حكم أكل الطين والتراب

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو حكم أكل الطين؟ ومع البناء على حرمته هل يحرم تناول الأطعمة التي علق بها شيءٌ من الطين؟

الجواب:

الظاهر أنَّه لم يقع خلاف بين الفقهاء في حرمة أكل الطين وقد استفاض نقل الإجماع على حرمته كما أفاد صاحب الجواهر(1) وكذلك المحقق النراقي في المستند بل أفاد أنَّ الإجماع على حرمته محقق(2)

مدرك الحكم بحرمة أكل الطين:

وقد استدلَّ على حرمة أكل الطين بروايات مستفيضة عن أهل البيت (ع)

منها: رواية سَعْدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنِ الطِّينِ فَقَالَ: أَكْلُ الطِّينِ حَرَامٌ مِثْلُ الْمَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الْخِنْزِيرِ .."(3).

فهذه الرواية صريحة في حرمة أكل الطين، وكذلك هي ظاهرة في أنَّ موضوع الحرمة هو مطلق أنواع الطين، وظاهرة في أنَّ متعلَّق الحرمة هو مطلق الأكل للطين وإن كان يسيراً، فكما يحرم أكل الكثير منه كذلك يحرم بمقتضى الإطلاق أكل اليسير منه، فالرواية تامَّة من حيث الدلالة إلا أنَّ الإشكال في سندها لاشتماله على الإرسال وكذلك فإنَّه مشتمل على جعفر بن إبراهيم الحضرمي وهو مجهول.

نعم أورد ذات الرواية الشيخ جعفر بن قولوية في كامل الزيارات من طريق آخر إلى سعد بن سعد قال: حدثني محمد بن الحسن عن محمد بن الحسن الصفار عن عباد بن سليمان عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الطين، قال: فقال: اكل الطين حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير .."(4) والظاهر أنَّ هذا الطريق معتبر، فليس فيه إشكال إلا من جهة عبَّاد بن سليمان وهو من المعاريف ظاهر فهو ثقة لعدم ورود قدح فيه.

ومنها: مرسلة أَبِي يَحْيَى الْوَاسِطِيِّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "الطِّينُ حَرَامٌ كُلُّه كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، ومَنْ أَكَلَه ثُمَّ مَاتَ فِيه لَمْ أُصَلِّ عَلَيْه .."(5) وهذه الرواية صريحة أيضاً في الحرمة لولا أنَّها مرسلة.

ومنها: موثقة طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (ع) قال: "أكل الطين يُورث النفاق"(6).

وهذه الرواية وإنْ كانت تامَّةً من حيث السند لكنَّ دلالتها على الحرمة ليست ظاهرة، إذ لا ملازمة بين كون الفعل يُورث النفاق وبين كون ذلك الفعل محرماً، فقد ينشأ النفاق عن المداومة على فعل المكروه والمرجوح، وهكذا هو الشأن في العديد من الكبائر فقد تنشأ عن مقدِّمات مكروهة ومرجوحة، ويُمكن تأييد ذلك بالحديث النبوي (ص): "حب الجاه والمال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"(7) فإنَّ حبَّ الجاه والمال ليس محرَّماً على إطلاقه لكنَّه على أيِّ حال مِن مقتضيات الوقوع في النفاق.

وببيانٍ آخر: إنَّ الظاهر من قوله: "يورث النفاق" هو أنَّه من مقتضيات الوقوع في النفاق، وأنَّه ليس علةً تامَّة للوقوع في النفاق، ولهذا لا يصلح أن يكون دليلاً على حرمة أكل الطين، نعم لو كان معنى قوله: "يورث النفاق" هو أنَّه علة تامة ومقدمة توليدية للوقوع في النفاق لكانت الرواية دالة على حرمة أكل الطين لأنَّ الفعل الموجب حتماً للوقوع في الحرام حرام، لكنَّ التعبير بقوله "يورث" لا يدلُّ على أكثر من أنَّ أكل الطين من مقتضيات الوقوع في النفاق. وعليه فغاية ما يُستفاد من الرواية هو التحذير من أكل الطين لأنَّه من مقتضيات الوقوع في النفاق ولكنَّها لا تدلُّ أنَّ أكل الطين محرم، إذ لعل التحذير منه نشأ عن كونه مكروهاً.

ومنها: معتبرة السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): مَنْ أَكَلَ الطِّينَ فَمَاتَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى نَفْسِه"(8)

وهذه الرواية لا تدلُّ أيضاً على حرمة أكل الطين وإنَّما تدلُّ على التحذير من تناوله وأنَّه قد يفضي في المآل للموت والهلاك، فمفاد الرواية هو أنَّ أكل الطين مضرٌّ ببدن الإنسان وأنَّ فاعله أحمق لأنَّه يسعى في هلاك نفسه، فمساق الرواية هو مساق ما ورد عن الإمام الصادق (ع): "من ظهرت صحتُه على سقمه فشرب الدواء فقد أعان على نفسه"(9) فإنَّ المستظهَر من هذه الرواية أنَّ شرب الدواء للصحيح يضرُّ بصحته فهي رواية إرشاديَّة.

ثم إنَّه لو تمَّ القبول بدلالة الرواية على حرمة أكل الطين فإنَّ أقصى ما تدلُّ عليه هو حرمة الإكثار من أكله، إذ أنَّ ذلك هو ما يضرُّ بالبدن ضرراً بيِّناً، وأمَّا تناول الشيء اليسير منه في أوقات متفاوتة فإنَّه لا يُوجب الوقوع في الضرر الذي قد يُفضي للهلاك بل قد لا يترتَّب عليه ضررٌ أصلاً، فالروايةُ بناءً على دلالتها على الحرمة لا تدلُّ على أكثر من حرمة التناول للمقدار الموجب للوقوع في الضرر المفضي في العادة للهلاك.

وكذلك هو مدلول رواية طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) إِنَّ عَلِيّاً (ع) قَالَ: "مَنِ انْهَمَكَ فِي أَكْلِ الطِّينِ فَقَدْ شَرِكَ فِي دَمِ نَفْسِه"(10).

ومنها: موثقة هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ آدَمَ مِنَ الطِّينِ فَحَرَّمَ أَكْلَ الطِّينِ عَلَى ذُرِّيَّتِه"(11) وهذه الرواية صالحةٌ سنداً ودلالة لإثبات حرمة أكل الطين، وهي ظاهرة في الإطلاق المقتضي لحرمة أكل اليسير منه.

وثمة روايات أخرى يُستدلُّ بها على حرمة أكل الطين إلا أنَّ ما ذكرناه هو الأهم منها وهي مشتملة على ما هو ظاهر أو صريح في الحرمة وما هو معتبر سنداً، وذلك كافٍ للبناء على الحرمة، على أنَّ الروايات الظاهرة في الحرمة مستفيضة فهي وإن كان كثيرٌ منها غيرَ نقيَّة السند إلا أنَّ استفاضتها يُوجب الوثوق بصدورها في الجملة.

الحكم بحرمة أكل الطين هل يشمل التراب:

ثم إنَّ الكلام يقع في أنَّ الحكم بحرمة الطين هل يشمل التراب والرمل والأحجار أو هو مختصٌّ بالطين والذي هو التراب الممزوج بالماء؟

الوجه الأول ومناقشته:

نُسب إلى الشهيد الثاني في المسالك القول بأنَّ "المراد بها ما يشمل التراب والمدر" ونُسب إلى المقدس الأردبيلي دعوى أنَّ "المشهور بين المتفقهة تحريم التراب والأرض كلها حتى الرمل والأحجار"(12).

والظاهر أنَّ البناء على حرمة التراب والرمل والأحجار لم ينشأ عن دعوى صدق عنوان الطين عليها لوضوح أنَّ معنى الطين لغة وعرفاً لا يصدق على مثل التراب والرمل والأحجار، فالبناء على الحرمة نشأ عن الاعتقاد بأنَّ التراب والرمل والأحجار كالطين من جهة ما يترتَّب على تناوله من الضرر، وحيث إنَّ ملاك الحكم بحرمة الطين هو الضرر المترتِّب على تناوله لذلك يتعيَّن البناء على حرمة مثل التراب لوحدة الملاك وعلَّة التحريم.

إلا أنَّ هذا الوجه لا يتم فإنَّ من غير المُحرز أنَّ ملاك حرمة الطين وعلَّته التامَّة هو الضرر وإلا لكانت الحرمة للطين تدور مدار الضرر وجوداً وعدماً، وهذا ما لا يمكن الالتزام به، إذ لا إشكال في حرمة تناول اليسير من الطين رغم عدم ترتُّب الضرر جزماً على تناوله.

الوجه الثاني ومناقشته:

وثمة وجهٌ آخر أفاده بعض الأعلام وحاصله أنَّ الطين مكوَّنٌ من التراب والماء وحيث لا نحتمل أنَّ منشأ التحريم للطين هو اشتماله على الماء فالمتعيِّن أنَّ منشأ التحريم هو اشتماله على التراب وبذلك يثبت أنَّ موضوع الحرمة واقعاً هو التراب.

إلا أنَّ هذا الوجه لا يتمُّ أيضاً فإنَّه وإن كان من غير المحتمل أنَّ الماء هو موضوع الحرمة لكنَّ ذلك لا يوجب الجزم بأن موضوع الحرمة محضاً هو التراب فلعلَّ الامتزاج دخيل في جعل الحرمة للطين أي لعلَّ الطين بعنوان كونه طيناً هو تمام الموضوع لجعل الحرمة، فكما أن الماء ليس هو موضوع الحرمة كذلك من المحتمل أنَّ التراب ليس هو تمام موضوع الحرمة، فالبناء على حرمة التراب استناداً إلى استبعاد كون الماء هو موضوع الحرمة أشبه بالعلة المستنبطة بقياس السبر والتقسيم الظنِّي كما أفاد صاحب الجواهر(13).

تماميَّة الوجه الثالث:

وهنا وجهٌ ثالث قد يصلح لإثبات دعوى حرمة التراب وشبهه وهو أنَّ عنوان الطين وإنْ لم يصدق على التراب لغة إلا أنَّ العرف يُلغي خصوصيَّة عنوان الطين، فهو يرى أنَّ الطين ترابٌ وأنَّ الامتزاج إنَّما هو حالة من حالات التراب وطورٌ من أطواره، فالتراب قد يكون خشناً وقد يكون ناعماً، وقد يكون ندياً وقد يكون جافاً كذلك يكون طيناً، فالطين في جوهره وحقيقته تراب ولهذا فالحكم بتحريمه ظاهرٌ عرفاً في الحكم بتحريم التراب.

ولعلَّه لذلك لا يجد العرف تنافياً بل لا يجدُ فرقاً بين قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾(14) وبين قوله تعالى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾(15).

وخلاصة القول: إنَّ الظاهر هو أنَّ أدلَّة حرمة الطين تصلح لإثبات حرمة التراب، نعم لا يحرم -ظاهراً- تناول الأطعمة التي يعلقُ بها الغبار أو الأتربة الخفيفة كالفاكهة التي عادةً ما تعلق بها بعض الأتربة، وكذلك الحنطة والشعير أو غيرهما من الحبوب التي قد يمتزج بها شيء من التراب، وذلك لقيام السيرة القطعيَّة على عدم التوقِّي عن مثل هذا المقدار.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

14 / ربيع الثاني / 1445ه

30 / أكتوبر / 2023م

--------------------------

1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص355.

2- مستند الشيعة -النراقي - ج15 / ص159.

3- الكافي -الكليني- ج6 / ص266.

4- كامل الزيارات -جعفر بن قولويه- ص478.

5- الكافي -الكليني-ج6 / ص265.

6- الكافي -الكليني- ج6 / ص265.

7- منية المريد -الشهيد الثاني- ص145.

8- الكافي -الكليني- ج6 / ص265.

9- طب الأئمة (ع) -ابنا بسطام- ص61.

10- الكافي -الكليني- ج6 / ص265.

11- الكافي -الكليني- ج6 / ص265.

12- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص355.

13- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج36 / ص356.

14- سورة الأنعام / 2

15- سورة الحج / 5.