطلبُ الإصلاح والتغيير للواقع الفاسد وقد استشهدنا على ذلك بعددٍ من النصوص، وقرَّبنا الاستدلالَ بها على ذلك وأنَّها تدلُّ في ذات الوقتِ على نفي ما يدَّعيه البعض من أنَّ الدافعَ من النهضة هو رفضُ البيعة وما يدَّعيه آخرون من أنَّ الدافعَ من النهضة هو الاستجابة لدعواتِ أهل الكوفة وهنا نذكر عدداً من القرائن التي تؤكِّد على نفي كلا الدعويين.

 

القرينةُ على أنَّ رفض البيعة لم يكن هو العامل الأساس:

أمَّا الدعوى الأولى وهي أنَّ رفض البيعة كان هو العامل الأساس للنهضة فينفيها مضافًا إلى النصوص التي ذكرنا بعضَها وأغفلنا أكثرها، أنَهَ لو كانت غاية الحسين (ع) متمحِّضة في رفض البيعة لما كان يشقُّ عليه التصريح بذلك، فإنَّ تصريحَه قد يُسهم في الكفِّ عنه وعدم ملاحقته، فإنَّ السلطة قد فهمت وتيقَّنت بأنَّ رفْضَ الحسينِ(ع) للبيعة إعلانٌ للثورة عليها، فكان بإمكانِه التصريحُ بأنَّه غيرُ عازمٍ على الثورة عليها إذا لم تُجبره السلطةُ على البيعة كما أعلنَ عن ذلك حين طلب منه معاويةُ البيعةَ ليزيد بولاية العهد، فهو(ع) قد أصرَّ على رفض البيعة ليزيد أيَّام معاوية وفي ذات الوقت بيَّن بأكثر من خطاب بأنَّه ملتزمٌ بعدم الخروج على معاوية(1) فتركُ الحسينِ (ع) للتصريح بذلك بعد رفضِه للبيعة ليزيد يُؤكِّد أنَّ غايتَه لم تكن متمحِّضة في رفضِ البيعة.

 

على أنَّه لو قيل بأنَّ السلطة لن تقبلَ منه بما دون البيعة فإنَّه يُقال بأنَّ الحسين(ع) لولم يكن عازمًا على الثورة وكان كلُّ همِّه أنْ لا يُبايع وحسب ففي وسعِه أنْ يتوارى عن نظر السلطة ويلجأ إلى موضعٍ لا تصلُ إليه يدُ السلطة أو لا تصلُ إليه بسهولة فيكون في الوقت سعةٌ للمناورة والتداول لكنَّه (ع) لم يفعلْ بل توجَّه لبلدٍ هي من حيثُ المناخ لا تصلحُ للاختباء والمناورة، فهي أرضٌ منبسطة فليس فيها جبالٌ ولا شعاب، وهي في ذات الوقت في متناول يد السلطة، وتجربتُهم فيها مع المعارضينَ لهم طويلة، وأتباعهم فيها كُثُر، وتركيبتُها السكانية مكوَّنةٌ من أخلاطٍ وأهواء ومذاهبَ متباينة وقبائلَ متنافرة، ولم يتوجَّه إليها بعد أنْ أحكم المؤيِّدونَ له هيمنتهم عليها بل سار إليها وهي بعدُ في مخاض وبلَغَه في طريقه إليها أنَّ السلطة قد أحكمتْ هيمنتها عليها ورغم ذلك تابع مسيره إليها وكان بوسعِه في أول الأمر أنْ ينصرف إلى بلدٍ آخر لكنَّه لم يفعل.

 

هذا مضافًا إلى أنَّ مسيره إليها كان تحتَ شعار المناهضةِ للسلطة ولم يكن تحت شعار اللجوءِ والاحتماء، ولم يكن كلُّ ذلك يخفى عليه، فقد أشار عليه ابنُ عباس بذلك فقال له كما في تاريخ الطبري وغيره: يابن عمّ! إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوَّفُ عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قومُ غدرٍ فلا تقربنَّهم، أقمْ بهذا البلد فإنّك سيّدُ أهل الحجاز، فإنْ كان أهلُ العراق يريدونك -كما زعموا- فاكتب إليهم فلينفوا عدوَّهم ثمّ أقدِم عليهم، فإنْ أبيتَ إلا أنْ تخرج فسِرْ إلى اليمن فإنَّ بها حصونًا وشعابًا، وهي أرضٌ عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة، وأنتَ عن الناس في عُزلة، فتكتبُ إلى الناس وتُرسل، وتبثُّ دُعاتك، فإنّي أرجو أنْ يأتيك عند ذلك الذي تحبُّ في عافية. فقال له الحسين (عليه السلام): يَابْنَ عَمِّ! إِنّي وَاللهِ! لأَعْلَمُ أَنَّكَ ناصِحٌ مُشْفِقٌ، وَلكِنّي قد أَزْمَعْتُ وَأَجْمَعْتُ عَلَى الْمَسير"(2).

 

وقد أشار عليه محمدُ بن الحنفيَّة بما يقربُ من هذه المشورة قال: "اخرج إلى مكّة فإنْ اطمأنَّتْ بك الدار فذاك الذي تُحبُّ وأُحبُّ، وإنْ تكن الأُخرى خرجتَ إلى بلاد اليمن، فإنَّهم أنصارُ جدِّك وأخيك وأبيك، وهم أرأفُ الناس، وأرقُّهم قلوبًا، وأوسعُ الناس بلادًا وأرجحُهم عقولًا، فإنْ اطمأنَّتْ بك أرضُ اليمن وإلاّ لحقتَ بالرمال وشعوب الجبال، وصرتَ من بلدٍ إلى بلد، لتنظرَ ما يؤولُ إليه أمرُ الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين".(3)

 

فتدابيرُ مَن يبحث عن اللجوء والاختباء أو الاحتماء بالأنصار لا تخفى على عاقلٍ فضلاً عن الإمام الحسين (ع) والذي كانت كلُّ خطواته وخطاباته المستفِزَّةِ للنظام الأمويِّ والفاضحةِ لواقعِه والمحرِّضةِ على مقارعته تُؤكد أنَّه قد عقدَ العزم على مناهضته تحت أيِّ ظرف وأنَّ مسيره إلى الكوفة -رغم ما يعتري ذلك من مخاطر لم تكن تخفى عليه كما صرَّح بذلك مرارًا- كان الخيار الوحيد المُتاح والمناسب للتأكيد على أنَّه يبتغي من حركته الثورةَ على النظام وليس شيئًا آخر.

 

وأمَّا مَن أشار على الإمام (ع) أنْ يذهب لليمن أو بعض البلاد النائية فلم تنشأ مشورتُه عن جهله بغاية الإمام (ع) وأنَّ غايته هي النهضةُ لطلب التغيير والإصلاح بل نشأتْ من حرصِه على سلامة الحسين (ع) من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ اللجوء إلى تلك البلاد هو المناسب للحسابات السياسيَّة، فبدلًا من أنْ يتَّجه الحسينُ (ع) للكوفة وهي بعدُ في مخاضٍ عسير ويُعرِّض نفسه للسيوف والاقتتال وقد تتمكَّن السلطة من حسم الوضع لصالحها فيكون الحسينُ(ع) حينذاك أوَّلَ المُستهدَفين بالتصفية، فبدلًا من ذلك ينأى الحسينُ (ع) بنفسِه وأسرته عن هذا الصراع ويتربَّصُ عن بُعْدٍ ريثما تسقرُّ الأمور لصالح المؤيِّدين له وتسقطُ الكوفة -والتي هي من أهمِّ الحواضر الإسلامية آنذاك- بأيديهم فحينئذٍ يكون المسيرُ إليهم مناسبًا، ولو اتَّفق غير ذلك يكون الحسين(ع) بعيدًا عن متناول يد السلطة، فالمتصدُّون لعرض هذه المشورة على الإمام الحسين (ع) يعلمونَ أنَّ غاية الحسين (ع) من حركته هي الثورة لطلبِ الإصلاح وليس البحث عن ملجأٍ يكون معه في مأمنٍ من بطشِ السلطة، ولذلك كانت مشورتُهم أنْ يكونَ اللجوء لمثل اليمن إجراءً مؤقتاً يكتبُ منها إلى الناس ويُراسلُهم ويبعثُ دعاته كما قال ابنُ عباس، وهذا يؤكِّد أنَّ ابن عباس يُدركُ أنَّ الحسين (ع) لا يبحثُ عن ملجأ وإنَّما هو بصدد الثورة، ولذلك أشار عليه أنْ يذهبَ لليمن فيكون في مأمنٍ من استهداف السلطة ويُمهِّد من هناك لنجاح ثورته فإنْ أُتيحَ له ذلك فقد بلغ مرامَه وهو في عافية كما قال ابن عباس وإنْ لم يتهيأ له ذلك فقد تحفَّظ على نفسه وأسرته وحظيَ بالسلامة، وكذلك هو ما اشار به محمد بن الحنفية فإنَّه أشار عليه باللجوء إلى اليمن أو غيرها من البلاد النائية والنظر إلى ما يؤول إليه أمرُ الناس أي أنَّه أشار عليه بمتابعة مجريات الأحداث من هناك، فإنْ صارت الظروفُ إلى ما يرغبُ فيه وتوطَّدت السُبل ولم يعُدْ ثمة ما يُخشى من غائلتِه وضررِه عاد فأمسكَ بزمام الأمور وإنْ كانت الدائرةُ على مؤيِّديه يكونُ هو قد نجى بنفسِه وأسرتِه.

 

إنَّ مثل هذه المشورة لم تكن تخفى على سيِّد الشهداء (ع) كما صرَّح بذلك حين عرض عليه عمرو بن لوذان ما يقربُ من هذه المشورة فقال له (ع): "ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكنَّ الله تعالى لا يُغلب على أمره"(4).

 

إنَّ اعتمادَ مثل هذه السياسة لإدارة شؤونِ الثورة إنَّما تُناسبُ القادةَ النفعيين الذين يتسلَّقون للوصول إلى مآربهم على أكتاف الناس ويقتنصونَ الفُرص إنْ أتيحت ويقطفونَ ثمارَ الجهودِ التي اكتوى بنارها غيرُهم ولا يعبئونَ بما يُصيبُ الناس من عنَتٍ ومشقَّة، وما يقعُ عليهم من بطشٍ وسطوة إذا كانوا في عافيةٍ وسلامةٍ من كلِّ ذلك، فإذا تمخَّضت الظروفُ عن وهنِ عدوِّهم وتبدَّدِ قوَّتِه جاءوا يلتقطونَ ثمارًا سقتْ شجراتِها دماءُ الفقراء والمستضعفين، تلك هي السياسة التي يعتمدُها القادةُ النفعيون، وأمَّا القادةُ المبدئيون الذين لا يشغلُهم إلا رضوانُ الله تعالى وخلاصُ شعوبهم من بغي الظالمين وبطشِهم فالسياسةُ التي يعتمدُها هؤلاء هي الوقوف مع شعوبهم في الصفِّ الأول فيُكابدونَ ما تُكابدُه ويتجرَّعونَ الغُصصَ التي تتجرَّع منها شعوبُهم بل يكون نصيبُهم السهمَ الأوفرَ منها فيتحمَّلون أعباءَ الدورِ الأصعب منها فتكون الوطأةُ عليهم أشدَّ وأقسى، تلك هي السياسة التي يعتمدُها القادة المبدئيون من حملة الرسالات الإلهيَّة وهكذا كان سيِّد الشهداء حيثُ هو الرجل الإلهيُّ الذي منحتَه السماءُ لأهل الأرض وأناطت به مسئوليَّة التحمُّل للأمانة الإلهيَّة، لذلك لا يسعُه الإصغاء لمثل هذه المشورات، وهم كذلك لا يسعهم الاستيعاب لموقفِه وغاياته تحت ضغط الظروف المحيطة بنهضته ذلك لأنَّهم ينظرون لحركته وموقفه من زاوية المصالح الشخصيَّة والمعادلات السياسية، وينظر الحسين (ع) -ومَن لزِم ركبَه الشريف- من زاوية ما يُصلِحُ أمة الإسلام في حاضرها ومستقبلها إلى قيام الساعة، لذلك استرخص دمَه وأشلاءَه ومضى في طريقه الوعر والملغوم بأقسى العقبات، لأنَّه أيقنَ بأنَّه الخيارُ الوحيدُ القادرُ على تصحيح مسار الأمَّة والضامنُ لإحياء دين الله وبقائه حيَّاً فاعلاً إلى قيام الساعة، ولم يعبأ بأنْ تُدرك الأمةُ أو لم تُدرك أنَّ خلودَ الإسلام كان من بركات نهضته وأنَّ فشلَ المشروعِ الأمويِّ الرامي لطمسِ معالم الإسلام كان من آثار دمِه المسفوحِ وأشلاءِ جسده المقطَّعة.

 

القرينةُ على أنَّ دعواتِ أهل الكوفة لم تكنْ هي العامل الأساس: 

وأمَّا القرينة على أنَّ دعوات أهل الكوفة لم تكن هي الدافع والعامل الأول لنهضته فقد تبيَّن ممَّا تقدم أنَّ إعلان النهضة وقع قبل أنْ تصلَه كتبُهم ولو قُدِّر أنَّه لم تكتِبْ له الكوفة كتابًا ولم تبعث إليه رسولًا لكان هو المُبادِر إلى مراسالتِها واستنهاضها كما فعل ذلك مع أهل البصرة وكما جدَّ في ذلك مع جماهير الحجَّاج القاطنة والوافدة لمكَّة من مختلف الأمصار، فدعواتُ أهل الكوفة لم تكنْ هي الباعث والمؤثِّر في اتِّخاذ الحسين لقرار النهضة -كما توهَّم البعض- فهذا القرار كان قد اتَّخذه الإمامُ الحسين (ع) في مرحلةٍ سابقة، نعم كان اختيار المسير إلى الكوفة دون غيرها منشأه استجابة أهل الكوفة لدعوته وتأكيدهم على مؤازته ومناصرته، وأمَّا قرار النهضة والثورة على النظام الأمويِّ لطلب الإصلاح والتغيير فلم يكن منوطًا بدعوات أهل الكوفة أو استجابتِهم لدعوته فهو (ع) قد أعلن -كما ذكرنا- عن انطلاق نهضته قبل رحيله إلى مكة الشريفة وعمِلَ مِن هناك بمختلف الوسائل المُتاحة والمتعارفة على خلق الأسباب المقتضية لنجاح نهضته أيَّاً كانت نتائجها الظاهريَّة، فجميع الخطوات التي اتَّخذها سيِّدُ الشهداء (ع) تُفضي إلى نجاح نهضته سواءً كُتب لها النصر العسكري أو لم يُكتب، فلعلَّه لم يتَّفق لنهضةٍ على امتداد التأريخ أنْ كان النجاحُ حليفَها على كلِّ تقدير.

 

وكيف كان فالشاهدُ الأول على أنَّ دعوات أهل الكوفة لم تكن هي المؤثِّر في اتِّخاذ الحسين (ع) لقرار الثورة مضافًا إلى ما ذكرناه من نصوص هو أنَّ دعوات أهل الكوفة جاءت متأخِّرة -ليس بالوقت اليسير في عمر الثورات- عن إعلان الإمام انطلاق ثورته المباركة وقد سبقتْها خطواتٌ ومراسلاتٌ وخطاباتٌ ومحاورات بل لا يبعد أنَّ مراسلة أهل الكوفة للإمام الحسين (ع) إنَّما نشأ عن وصول خبر رفضِه للبيعة وإعلانه للنهضة على بني أمية، ومراسلتُهم له لم يكن لغرض بعثِه على مناهضة النظام الأمويِّ وإنَّما هو لغرض إبداء الاستعداد لاحتضان نهضته، ويُمكن استظهار ذلك من ملاحظة النصِّ التأريخيِّ الشهير(5) الذي تضمَّن الكشف عن اللقاء الأول الذي عقده أعيانُ الكوفة وتمخَّض عنه مراسلة الإمام الحسين (ع) فقد اشتمل هذا النصُّ على أنَّ سبب اللقاء هو وصول خبر هلاك معاوية وامتناع الحسين (ع) عن البيعة ليزيد وخروجه إلى مكة.

 

فهذا النصُّ يؤكِّد ما ذكرناه من أنَّ دعوات أهل الكوفة جاءت متأخِّرة عن إعلان الحسين (ع) لنهضته بل تُؤكِّد على أنَّ الذي حفَّزهم على مراسلة الإمام الحسين (ع) هو رفضُه للبيعة والذي هو -بمقتضى ظروف الرفض ولغته- مؤشِّرٌ على عقده العزم على النهضة وتُؤكِّد كذلك على أنَّ مراسلتهم له لم تكن لغرض استنهاض الإمام -كما توهَّم البعض- بل هو لغرض إبداء الإستعداد لاحتضان نهضته.

 

وحين استجاب الإمامُ الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة لم يكن غافلاُ عن التركيبة المعقَّدة لهذا البلد كما لم يكن غافلاً عن احتمال نقضِهم للعهد الذي قطعَوه على أنفسِهم، وكذلك لم يكن غافلًا عن احتمال عجز مَن راسلَه عن احتضان نهضته فكلا الاحتمالين كان وارداُ وحاضرًا في خطاباته وخُطبه ورغم ذلك مضى في طريقِه إليهم.

 

ذلك لأنَّه الخيار الوحيد المتاح بعد أنْ خذلتْه الحجاز بقطريها المدينة ومكة، وقد كان فيهم بعد الإعلان عن النهضة ما يزيدُ على الأربعة أشهر وقد علموا جميعًا بعقده العزم على مناهضة السلطة الأمويَّة وظلَّ يدعوهم لمؤازرته ومناصرته فلم يسجب منهم لدعوته إلا النزرُ اليسير بل لم يجد منهم إلا التثبيط وتقمُّص دور العقلاء المُشفِقين الناصحين. فهذا عبد الله بن عمر يقول للإمام الحسين (ع): "أبا عبد الله! مهلًا عمّا قد عزمتَ عليه، وارجع من هنا إلى المدينة، وادخل في صلحِ القوم، ولا تغبْ عن وطنك وحرَمِ جدِّك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ولا تجعل لهؤلاءِ الذين لا خَلاقَ لهم على نفسِك حجَّة وسبيلًا .. فقال الحسين (عليه السلام): "أُفٍّ لِهذَا الْكَلامِ أَبَدًا ما دامَتِ السَّماواتُ والأرضُ! ثم قال (ع) لعبد الله بن عمر: اِتَّقِ الله أَبا عَبْدِ الرَّحْمنِ! وَلا تَدَعَنَّ نُصْرَتي .."(6).

 

فالمسير إلى الكوفة كان هو الخيارُ الوحيدُ المُتاح لسيِّد الشهداء (ع)، وكان احتمال نجاحه واردًا بل وراجحًا بحسب الموازين السياسيَّة ولذلك استنفرت السلطةُ الأمويَّة كلَّ امكانياتها من أجل اجهاضه ورغم كونه خيارًا قابلًا للنجاح إلا أنَّ الإمام الحسين (ع) لم يكن يُعوِّل على نجاحِه كما تُؤكِّد ذلك النصوص الكثيرة والكثيرة جدًا التي صرَّح الإمامُ فيها قبل مقتل مسلم وبعده -وكما هو الوعد الإلهي الذي تواتر عن الرسول (ص) وكان كثيرًا ما يردِّدُه- بأنَّ الكوفة ستخذلُه( 7) كما خذلته الحجاز وأنَّ مآل مصيره إلى اختيار التضحية والفداء، وذلك يُؤكِّد بما لا يدعُ مجالًا للشك أنَّ نهضته لم تكن منوطةً بدعوات أهل الكوفة وتأكيدهم على الاستعداد لمؤازرته، فهو إنَّما قَبِل بدعوات أهل الكوفة ليتمِّم بذلك الحجَّةَ عليهم وعلى الأمَّة وأمام التأريخ، ولأنَّه لا يسوغُ اختيار طريق الفداء والتضحية ما لم يستنفذ الإمامُ (ع) جميع الخيارات المتاحة، ولأنَّ الأمة والتاريخ لن يستوعبا المبرِّر لاختيار الإمام (ع) طريق الفداء والتضحية ما لم يتم الوقوف على أنَّ الحسين (ع) لم يكن له خيارٌ آخر غير هذا الخيار، ولأنَّ اختيار طريق الفداء والاستشهاد والتضحية لن يكون له الأثر المرجو على حاضر الأمَّة ومستقبلها إلا بأنْ يأخذَ الحسين (ع) بالأسباب التي يثبتُ بعدها أنَّ الأمة والسلطة الأمويَّة قد ألجئاهُ إلى اختيار طريق الفداء والتضحية.

 

فالخيارُ الوحيد المقابلُ لخيار التضحية هو الاستسلامُ والخنوع والهَوان وشرعنةُ الوضعِ الفاسدِ والملكِ العضود، والقبولُ بطمس الأمويِّين لمعالم الإسلام وإماتة السُنَّة وإحياءُ البدعة والبغيُ والظلم والاستئثارُ بمقدَّرات الأمة.

 

أمَّا وقد اختار الإمامُ الحسين (ع) والذي هو سبطُ الرسول (ص) وريحانتُه وثقلُه وأعلمُ الناس بكتاب الله وسنَّة رسوله (ص)، أمَّا وقد اختار طريق التضحية والفداء بعد أنْ أعذرَ واستفرغ الوِسع في استنهاض الأمَّة فقد فوَّت على النظام الأمويُّ ما كان يحرصُ عليه من إضفاء الشرعيَّة على نظامه، وفوَّت عليه سعيَه المحموم في تمرير مشروعِه الرامي إلى طمس معالم الإسلام، ووضَعَ الأمةَ أمام مسئوليَّة السعي من أجل الإصلاح والتغيير واستَثارَ فيها الشعورَ بالذنب والتأثُّم حيثُ لم تستجب لنداءاته واستغاثاته لاستنقاذ دين الله فاضطر إلى أنْ يستصرخها بدمه الزاكي ودماء فتيته وأطفاله.

 

وبدمه المسفوح وأشلائه وعظامه المهشَّمة تعرَّفت الأمةُ على هويَّة هذا النظام ونفاقه، وبإعلانه النهضة على هذا النظام الفاسد -وهو أعلم الناس بشريعة جدِّه المصطفى (ص)- أدركت الأمةُ كذبَ ما يُروِّج له النظامُ الأموي مِن أنَّ الرسول (ص) قد حرَّم الخروج على السلطان الجائر، ومنه أدركتْ أنَّ المتنسِّكين الذين يقتاتون فُتات موائد النظام الأمويِّ غيرُ جديرين بالثقة وتحمُّل أمانة النقل لسنَّةِ الرسول الكريم (ص) ولذلك يتعيَّن على الأمة مراجعة كلِّ ما كان يُروِّج له هؤلاء من أخبارٍ ومعتقدات، وبمقتله الشريف وعظيم ظلامته تبلور للتأريخ وذوي الإنصاف حجمَ الخطيئة التي وقعت بعد رحيل الرسول (ص) فكان من إفرازاتها ونتائجها أنْ يتبوأ مثلُ يزيد مقامَ الخلافة لرسول الله (ص) فيعمد إلى سبطِه وريحانته وسيِّد شبابِ أهل الجنَّة فيقتله أبشع قتلةٍ عرفها التأريخ ويُمثِّل بجسده ويطوف برأسه حواضر الإسلام ويسوقُ بنات الرسالة سبايا من بلدٍ إلى بلدٍ غير عابئ ولا متأثِّم.

 

إنَّ تلك هي بعضُ ما أنتجته نهضةُ الحسين (ع) واختياره لطريق التضحية والفداء مضافًا إلى الروح النضاليَّة التي انبعثت في ضمير عددٍ وازنٍ من أبناء الأمَّة فكان لها الأثرُ البالغ في تقويض بُنى الدولة الأمويَّة، وظلَّت هذه الروح الخلَّاقة تقضُّ مضاجعَ الظالمين إلى أنْ تقوم الساعة، وكلَّما ذوتْ تزوَّدت من وقود هذه النهضة، ومِن هذه النهضة المباركة أدركَ العالَمون الموقعَ المتقدِّم الذي تحظى به العدالة الإجتماعية في منظومة القيم الإسلاميَّة فهي بمكانٍ من الإسلام بحيث دفع برائده إلى التضحية بدمِه من أجل تحقيقها، ومن هذه النهضة رسم الإسلامُ لأتباعه بدم رائدِه طريقَ الخَلاص من الأوضاع الفاسدة ومن المسأثرين.

 

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(8).

 

الحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

22 من شهر صفر 1445هـ - الموافق 8 سبتمبر 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

------------------------------------------

1- الإحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص20، اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص252، الإمامة والسياسة -ابن قتيبة- ج1 / ص156.

2- تاريخ الطبري ج4 / ص288، الكامل في التاريخ ج4 / ص39، الأخبار الطوال -الدينوري- ص244، المختصر في أخبار البشر -أبي الفدا- ج1 / ص190.

3- الفتوح ج5 / ص20، الإرشاد -المفيد- ج2 / ص25، مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص240، تجارب الأمم -ابن مسكويه- ج2 / ص29.

4- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص76، تاريخ الطبري ج4 / ص301.

5- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص36، تاريخ الطبري ج4 / ص261، الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص27، روضة الواعظين ص172، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص436.

6- الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص25، مثير الأحزان ص29، اللهوف -ابن طاووس- ص22.

7- مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص29، اللهوف -ابن طاووس- ص38، مناقب الإمام أمير المؤمنين -محمد بن سليمان الكوفي- ج2 / ص262، الأمالي -الشجري- ج1 / ص229.

8- سورة الكوثر / 1-3.