معنى الآية: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾(1).

 

هل معنى الآية الكريمة أنَّ كلَّ أحدٍ من أهل الكتاب يؤمن قبل أن يموت بعيسى المسيح (ع) أم أنَّ للآية معنىً آخر؟

 

الجواب:

الآيةُ صيغت على نهج النفي والإثبات وذلك لإفادة العموم، فكلمة "إنْ" نافية بمعنى "ما" وأداة الاستثناء "إلا" بعد النفي يُفيد الإثبات، وعليه يكون معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ هو أنَّه ما مِن أحدٍ من أهل الكتاب إلا وسيُؤمنُ به، فهذه الفقرة من الآية ظاهرةٌ في العموم كما هو مقتضى صياغتها على نهج النفي والإثبات كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾(2) يعنى ما من أحدٍ منكم إلا واردها، ومفاد ذلك هو التعميم أي إنَّ كلَّ فردٍ فرد منكم سوف يردُ جهنَّم، كذلك هو مفاد قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي أنَّ كلَّ فردٍ من أهل الكتاب – وهم اليهود والنصارى-سوف يؤمن به أي بنبيِّ الله عيسى (ع).

 

فمرجعُ الضمير في قوله: ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ عائدٌ على نبيِّ الله عيسى (ع) والذي هو مذكورٌ في الآيات التي سبقت هذه الآية: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا / بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(3)

 

فمفاد قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ هو أنَّه ما من أحدٍ من اليهود والنصارى إلا وسوف يُؤمن بعيسى (ع) وهذا المقدار واضحٌ من مساق الآية، إنَّما الإشكال في مرجع الضمير من قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ فهل هو عائدٌ على المسيح عيسى (ع) أو هو عائدٌ على أحدٍ المقدر أي الكتابي 

 

فبناءً على الاحتمال الأول يكون مرجع كلا الضميرين في قوله: ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ وقوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ عائداً على عيسى المسيح (ع) ويكون مفادُ الآية هو أنَّه ما من أحدٍ من أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا وسيُؤمن بعيسى المسيح قبل موت المسيح (ع) ولذلك يتعيَّن أنْ تكون الآية بصدد الإشارة إلى ما سيقع في آخر الزمان -عند ظهور المهدي (ع)- من نزول عيسى (ع) من السماء فيُشاهدُه أهلُ الكتاب عياناً فيُؤمنون به جميعاً، فاليهودي يُؤمن بأنَّ عيسى كان رسولاً بعد أن كان يُنكر ذلك، والنصراني يُؤمن بأنَّ عيسى رسولٌ من عند الله وليس كما كانوا يعتقدون فيه أنَّه إلهٌ وأنَّه ابن الله.

 

وبناءً على الاحتمال الثاني يكونُ مفادُ الآية هو أنَّه ما من أحدٍ من أهل الكتاب إلا وسيُؤمن بالمسيح قبل أنْ يموت يعنى أنَّ كلَّ كتابيٍّ -من اليهود والنصارى- فإنَّه قبل أنْ يموت سوف يُؤمنُ بالمسيح عيسى(ع). ومعنى إيمان اليهوديِّ بعيسى هو أنَّه ينكشف له حال الاحتضار أنَّ عيسى رسولٌ من عند الله تعالى خلافاً لما كان يعتقده وخلافاً لما عليه الديانة اليهوديَّة من الإنكار لكون عيسى رسولاً من عند الله. ومعنى إيمان النصراني بعيسى (ع) هو أنَّه ينكشف له حين موتِه أنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه، وليس إلهً كما كان يعتقد وكما يزعمُ النصارى.

 

هذا والأقرب من مفاد الآية المباركة هو إرادة الاحتمال الأول، فذلك هو المناسب لسياق الآية، فهي قد جاءت بعد قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا / بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ فالآية تنفي ما يزعمه اليهود من أنَّهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه- وصدَّقهم في ذلك النصارى- وتؤكِّد أنَّه قد شبِّه عليهم والواقع أنَّهم لم يقتلوه ولم يصلبوه بل رفعه الله إليه ثم جاء قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ ليؤكد أنَّه لم يقتل ولم يُصلب وإنَّما رفعه الله إليه وسوف ينكشف لأهل الكتاب فساد ما يعتقدونه في المسيح حين ينزل من السماء فيشاهدونه عياناً حينذاك سوف يتبين لليهود أنَّهم لم يقتلوه وأنَّه كان رسولاً حقاً من عند الله تعالى ويتبين للنصارى فساد ما اعتقدوه من أنَّ المسيح إلهً بعد أن يشاهدوه عياناً وينفي لهم أنَّه إله وأنَّه لم يكن سوى رسولٍ بعثه الله إليهم.

 

ويؤكِّد هذا الفهم للآية ما رواه عليُّ بن إبراهيم القمي في تفسيره بسنده عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج بأنَّ آيةً في كتاب الله قد أعيتني، فقلتُ أيُّها الأمير أيَّةُ آيةٍ هي؟ فقال قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ والله إنِّي لآمر باليهوديِّ والنصرانيِّ فيُضرب عنقُه ثم أرمقه بعيني فما أراه يُحرِّك شفتيه حتى يخمد، فقلتُ أصلح اللهُ الأمير ليس على ما تأوَّلت، قال كيف هو؟ قلتُ إنَّ عيسى ينزلُ قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهلُ ملةٍ يهودي ولا نصراني إلا آمن به قبل موته ويصلِّي خلف المهدي، قال ويحَك أنَّى لك هذا؟ ومن أين جئتَ به؟ فقلتُ حدَّثني به محمدُ بن عليِّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فقال جئتَ بها والله من عينٍ صافية"(4).

 

وقريبٌ من مضمون هذا الخبر ما ورد في طرق العامَّة كما في السنن الكبرى للبيهقي بسنده عن ابن شهاب أنَّ سعيد بن المسيَّب سمع قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابنُ مريم حكما عدلا فيكسرُ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إنْ شئتم: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ -قال- رواه البخاري في الصحيح عن إسحاق ورواه مسلم عن الحلواني وغيره عن يعقوب(5).

 

وكذلك ورد في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قال: خروج عيسى ابن مريم صلوات الله عليه" -قال- هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه(6).

 

فمفاد هذين الخبرين أنَّ الضمير في قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يرجع إلى المسيح عيسى (ع) فيكون مفاد الآية أنَّ عيسى المسيح (ع) ينزل في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا وسيؤمن به فقوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يعني قبل موت المسيح بعد نزوله في آخر الزمان لينضمَّ إلى ركب الإمام المهدي(ع) فيكسر الصليب كناية عن إعلانه لبطلان العقيدة المسيحيَّة، ويقتل الخنزير كناية عن فساد أو نسخ الشريعة التي يعتمدها المسيحيُّون والتي منها الإباحة للحم الخنزير، ويضعُ الجزية كناية عن أنَّ أهل الكتاب سوف يدخلون في دين الإسلام، فلا يكون ثمة موجبٌ لفرض الجزية عليهم.

 

ويبقى الإشكال على تعيُّن الاحتمال الأول وهو عود الضمير في قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ على المسيح أنَّ لازمه تخصيص العموم المستفاد من صدر الآية بمعنى أنَّ لازمه هو أنَّ الذي سيؤمن بالمسيح هم خصوص من سيشاهدونه بعد نزوله في آخر الزمان والحال أن ظاهر قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ هو أن عموم أهل الكتاب من اليهود من النصارى سيؤمن به فيشمل ذلك عامة اليهود والنصارى منذ عهد المسيح إلى يوم القيامة.

 

إلا أنَّ هذا الإشكال يُمكن دفعه بأنَّ قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يحدد من دائرة العموم، فالآية وإن كانت مفيدة للعموم لكن دائرة العموم هم عامة أهل الكتاب الموجودين قبل موت المسيح (ع) أي بعد نزوله وقبل موته ولا أقل من أنَّ قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يمنع من استظهار إرادة عامَّة أهل الكتاب منذ عهد المسيح فتكون الآية مجملة وبه يتعين اعتماد ما أفادته الأخبار لو صحت.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

28 ربيع الأول 1445ه

14 أكتوبر 2023م

------------------------------

1-سورة النساء / 159

2- سورة مريم: 71

3- سورة النساء: 157، 158.

4- تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي-ج1/ 158

5- السنن الكبرى -البيهقي- ج9/ 180.

6-المستدرك على الصحيحين- الحاكم النيسابوري- ج2/ 309.