معنى الصَغار في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(1) لماذا ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾؟!

الجواب:

مفاد الآية المباركة هو أنَّ فرض الجزية على أهل الكتاب يكون في ظرف خضوعهم للدولة الاسلاميَّة وقبولهم بأنْ يكونوا ضمن رعاياها وقبولهم بأنْ يكونوا خاضعين لمقرَّراتِها وأحكامها.

فعهدُ الذمَّة مع أهل الكتاب والذي يترتَّب عيه فرضُ الجزيةِ عليهم ليس من قبيل الصلح بين دولتين مستقلَّتين، وليس هو من الصلح بين فئتين متكافئتين، وإنَّما هو من قبيل المعاهدة بين دولةٍ وبين فئةٍ متمرِّدة -تقطنُ ضمن حدود هذه الدولة- أو فئةٍ يُخشى مِن تمرُّدها، فتعملُ الدولة على تطويعها وذلك بإعلان الحرب عليها إنْ لم تقبل بالخضوع لسلطان الدولة ومقرَّراتها، فإنْ قبِلتْ بالخضوع لسلطانِ الدولة صار لها حقُّ البقاء والانتفاع من موارد الدولة، وصار عليها حقُّ الدفعِ للجزية والذي هو العلامةُ والمؤشِّرُ على القبول بالانضواء تحتَ سلطانِ الدولة.

فإعلانُ الحرب على أهل الكتاب القاطنين ضمنَ حدود الدولة الإسلاميَّة، وفرضُ الجزيةِ عليهم ليس لغرض قسرِهم على ترك دينهم وقسرِهم على دخول الإسلام فإنَّ الحربَ عليهم لا ربط له بهذا الغرض أساساً وإنَّما هو لغرض بسْطِ الدولة سلطانها على عموم القاطنين ضِمنَ حدودها.

واعتبار الصَغار في حال فرض الجزية عليهم -كما أفادته الآية- تعبيرٌ عن أنَّ عهد الذمَّة يكون من قبيل المعاهدة على الخضوع لسلطان الدولة ومقرَّراتها، وأنَّه لا يُقبل منهم التمرُّد والتعاطي مع الدولة على أنَّهم فئةٌ مستقلَّة وغيرُ خاضعةٍ لمقرَّرات الدولةِ وأحكامِها. ولا يُقبل منهم إثارة الفوضى أو الممالئة للعدوِّ الخارجي أو فعل يُوجب التهديد لأمن الدولة واستقرارها.

فليس معنى قوله تعالى: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أنَّهم يُعطُونَ الجزيةَ وهم أذلاء محتقرون بل المراد من ذلك -كما استظهر العلامة الطبأطبائي وغيره(2)- وهم مقرُّون بالخضوع لقوانين الدولة وأحكامِها وأعرافها بمعنى أنَّهم مقرُّون أنَّهم من رعايا الدولة الاسلاميَّة، فلا يرونَ لأنفسِهم وجوداً مستقلَّاً في مقابل الدولة، ولا يفعلونَ ما يُوجب الإضرار بأمن الدولة واستقرارها بل يقبلونَ بجريان قوانين الدولة الإسلاميَّة عليهم، شأنُهم في ذلك شأنُ سائر الرعايا للدولة.

فمفاد الآية أنَّ حفظ ذمَّتِهم والكفَّ عنهم لا يتمُّ إلا بعد القبول بدفع الجزية عن خضوعٍ لسلطان الدولة وأنَّهم رعايا ملتزمون بأحكام الدولة وأعرافها، فهذا هو المراد من الصَغار، وليس المراد منه القبول بالمهانة والمذلَّة كما توهَّم البعض فإنَّ ذلك منافٍ قطعاً لروح الإسلام الذي أكَّد على حقِّ كلِّ إنسان في العيش الكريم، وهو منافٍ لسيرة الرسول الكريم (ص) وسيرة أمير المؤمنين (ع) مع أهل الذمَّة الذين كانوا رعايا في الدولة الإسلاميَّة.

ولتوثيق ذلك نذكر بعض النصوص الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ﻉ):

النص الأول: ما ورد في كتاب النبيِّ (ص) الى نصارى نجران: "هذا كتاب محمَّدٍ النبيِّ (ص) لنجران وحاشيتها .. ولنجران وحاشيتها ذمَّةُ الله، وذمةُ رسولِه على دمائهم وأموالهم وملَّتهم وبِيعَهم ورهبانيهم وأساقفتهم وشاهدهم وغائبهم، وكلُّ ما تحتَ ايديهم من قليلٍ أو كثير .."(3).

فهذا النصُّ صريح في احترام كيانهم ودمائهم وأموالهم وشعائرهم ومواضع عبادتهم واحترام زعمائهم وعلمائهم، غايته أنَّ عليهم الالتزام بمقتضيات عهد الذمَّة.

النص الثاني: ما روي عن النبيِّ (ص): "من ظلم معاهداً أو كلَّفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسِه فأنا حجيجُه يوم القيامة"(4).

فهذا النص صريح في التشنيع والوعيد بالمساءلة والعقوبة يوم القيامة لكلِّ مَن ظلم ذميَّاً معاهداً من أهل الكتاب أو كلَّفه فوق طاقته أو انتقصه وأهانه أو بخسه شيئاً من حقِّه، وهو ما يؤكِّد أنَّ المراد من الصغار في الآية ليس هو التحقير والإذلال.

النص الثالث: ما رُوي عن الامام عليٍّ (ع): "انَّما بذلوا الجزية لتكون أموالُهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا"(5).

فمفاد هذا النصِّ أنَّ أهل الكتاب -ممَّن قبلوا بعهد الذمَّة وبذلوا الجزية- رعايا في الدولة الإسلامية شأنُهم شأنُ سائر رعايا الدولة، فأموالهم ودماؤهم محترمة ومحقونة كأموال ودماءِ المسلمين 

النص الرابع: ما رُوي عن النبيِّ (ص) أنَّه كتب إلى أهل اليمن: "من كره الاسلام من يهوديٍّ أو نصراني فإنَّه لا يُحوَّل عن دينه، وعليه الجزية .."(6).

النص الخامس: ما رُوي عن الرسول (ص): "مَن يكن على يهوديَّته أو على نصرانيَّته فلا يُفتتن عنها، وعليه الجزية"(7).

فقوله (ص): "فلا يُفتتن عنها" يعني أنَّه لا يُقهر على ترك يهوديَّته أو نصرانيَّته، ولا يسوغ للمسلمين إيذاؤه فيضطر إلى ترك دينه. 

النص السادس: ما روي عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: "مَنْ أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ لَمْ يُتَعَدَّ عَلَيْه ولَمْ تُخْفَرْ ذِمَّتُه، وكُلِّفَ دُونَ طَاقَتِه"(8).

فقوله (ع): "ولَمْ تُخْفَرْ ذِمَّتُه، وكُلِّفَ دُونَ طَاقَتِه" معناه ولم يُنقض عهده بل يتعيَّن الوفاء بعهد الذمة التي بينه وبين المسلمين، ولا يجوز إيذاوه جسدياً أو نفسياً، ولا يكلَّف من الجزية إلا بما هو دون طاقته، فلا يُؤخذ منه ما يُرهقه ويوجب الاجحاف بحاله.

فمؤدَّى هذه النصوص -وغيرها كثير- يؤكِّد أنَّ المراد من الصَغار في الآية ليس هو الإذلال والتحقير وإنَّما هو الخضوع والقبول بالالتزام بمقتضيات الذمَّة ومقتضيات الكَون ضِمنَ رعايا الدولة الإسلاميَّة. 

وخلاصة القول: إنَّ مفاد الآية المباركة هو الأمر بقتال أهل الكتاب ومقتضى الأمر بقتالهم هو أنَّ لهم شوكةً وقدرةً على التمرُّد والتهديد لأمن المسلمين، فمثل هؤلاء تأمرُ الآية بقتالِهم ومحاربتهم والاستدامة على مقاتلتِهم إلى أنْ يتمَّ الكسر لشوكتِهم فيقبلونَ بالخضوع لسلطان الدولة والالتزامِ بمقرَّراتها وأحكامها، فهذا هو معنى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .. مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ يعني أنَّ عليكم الاستمرار بمجاهدتِهم وقتالهم إلى أنْ يُعلنوا الالتزام بترك التمرُّد على سلطان الدولة، ويُعلنوا الالتزام بعدم إشاعة الفوضى وتهديد الأمن والالتزام بقوانينَ الدولة وأحكامها. فإذا فعلوا ذلك وجب الكفُّ عنهم وصارت لهم ذمَّةٌ وعهدٌ محفوظ يتعيَّن بموجبِه تأهُّلهم للانتفاعِ من موارد الدولة، ويتعيَّنُ على بموجبه على الدولة الحمايةُ لهم ولمصالحِهم كما تَحمي رعاياها وتحمِي مصالحَهم.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

1 / ربيع الأول / 1445ه

17 / سبتمبر / 2023م


1- سورة التوبة / 29.

2- تفسير الميزان -السيد الطبأطبائي- ج9 / ص242

3- فتوح البلدان -البلاذري- ج1 / ص77، تفسير مقاتل بن سليمان -مقاتل بن سليمان- ج1 / ص211، الطبقات الكبرى -محمد بن سعد- ج1 / ص288.

4- سنن أبي داود -ابن الأشعث السجستاني- ج2 / ص45، معرفة السنن والآثار -البيهقي- ج7 / ص130. 

5- شرح نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- لابن ابي الحديد ج17 / ص148، تذكرة الفقهاء (ط.ج) -العلامة الحلي- ج9 / ص268.

6- المحلى -ابن حزم- ج7 / ص348، السيرة النبوية -ابن هشام الحميري- ج4 / ص1010.

7- السنن الكبرى -البيهقي- ج1 / ص195، تاريخ الطبري -الطبري- ج2 / ص381.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص3، وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج15 / ص12 / باب 1 من كتاب الجهاد / ح8.