معنى إرسال الشياطين ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾(1).
ما معنى: ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾؟ وكيف يرسلُ الله تعالى الشياطين على الكافرين ثم يعاقبهم؟ ثم إنَّ الشياطين إذا كانوا مُرسلين من عند الله تعالى فكيف يعاقبهم على إغوائهم للناس؟
الجواب:
معنى قوله تعالى: ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾:
معنى قوله تعالى: ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ هو أنَّ الشياطين تُغري الكافرين وتحثُّهم وتحضُّهم على فعل المعاصي، والأزُّ يعني التهييج واستعجال الشيء، فالشياطينُ تُهيِّج في نفوس الكافرين الرغبةَ في اجتراح المعاصي وتستعجلُهم للقيام بها وذلك بتزيينها في نفوسهم وترغيبهم في المبادرة إليها وتحذيرهم في ذات الوقت مِن فواتها. والأزُّ يعني التهييج والتحريك يقال: أزَّ الرجلَ أزَّاً أي هزَّه وحرَّكه وائتزت القدرُ ائتزازاً إذا اشتدَّ غليانها، ويقال لصوت غليان القدر أزيز، وكذلك يُقال لالتهاب النار في الحطب أزيز
فمعنى قوله: ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ تشغل قلوبهم بالوساوس والتسويلات وهو ما ينشأ عنه اضطرابها وهيجانها حرصاً ورغبة في تحصيل المشتهيات وخشيةً من فواتها، وقريب من ذلك معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ..﴾(2) فإنَّ معنى الأزِّ يُشبه معنى الاستفزاز والذي هو إثارة النفس وتهييجها وذلك بمثل تزيين الفعل والترغيب فيه المُنتِج لحرص النفس واستعجالها في تحصيله خشية فواتِه، وهو ما يواكب بطبعه اضطراب النفس تماماً كما يضطرب القدر حال غليانه، فلا يقرُّ للنفس قرار ما لم تصل إلى مرغوبها فإذا بلغته استقرَّت ثم لم تلبث حتى تضرب طمعاً في تحصيل مرغوبٍ آخر ولعلَّه لذلك قال تعالى: ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ بصيغة الفعل المضارع المفيد للتجدُّد والاستمرار.
الإرسال ليس بمعنى الأمر والطلب:
وأمَّا قوله تعالى: ﴿أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ فهو ليس بمعنى أمرنا الشياطين وطلبنا منهم بل هو بمعنى هو بمعنى أطلقناهم، فالإرسال -لغة- يعني الإطلاق المقابل للحبس، يُقال: أرسلتُ البعير أي أطلقتُه بعد أنْ كان محبوساً، ويقال أرسلتُ الطير أي أطلقتُه، ويُقال أرسلتُ الماء أي رفعتُ ما يمنع من جريانه، فإرسال الشياطين على الكافرين يعني إطلاقهم وعدم حبسهم عنهم.
إغواءُ الشياطين يقعُ بمحض اختيارهم:
فما يفعله الشياطين من إغواء وتضليل للكافرين إنَّما يفعلونه بمحض إرادتهم وسوء اختيارهم وذلك لخبثهم وقبح سرائرهم، غايته أنَّ الله تعالى قد يعصم الإنسان فيمنع منه الشيطان ويحول بينه وبين التمكُّن من إغوائه، وقد يخذل اللهُ تعالى الإنسان فلا يحبس عنه الشيطان ولا يمنعه من إغوائه. وهذا هو معنى إرساله فهو تعالى إذا لم يحبس الشيطان عن أحدٍ سار الشيطانُ مع هذا الإنسان بسيرته في الإغواء التي اختارها لنفسه، تماماً كما لو أرسلتَ الطير من القفص أي أطلقته فإنَّه سوف يطيرُ ويُحلِّقُ بعيداً، فأنت لم تأمره بالطيران والتحليق وإنَّما أطلقته ورفعت عنه الحبس فهو حين زال عنه الحبس جرى على ما يقتضيه طبعُه من الطيران والتحليق، وهكذا فإنَّك إذا أطلقتَ الذئب بعد أن كان محبوساً فإنَّه سوف يفترسُ ما يصادفه من الأغنام، فأنت لم تأمره بالافتراس وإنَّما أطلقته وأزلت عنه الحبس فهو حين زال عنه الحبس جرى على ما تقتضيه طبيعتُه من الافتراس، كذلك هو الشيطان إذا رُفع عنه الحبس تِّجاه أحدٍ سار معه بما تقتضيه سيرتُه من الإغواء والتضليل، فالشيطان لا يفعل الإغواء لأنَّ الله قد أمره بفعل ذلك بل يفعله لأنَّ تلك هي سيرته التي عقد العزم باختياره على المضيِّ فيها، غايته أنَّه لا يتمكَّن من المضيِّ فيها حين يكون محبوساً، فإذا أُطلق من الحبس جرى على ما تقتضيه سيرته.
فالآية المباركة تقول إنَّ الله تعالى أرسل الشياطين على الكافرين أي أطلقهم فلم يحبسهم عنهم، وهذا على خلاف ما يفعلُه تعالى مع المؤمنين فإنَّه يحبس الشياطين عنهم. وهو تعالى إنَّما أطلق الشياطين على الكافرين ولم يحبسهم عنهم مجازاةً لهم على كفرهم وجحودهم، فهم حين كفروا استحقُّوا من الله تعالى الخذلان، فلم يعودوا جديرينَ بأنْ يحبسَ الشياطين عنهم.
جواب: إذا كان الشياطين مُرسلين فكيف يُعاقبهم:
وبما ذكرناه من معنى الآية يتَّضحُ الجواب عن أنَّه إذا كان الشياطينُ مُرسلين من عند الله تعالى فكيف يُعاقبهم على إغوائهم للناس؟
فإنَّ الإرسال في الآية ليس بمعنى الأمر والطلب وإنَّما هو بمعنى الإطلاق وإزالة الحبس، فالشياطينُ إنَّما يفعلون الإغواء بمحض إرادتهم واختيارهم وليس لأنَّ الله تعالى أمرهم وطلب منهم ذلك بل إنَّه تعالى قد حذَّرهم من إغواء الناس وتوعَّدهم على ذلك بالعذاب الشديد ولكنَّ حكمته اقتضت أنْ لا يقسَرَ عباده على الطاعة، فالشياطينُ هم من اختاروا التمرَّدَ على الله تعالى والسعيَ في إغواء عباده، غايتُه أنَّ الله لرحمته يحبس الشياطين عمَّن يختار الهداية من عباده ولكنَّ مَن يختارُ منهم الجحود والضلال فإنَّ الله تعالى يخذلُه فيخلِّي بينه وبين الشياطين ولا يحبسُهم عنه، وهذا هو معنى إرسال الشياطين على الذين اختاروا الكفر.
فالشياطين ليسوا مأمورين بالإغواء، ولا يرتضي اللهُ تعالى منهم ذلك بل يسخطه ويُحذِِّر منه كما قال تعالى مخاطباً إبليس بعد ما قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(3) ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ / لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(4) فاستحقاق الشياطين لعذاب الله لأنَّهم اختاروا الإغواء بمحض إرادتهم رغم تحذير الله تعالى لهم ووعيده لهم بالعذاب في جهنَّم، وهذا وحده كافٍ لإثبات أنَّ الإرسال للشياطين في الآية ليس بمعنى أمرهم والطلب منهم، وإنَّما هو بمعنى إطلاقهم وعدم حبسهم عن الكافرين.
منشأ استحقاق الكافرين للعقوبة:
وأمَّا استحقاق الكافرين للعقوبة رغم أنَّه تعالى هو مَن أرسل عليهم الكافرين ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ فقد اتَّضح جوابُه وأنَّه تعالى لم يأمر الشياطين بإغوائهم، غايتُه أنَّه تعالى لم يمنعهم من إغوائهم، وإنَّما لم يمنع الشياطين عن إغواء الكافرين مجازاةً لهم على كفرهم، فهم حين اختاروا الكفر خذلهم فلم ينتصر لهم بأن يحبس الشياطين عنهم، فقوله تعالى: ﴿أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ واضحٌ في أنَّ إرسال الشياطين عليهم وقع بعد اختيارهم للكفر وصيرورتهم كافرين، فهم لا يستحقُّون بعد اختيارهم للكفر أن ينتصر اللهُ لهم فيحبس عنهم الشياطين، فمفاد الآية هو مفاد قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾(5) فالإنسان بعد أن يختار الإعراض عن ذكر الرحمن يخذله فيخلِّي بينه وبين الشيطان، فيزيده الشيطان إعراضاً على إعراضه وضلالاً على ضلاله.
ثم إنَّ الشياطين حين تعملُ على إغواء الكافرين و﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ لا تسلبُ اختيارَهم، فهم مَن يختارون بمحض إرادتهم الغواية، وكان بوسعهم أنْ يختاروا الهدى ويمتنعوا من الانسياق مع تسويلات الشيطان كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾(6) وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ / وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾(7).
فالشيطانُ لا يملكُ أن يقسرَ الناس على الكفر والمعاصي، فعملُه يتمحَّض في الإغراء على الكفر وفعل المعصية، وذلك من طريق التزيين والإيهام والتضليل والتغرير بالأماني الكاذبة والتخويف من المحاذير الموهومة كما قال تعالى على لسانه: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ... يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾(8) وقال تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾(9) وقال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾(10).
ورغم أنَّ الشيطان لا يملكُ أن يُلجِأ الناس على الكفر والمعصية وأنَّ كلَّ ما يفعلُه لا يعدو السعي للإغواء والتضليل ورغم أنَّ الله تعالى قد منح الإنسان عقلاً وفطرة يُميِّز بهما الخير من الشرِّ والضلالَ من الهدى فإنَّه تعالى مضافاً إلى ذلك حذَّر كثيراً وشديداً على لسان أنبيائه ورسله من تسويلات الشيطان ونبَّه على أنَّ الشيطان عدوٌ للإنسان فعليه أنْ يتخذَ منه عدوَّا يحذرُ من كيده وخُدَعِه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾(11) وقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾(12).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
18 / ربيع الأول / 1445ه
4 / اكتوبر / 2023م
1- سورة مريم / 83.
2- سورة الإسراء / 64،
3- سورة ص / 82.
4- سورة ص / 84-85.
5- سورة الزخرف / 36
6- سورة إبراهيم / 22.
7- سورة سبأ / 20-21.
8- سورة النساء / 119-120.
9- سورة الأنفال / 48.
10- سورة البقرة / 268.
11- سورة البقرة / 148.
12- سورة فاطر / 6.