﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ لماذا لم يقل الظالمون؟ 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

سماحة الشيخ الجليل

لماذا قال تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فجعل العهد فاعلاً والظالمين مفعولاً به مع أنَّ الذي ينال هو الفاعل، فيكون الظالمون فاعلا؟ هل يوجد وجه بلاغي أو غير ذلك لجعل العهد فاعلا والظالمين مفعولاً به؟

الجواب:

الفعل "نال" من الأفعال التي يكون إسنادها إلى الفاعل كإسنادها في المعنى للمفعول به فالشيء الذي نلتَه فقد نالك فلك أن تجعل الشيء فاعلاً للفعل "نال" ولك أنْ تجعل الشيء مفعولاً للفعل "نال" فتقول: نالني شيءٌ ونلتُ شيئاً كما يقال: نالني خيرٌ ونِلتُ خيراً، ونال زيد إعياءً وناله إعياءٌ، فالخيرُ الذي نلتَه فإنَّه نالك. فالفعل "نال" من الأفعال المتضايفة التي يكون إسنادُها للفاعل مساوقاً لإسنادها للمفعول في أداء المعنى.

ومثله الفعل "أصاب" فإنَّه يصح يُقال: أصابني خيرٌ وأصبتُ خيراً، فسواءً جعلتَ الخير فاعلاً لأصاب أو جعلته مفعولاً فإنَّ المعنى واحد، وهكذا هو الفعل "لقيَ" فإنَّه يصحُّ أن يُقال: لقيتُ زيداً، ولقيني زيدُ، فزيدٌ الذي لقيتَه فإنَّه لقيَك، فالمعنى في كلا الإسنادين واحد، أو متقارب.

وعليه فلا فرق بين جعل العهد في الآية فاعلاً للفعل "ينال" وجعل الظالمين مفعولاً وبين جعل الظالمين فاعلاً والعهد مفعولاً به، ولذلك قرأ بعضُهم الآية: "لا ينال عهدي الظالمون"، فاعتبر العهد مفعولاً به والظالمين فاعلاً. وكلا الصياغتين يودِّي معنىً واحداً لأنَّ مَن نال العهد فقد ناله العهد، ومن نال حزناً فقد ناله الحُزن، ومن نال شرفاً فقد ناله شرفٌ وهكذا.

نعم الأنسب أنْ يجعل العهد في الآية فاعلاً والظالمين مفعولاً به، وذلك لأنَّ العهد بمعنى الإمامة، ولا يسع من أحد تحصيل الإمامة بنفسِه وإنَّما هي هبة تُسدى إليه فجعل الظالمين في الآية مفعولاً به للتعبير عن أنَّ الإمامة عطية ممنوحة، ولذلك يكون الأنسب القول: ينال عهدي الصالحين ولا ينال عهدي الظالمين.

هذا مضافاً إلى أنَّ جعل الظالمين في الآية في موقع المفعول به هو المناسب لمساق الآية: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(1) فبعد أن جعل اللهُ تعالى الإمامة لإبراهيم (ع) سألَ إبراهيمُ ربَّه أنْ يجعل الإمامة تَنالُ ذريته فجاء الجواب: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ أي أنَّ الإمامة لا تَنالُ الظالمين من ذريتِه.

وجهٌ آخر لاعتبار الظالمين مفعولاً في الآية:

وثمة جواب آخر وهو أنَّه يُحتمل أنْ يكون منشأ اعتبار الظالمين في الآية مفعولاً به هو أنَّ الفعل "ينال" قد ضُمِّن معنى يبلغ، والتضمين كما أفاد اللغويون يعني استعمال لفظ في موضع لفظ آخر فيأخذ اللفظ المستعمَل حكم اللفظ الذي استُعمل في موضعه وبحسب تعبير ابن هشام في مغني اللبيب: "قد يُشرِبون لفظاً معنى لفظ فيُعطونه حكمه، ويسمى ذلك تضميناً"(2) ويمكن التمثيل له -كما ذكروا- بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}(3) فإنَّ الفعل " خلا" يتعدَّى لمفعوله بالباء فيقال خلا به ولكن "خلا" في الآية قد تعدَّى لمفعوله ب "إلى" ومنشأ ذلك هو أنَّ الفعل خلا قد أشرب وضمِّن معنى الفعل "سكن" و"اطمئن" لذلك تعدَّى ب إلى فمعنى الآية أنَّه إذا سكن بعضهم إلى بعض واطمئن بعضهم إلى بعض.

ومن أمثلة التضمين قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾(4) فإنَّ الفعل "يخالفون" يتعدَّى لمفعوله بنفسه ويتعدى كذلك ب "إلى" ولكنه تعدَّى في الآية ب "عن" وذلك لأنَّ الفعل يُخالفون قد ضُمِّن معنى يصدُّون ويُعرضون لذلك تعدَّى بكلمة "عن" فمعنى يُخالفون عن أمره هو أنَّهم يصدُّون عن أمره أو يُعرِضون عن أمره.

كذلك الشأن في قوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فإنَّ الفعل ينال قد ضُمِّن معنى يبلغ فمعنى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ هو أنَّه لا يبلغ عهدي الظالمين تماماً كما يقال: لا يبلغ بصري السماءَ، ولا يبلغ صوتي مسامعَ زيدٍ، ولا تبلغُ يدي السقف. فمفاد الآية لا يبلغ عهدُ الله الظالمين ولا يصلهم.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

30 / ربيع الثاني / 1445ه

15 / نوفمبر / 2023م


1- سورة البقرة / 124.

2- مغني اللبيب -ابن هشام الأنصاري- ج2 / ص657.

3- سورة البقرة / 76.

4- سورة النور / 63.