هل الحسين (ع) في الخطاب الشيعي رجلُ حربٍ وعنف؟!

 

الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي إِلَيْه مَصَائِرُ الْخَلْقِ، وعَوَاقِبُ الأَمْرِ نَحْمَدُه عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِه، ونَسْتَعِينُ بِه اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِه، مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِه،وَاثِقٍ بِدَفْعِه، ونُؤْمِنُ بِه إِيمَانَ مَنْ رَجَاه مُوقِناً، وأَنَابَ إِلَيْه مُؤْمِناً وخَنَعَ لَه مُذْعِناً، وأَخْلَصَ لَه مُوَحِّداً، وعَظَّمَه مُمَجِّداً، ولَاذَ بِه رَاغِباً مُجْتَهِداً، ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُه، وأَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

أُوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى الله ولزومِ طاعتِه وتقديمِ العملِ وتركِ الأملِ،فإنَّه مَن فرَّط في عملِه لم ينتفعْ بشيءٍ من املِه، أين التعِبُ بالليلِ والنهارِ المُقتحِمُ للججِ البحارِ، ومفاوزِ القفارِ، يسيرُ من وراءِ الجبالِ وعالجِ الرمالِ، يصلُ الغدوَّ بالرَواح، والمساءَ بالصباح في طلب مُحقِّراتِ الأرباح، هجمت عليه منيتُه فعظُمتْ بنفسه رزيتُه، فصار ما جمعَ بوْرا، وما اكتسب غرورا، ووافى القيمةِ محسورا.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ ورَسُولِكَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وإِمَامِ الْمُتَّقِينَ ورَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ وصَلِّ عَلَى عليٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ووَصِيِّ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وصلِّ على السيدةِ الطاهرةِ المعصومةفاطمةَ سيدةِ نساءِ العالمين، وصلِّ أئمةِ المسلمين الحسنِ بنِ عليٍّ المجتبى، والحسينِ بن عليٍّ الشهيد، وعليِّ بنِ الحسينِ زينِ العابدين، ومحمدِ بنِ عليٍّ الباقر، وجعفرِ بنِ محمدٍ الصادق، وموسى بن جعفرٍ الكاظم، وعليِّ بن موسى الرضا، ومحمدِ بن عليٍّ الجواد، وعليِّ بن محمدٍ الهادي، والحسن بن عليٍّ العسكري، والخلفِ الحجَّةِ بن الحسن المهدي صلواتُك وسلامُك عليهم أجمعين.

اللهمَّ صلِّ على وليِّ أمرِك القائمِ المهدي، اللهم افْتَحْ لَه فَتْحاً يَسِيراً وانْصُرْه نَصْراً عَزِيزاً، اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِه دِينَكَ وسُنَّةَ نَبِيِّكَ حَتَّى لَا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ.

أما بعد أيُّها المؤمنون:

فالحديثُ حولَ الخطابِ الذي يعتمدُه أتباعُ أهلِ البيتِ (ع) في تقديمِ شخصيةِ الإمام الحسين (ع) حيثُ زعَم البعضُ انَّ الخطابَ الذي يعتمدُه أتباعُ أهلِ البيت أظهرَ الحسينَ (ع) في صورةِ رجلِ حربٍ وعنف.

والجوابُ عن هذه الدعوى انَّ الحسين الشهيدَ (ع) ليس كذلك قطعاً وخطابُنا لا يُنتج ذلك أيضاً، واجمالاً نقول -ولنا تفصيلٌ لا مجال لعرضِه- إنَّه لو استقرأنا بشيء من الإنصافٍ الخطابَ الذي يعتمدُه أتباعُ أهل البيت فيما يتَّصل بعرضِه لشخصيَّةِ الإمامِ الحسين (ع) لوجدناه يتمحورُ في محاورَ ستة:

أما المحور الأوَّل: فنحن نقول: إنَّ شخصيَّةَ الإمامِ الحسين (ع) شخصيَّةٌ إلهيَّة تتحلَّى بكلِّ سجيَّةٍ تحلَّى بها الأنبياءُ والأولياء، وتختزنُ كلَّ ملكةٍ كان عليها نجباءُ اللهِ وأصفياؤُه، قد منحتْها العنايةُ الإلهيَّةُ العصمةَ والطهارةَ فكانت مبرأةً مِن كلِّ نقصٍ وعيب، لذلك فهي في فلك الحقِّ تدورُ معه حيثُ ما دار لا تشطُّ عنه في فكرٍ أو شعورٍ أو قولٍ أو سلوك.

والمحور الثاني: إنَّ شخصيَّتهَ امتدادٌ للنبيِّ الكريم (ص) فهي شخصيةٌ قد أهَّلتها الإرادةُ الإلهيَّة للريادةِ والقيادة ومنحتْها منصبَ الإمامة، فليس لأحدٍ مِن أفرادِ الأمَّة أنْ يعصيَ لها أمراً أو يسلكَ غيرَ الطريقِ الذي رسمته، فسياسةُ شئونِ هذه الأمَّةِ كانت حقّاً لهذه الشخصيَّة، وتدبيرُ أمورِها كان بعهدةِ هذه الشخصيَّة، مِن هنا كان التجاوزُ لهذا الحقِّ من المكابرةِ لإرادة الله في خلقِه.

المحور الثالث: إنَّ الإمامَ الحسينَ (ع) كان مِن الدعاةِ إلى الله، وكان حريصاً على أنْ يُعبدَ اللهَ في أرضه وأنْ يكون الدينُ كلُّه لله، فكان واعظاً ومرشداً ومعلِّماً لأحكامِ الله ومفسِّراً لكتابِ الله وسنَّةِ رسوله (ص) وكان يحضُّ على الخير ويحفِّزُ الناسَ على التحلِّي بمكارمِ الأخلاق.

المحور الرابع: كان الإمامُ الحسينُ (ع) ثائراً ومناضلاً ومصلحاً، كان ثائراً على كلِّ مظاهرِ الظلمِ والاستبدادِ والإستئثارِ، فكان يأبى على بني أميَّةَ تعسَّفَهم وسفكَهم للدماءِ المحرَّمة، واستئثارَهم بمقدَّرات الأمَّة، واستبدادَهم بإدارةِ شئونِها على غيرِ أهليَّة، وتمكينَ صبيانِهم وفسَّاقِهم مِن رقابِ المسلمين، فكان يُنكرُ عليهم قتلَهم للأخيارِ والأبرياءِ والتمثيلَ بأجسادِهم وصلبَهم على جذوعِ النخلِ وسملَ عيونِهم وبترَ أطرافِهم، كما كان يُنكر عليهم حرمانَهم للفقراءِ والمعوزينَ مِن حقوقِهم وعطائِهم. فكان رحيماً رؤوفاً بالمستضعفينَ والمحرومين.

وكان الحسينُ مصلحاً يهدفُ مِن نهضتِه والمواقفِ التي سبقتْ نهضتَه إصلاحَ ما انحرفَ مِن مسارِ الأمَّة عن الخطِّ الذي رسمَه رسولُ الله (ص)، فكان يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ، ويسعى لأنْ يسودَ بين عباد الله العدلُ والقسطُ، ويُنكرُ على بني أميَّةَ سياسةَ التضليلِ والتجهيلِ وإشاعةِ الرذيلةِ وإثارةِ الفتن.

المحور الخامس: كان الإمامُ الحسينُ (ع) أبيّاً كريماً عزيزاً تسامت نفسُه عن الخنوعِ والخضوعِ لجبروتِ بني أميَّةَ وطغيانِها، فلم يكنْ يرضى لنفسِه الذلَّ والهوان، وكان شجاعاً مِقداماً صلباً في عزمِه شديداً في ذاتِ الله، لم تُرهبْه سطواتُ الجبابرة، ولم تُثنه عن موقفِه عدَّتُها وعتادُها، وقد تجلَّى ذلك منه يومَ كربلاء، فقد ظهرَ من شجاعتِه وعظيمِ صبرِه وشديدِ ثباته ما أبهر العقولَ وعزَّ معه المثيل، فإنَّ الشجاعةَ المنقطعةَ النظير التي تجلَّت في موقفِه وكذلك في مواقفِ الشهداء من أصحابِه عبَّر عنها ثباتُهم أمامَ العددِ الهائل الذي عبأه النظامُ الأموي لحربِهم، فمثلُ هذا العددِ المُجهَّزِ بمختلفِ العتادِ المُتاحِ آنذاك من شأنِه أنْ يُحدِثَ إنهياراً نفسيَّاً في معسكرِ الحسين (ع) يترتَّبُ عنه العجزُ عن التماسكِ والثباتِ فضلاً عن المواجهة إلا انَّ ما وقعَ أذهلَ العقول، فقد أبدى معسكرُ الحسينِ (ع) استبسالاً وتنمُّراً في ذاتِ الله تعالى لم يكن لهشبيهٌ في تاريخِ الجهاد، إذ لم يتَّفقْ أنْ يُقارعَ عددٌ يسيرٌ لا يتجاوزُ المائةَ جيشاً جرَّاراً منظَّماً ومجهَّزاً بمختلفِ صنوفِ الأسلحةِ المُتاحةِ آنذاك، وقد قارعوه بعد حصارٍ خانقٍ وحيلولةٍ دونَ الماء امتدَّت لثلاثةِ أيامٍ في هجير الصحراء، فرغمَ ذلك لم يستسلمْ منهم أحد، وما حدَّث أحدٌ منهم نفسَه بفرار، وقد كانوا يُبادرونَ للمبارزةِ والمطاردةِ دون تلكأٍ ولا نكول حتى أحدثوا في المعسكرِ الأموي الكثيرَ من الجراحات والقتلى، وذلك يُعبِّر عمَّا انطوتْ عليه قلوبُهم من شجاعةٍ ينوءُ دونَ تصلُّبِها زبرُ الحديد.

وقد تألقَ بينهم سيدُ الشهداء، وذلك لبقائِه بعد مقتلِ جميع أنصاره وحدَه يحوطُه الآلافُ من فرسانِ المعسكرِ الأموي من كلِّ ناحية، فما أدهشَ لبَّه تكالبُهم عليه،وما فتَّ من عضدِه تحلُّقهم حولَه، وما ظهرَ على محيَّاه وهنٌ، وما انتابه هاجسٌ من خوف بل ظلَّ مستبسلاً محتفظاً برباطةِ جأشه وثباتِه على موقفِه، يُقارعهم (روحي فداه) بسيفِه غيرَ عابئٍ بكثرتِهم وتكاثرِهم عليه، فما يصمدُ له مبارز ولا يثبتُ فارسٌ في مركزِه حين يجدُ أنَّ الحسينَ قد قصدَه، فكان لعظيمِ هيبته وشديدِ بأسِه يتحاماه الفرسان فإنْ أدرك منهم أحداً بعَجَهُ بسيفه أو تركه يتعثَّرُ بمَن خلفَه وقد انخلع قلبُه قبلَ أنْ تنخلعَ مفاصلُه من وطأ حوافر الخيول وأحذيةِ الرجال، وقد وصفَ بعضُ مَن عايَنَ من الأعداءِ هذا المشهدَ الرهيب بقوله: "فوالله ما رأيتُ مكثوراً قط قد قُتل وُلدُه وأهلُ بيتِه وأصحابه أربطَ جأشاً ولا أمضى جَناناً ولا أجرأَ مَقدماً من الحسين، والله ما رأيتُ قبلَه ولا بعدَه مثلَه، إنْ كانت الرجالُ لتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفِه، فتنكشفُ عنه انكشافَ المِعزى إذا شدَّ فيها الذئب".

فما وجدوا وسيلةً لقتلِه إلا رشْقَه عن بُعْدٍ بوابلِ سهامِهم ورضْخَه بالحجارة حتى أثخنوا جسدَه الشريفَ بالجُراح، فحين أعياهُ نزفُ الدمِ وعميقُ الجُراحات صار يُكثرُ من قولِ: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، وأخذَ يَخضبُ شيبتَه بما يفيضُ من دمِه وهو يقولُ: "هكذا ألقى اللهَ مخضَّباً بدمي" فما أعطاهم الدنيَّة من نفسِه، وما نالَ أعداؤه من عزَّته ورسوخِ إرادته قلامةَ ظفْر، وإنَّ شموخَه الذي ظلَّ مستمسكاً به لتصغرُ دونَ مطاولتِه الجبالُ الراسيات، فهل لقلبٍ انطوى عليه صدرُ الحسينِ من نظير؟!

المحور السادس: كان الإمامُ الحسين (ع) مظلوماً مضطَّهداً قد مارس معه بنو أميَّةَ كلَّ ألوانِ الظلمِ والقسوةِ والتعسُّفِ، فقد قتلوه أبشعَ قتلةٍ عرفَها التاريخ بعد أنْ حرموه مِن الماء، فكان ظامئاً يتلظَّى عطشاً ويتضورُ جوعاً، وبعد أنْ قتلوه مثَّلوا بجسدِه الشريفِ وأوطأوا الخيل صدرَه وظهرَه، فكسَّروا أضلاعه وهشَّموا عظامه، ثمَّ طافوا برأسه حواضرَ الإسلام، وسَبَوْا نساءَه وبناتِه وأخواتِه بعد أنْ قتلوا بمرأىً مِنه أولادَه وأطفالَه وإخوتَه، وأشعلوا النارَ في مخيَّمه، وسلبوا أموالَه ومتاعه.

فكان الحسينُ (ع) شهيداً، وكان الحسينُ (ع) غريباً، وكان مظلوماً مضطَّهداً، وكان مكروباً حزيناً، فهو عبرةُ المؤمنين وسلوةُ المعذَّبين، والوهجُ الذي يشعُّ في قلوبِ المناضلين، والسراجُ الذي يستضيءُ به الباحثون عن الحرِّيَّةِ والكرامة، والمنهجُ الذي يسلكُه المصلحونَ الطامحون في العدالةِ والقِسط، وهو بعد ذلك صراطُ اللهِ في أرضِه، وحُجَّتُه على عبادِه، ومصباحُ الهدى والعروةُ الوثقى وسفينةُ النجاة.

هكذا يَعرِضُ الخطابُ الذي يعتمدُه أتباعُ أهلِ البيت (ع) شخصيَّةَ الإمامِ الحسينِ بن عليّ (ع)، فهو كذلك في البحوثِ الكلاميَّة، كما هو كذلك في النصوصِ الواردةِ عن الرسولِ (ص) وأهلِ بيته (ص)، وهو كذلك في أدبيَّاتِ أتباعِه في الشعرِ والنثرِ والرثاءِ والمدحِ والقصَّةِ والمسرح، وهو كذلك في محافلِ العزاءِ والندبِ وفي مواكبِ اللطمِ والنشيد.

فليس الحسينُ (ع) في ثقافتِنا ولا في خطابتِنا رجلَ حربٍ أو عُنف، بل كان ضحيَّةَ العنفِ والارهابِ والقسوةِ التي كان يتَّسمُ بها أعداؤه ومناوئوه، نعم كان الحسينُ (ع) شديداً في ذاتِ الله، شديداً على أعداء الله الذين كانوا يُمعنونَ في بخسِ الناسِ حقوقَهم، ويستلذُّون بسماع أنَّاتِهم وآهاتِهم، ولا يرَوْن لدمائهم حرمة ولا لمقدَّساتهم أيَّ تقدير، كذلك كان الحسينُ (ع).

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ الطيبينَ الطاهرينَ الأبرارِ الأخيار، اللهم اغفر ذنوبَنا واستُر عيوبَنا واكشِف ما نزل بنا وارحم موتانا وشهداءَنا وفكَّ أسرانا وأرجع مسافرينا واشفِ مرضانا وجرحانا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياءٍ منهم والأموات تابعِ اللهمَّ بيننا وبينهم بالخيرات إنَّك مولانا مجيبُ الدعوات وغافرُ الخطيئات ووليُّ الباقياتِ الصالحات إنَّك على كلِّ شيء قديرٌ شهيد.

﴿إِنَّ اللَّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

خطبة الجمعة - الخطبة الثانية - الشيخ محمد صنقور

9 من محرّم الحرام 1437هـ - الموافق 23 أكتوبر 2015م

جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدراز