تبعيَّةُ لبن الحيوان للحمِه في الحرمة والكراهة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل يجوز شرب لبن ما لا يُؤكل لحمُه من الحيوانات كالسِّباع؟

الجواب:

المشهور بين الفقهاء رضوان الله عليهم(1) شهرةً عظيمة (2) هو تبعيَّة لبن الحيوان للحمه، فالحيوان المحرَّم اللَّحم يكون لبنُه محرَّماً والحيوانُ المكروه اللَّحم يكون لبنُه محكوماً بالكراهة، والحيوان المأكول اللحم يكون لبنُه مباحاً.

مستند الحكم بحرمة لبن الحيوان المحرَّم اللحم:

أمَّا الحكم بحرمة لبن الحيوان المحرَّم اللَّحم فاستُدلَّ له بعدةِ وجوه:

الوجه الأول: رواية دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنِ الشَّاةِ والْبَقَرَةِ رُبَّمَا دَرَّتِ اللَّبَنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْرِبَهَا الْفَحْلُ والدَّجَاجَةُ رُبَّمَا بَاضَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْكَبَهَا الدِّيكُ؟ قَالَ: فَقَالَ (ع): كُلُّ هَذَا حَلَالٌ طَيِّبٌ لَكَ، كُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ لَحْمُه فَجَمِيعُ مَا كَانَ مِنْه مِنْ لَبَنٍ أَوْ بَيْضٍ أَوْ إِنْفَحَةٍ فَكُلُّ هَذَا حَلَالٌ طَيِّبٌ، ورُبَّمَا يَكُونُ هَذَا قَدْ ضَرَبَه الْفَحْلُ ويُبْطِئُ وكُلُّ هَذَا حَلَالٌ"(3).

وتقريبُ الاستدلال بالرواية هو أنَّ قوله (ع): "كُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ لَحْمُه فَجَمِيعُ مَا كَانَ مِنْه مِنْ لَبَنٍ .. حَلَالٌ طَيِّبٌ" يدلُّ بمنطوقِه على حليَّة لبن ما يُؤكل لحمه، ويدلُّ بمفهومِه على حرمة لبنِ ما لا يُؤكل لحمُه، نعم الرواية ضعيفة السند بالإرسال إلا أنَّ ذلك لا يضرُّ بحجيَّتها لانجبار ضعفها بعمل المشهور.

والجواب عن هذا الوجه أنَّ قوله: "كُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ لَحْمُه .." جملة وصفيَّة لذلك فهي غير ظاهرة في المفهوم، وأمَّا دعوى انجبار ضعفها بعمل المشهور فيرد عليه أنَّ عمل المشهور لا يجبر ضعف الدلالة، ولو بُني على تمامية الدلالة فإنَّ ضعف سند الرواية لا تجبرُه فتوى المشهور بحرمة لبن ما لا يُؤكل لحمُه وذلك لعدم إحراز استنادِهم للرواية في البناء على الحرمة، فلعلَّ مستندهم أحدُ الوجوه الأخرى الآتية.

الوجه الثاني: دعوى الإجماع على حرمة لبن ما لا يُؤكل لحمُه كما هو المنسوب لصاحب الغنية، وأفاد صاحب الجواهر (رحمه الله) أنَّه لم يجد خلافاً في ذلك(4).

وأُجيب عن هذا الوجه بأنَّ الإجماع لو تمَّ فهو غير تعبُّديٍّ لاحتمال أنَّ مستند بعض المُجمعين هو الرواية المذكورة، ومستند بعضٍ آخر أحدُ الوجوه الأخرى، وعليه فهو إجماع محتمِلٌ للمدركيَّة لذلك فهو فاقدٌ للحجيَّة.

الوجه الثالث: ما أفاده صاحب الرياض من أنّ اللَّبن قبل استحالته إلى صورته كان محرّماً قطعاً، لكونه جزءً يقيناً(5) فمع الشك في الحرمة بعد صيرورته لبناً تُستصحب الحرمة الثابتة له يقيناً قبل الاستحالة.

وأُجيب عن هذا الوجه بأنَّ الشبهة في المقام من الشبهات الحكميَّة الكليَّة، وجريانُ الاستصحاب في هذا الفرض مبتنٍ على حجيَّة الاستصحاب في الشبهات الحكمية، على أنَّه لا يصحُّ الاستدلال في المقام بالاستصحاب حتى بناء على حجيَّته في الشبهات الحكميَّة، وذلك لتبدُّل الموضوع فالمتيقَّن حرمتُه هو أجزاء الحيوان والمشكوك هو اللَّبن المستحيل عن هذه الأجزاء وهو موضوع آخر.

الوجه الرابع: أنَّ اللبن بنفسه جزءٌ من الحيوان المحرَّم وحيثُ إنَّ حرمة الحيوان تنبسطُ على جميع أجزائه لذلك يكون الدليلُ على حرمة الحيوان دليلٌ على حرمة لبنِه لكونه من أجزائه.

وأُجيب عن هذا الوجه بأنَّ اللَّبن لا يعدُّ عرفاً من أجزاء الحيوان وإنْ كان قد تكوَّن عنها، فشأنه شأنُ سائر فضلات الحيوان المتكوِّنة عن أجزائه ولكنَّها ليست من أجزائه عرفاً، فلا يصحُّ الاستدلال على حرمتها بتحريم أجزائها.

ونظراً لعدم تماميَّة الوجوه المذكورة توقَّف عددٌ من الأعلام في الفتوى بحرمة لبن الحيوان المحرَّم كالمحقَّق النراقي والمقدَّس الأردبيلي والمحدِّث السبزواري(6) إلا أنَّ ثمة وجه خامساً لعلَّه صالحٌ لإثبات حرمة لبن الحيوان المحرَّم. 

الوجه الخامس: الاستدلال على حرمة لبن الحيوان المحرَّم ذاتاً بما دلَّ على حرمة لبن الحيوان الجلَّال وبما دلَّ على حرمة البهيمة المنكوحة للإنسان كصحيحة حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَا تَشْرَبْ مِنْ أَلْبَانِ الإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِهَا فَاغْسِلْه"(7).

ورواية مِسْمَعٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): النَّاقَةُ الْجَلَّالَةُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ولَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا حَتَّى تُغَذَّى أَرْبَعِينَ يَوْماً"(8).

ورواية مِسْمَعٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) سُئِلَ عَنِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تُنْكَحُ؟ فَقَالَ: حَرَامٌ لَحْمُهَا وكَذَلِكَ لَبَنُهَا"(9).

فإذا كان لبنُ الحيوان المحرَّم -عرضاً- محرماً فلبنُ الحيوان المحرم -ذاتاً- محرَّم بالأولويَّة القطعيَّة أو لا أقلَّ من إلغاء خصوصيَّة الحرمة العرضية فيكون الظاهر عرفاً من قوله (ع): "لَا تَشْرَبْ مِنْ أَلْبَانِ الإِبِلِ الْجَلَّالَةِ" هو النهي عن شرب لبن الحيوان المحرَّم اللَّحم. بمعنى أنَّ العرف يُلغي خصوصية الجلَل ويستظهرُ من الخطاب أنَّ موضوع حرمة اللبن هو الحيوان المحرَّم اللحم.

مستندُ الحكم بكراهة لبن الحيوان المكروه:

وأمَّا الحكم بكراهة لبن الحيوان المكروه اللحم فاستُدلَّ له بالإجماع والاستصحاب وبدعوى أنَّ اللَّبن جزءٌ من الحيوان فيكون له حكم الحيوان والجواب عن هذه الوجوه هو ذاته الجواب عن الوجوه الثلاثة المتقدِّمة، نعم ذكر بعضُ الأعلام أنَّه يكفي لإثبات كراهة لبن الحيوان المكروه اللَّحم التمسُّك بفتوى المشهور بالكراهة وذلك لقاعدة التسامح في أدلَّة السنن إلا أنَّ هذا الوجه لا يتمُّ أيضاً، فإنَّ القاعدة بناءً على حجيَّتها مختصةٌ بالمسنونات التي وردتْ عليها رواية ضعيفة السند، وفتوى المشهور وإنْ كان يُحتمل استنادها إلى رواية لكنَّ ذلك غير مُحرَز لذلك لا يكونُ الموردُ منطبَقاً لروايات مَن بلغ والتي هي مستندُ القاعدة.

فالصحيح هو أنَّه لا دليل على كراهة لبن الحيوان المكروه اللَّحم، نعم لا يصحُّ النقض على دعوى الكراهة بصحيحة الْعِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: تَغَدَّيْتُ مَعَه فَقَالَ لِي: أتَدْرِي مَا هَذَا قُلْتُ: لَا، قَالَ: هَذَا شِيرَازُ الأُتُنِ اتَّخَذْنَاه لِمَرِيضٍ لَنَا فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْه فَكُلْ"(10) فإنَّ أقصى ما تدلُّ عليه الصحيحة هو إباحة ألبان الأتن -انثى الحمار- ولكنَّها لا تنفي كراهته، فإنَّ الإباحة تجتمع مع الكراهة كما هو واضح.

وكذلك لا يصحُّ الاستدلال على نفي الكراهة بصحيحة عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ شُرْبِ أَلْبَانِ الأُتُنِ؟ فَقَالَ اشْرَبْهَا"(11) فإنَّ الأمر بالشرب ليس ظاهراً في الطلب لوروده في سياق توهُّم الحظر.

وخلاصة القول هو أنَّه لا دليل على كراهة ألبان الحيوان المكروه اللَّحم كما أنَّه لا دليل على نفي الكراهة وأنَّ أقصى ما تدلُّ عليه الروايات هو إباحة ألبان مطلق الحيوان المباح سواءً كان مباحاً بالمعنى الأخصِّ أو كان مكروه اللَّحم.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

4 / جمادى الأولى / 1445ه

19 / نوفمبر / 2023م

-----------------------------

1- مستند الشيعة -النراقي- ج15 / ص143.

2- رياض المسائل -الطبأطبائي- ج12 / ص147.

3- الكافي -الكليني- ج6 / ص325.

4- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي-ج36 / ص394.

5- رياض المسائل -الطبأطبائي-ج12 / ص226.

6- مستند الشيعة -النراقي- ج15 / ص144، 145.

7- الكافي -الكليني- ج6 / ص251، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص164.

8- الكافي -الكليني- ج6 / ص253، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص167. 

9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج24 / ص170.

10- الكافي -الكليني- ج6 / ص338.

11- الكافي -الكليني- ج6 / ص339.