هل يسقط حقُّ القصاص بعفو بعض أولياء الدم 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

لو قتل رجلٌ رجلاً متعمِّداً وكان للقتيل أولاد متعدِّدون فاختار أحدُّهم القصاص واختار الباقي العفوَ أو الدية فهل يسقطُ بذلك القصاص عن الجاني أو أنَّ لمَن اختار القصاصَ الحقَّ في إيقاع القصاص على الجاني؟

الجواب:

اختلف الفقهاءُ في ذلك -كما أفاد صاحب الجواهر(1)- فذهب جمعٌ منهم كالعلامة الحلِّي والشهيدين الأول والثاني والمقداد والأردبيلي والكاشاني إلى أنَّ حقَّ القصاص ثابتٌ لمجموع الأولياء، فلا يصحُّ استيفاؤه إلا في فرض توافقهم على اختيار القصاص، فلو عفا أحدُ الأولياء أو رضيَ بالدية لم يجز للباقي الاقتصاص من الجاني.

وفي المقابل نُسب الى الشيخ الطوسي في الخلاف وفي المبسوط، وكذلك نُسب إلى علم الهدى والقاضي والكيدري وابن حمزة وابن زهرة القول بأن حقَّ القصاص ثابتٌ لكلِّ واحدٍ من الأولياء بنحو الاستقلال، ونسب المقدس الأردبيلي هذا القول إلى الأكثر كما أفاد صاحب الجواهر وأفاد بأنَّ السيد المرتضى والشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية ادعوا الإجماع على ذلك، وكذلك هو ظاهر الشيخ في المبسوط (2) فبناء على هذا القول لا يسقطُ القصاص بعفو البعض أو قبوله بالدية، فيكفي لصحة الاقتصاص من الجاني مطالبةُ أحد الأولياء بالقصاص حتى لو فُرض عفو الأكثر أو قبولهم بالدية.

الاستدلال للقول الثاني:

ويُستدلُّ -كما أفاد السيد الخوئي(3)- للقول بأنَّ حقَّ القصاص ثابت لكلِّ فردٍ من الأولياء بنحو الاستقلال، يُستدلُّ لذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾(4) فإنَّ ظاهر الآية هو جعلُ حقِّ القصاص لطبيعي الوليِّ، فموضوعُ الحقِّ هو طبيعي الوليِّ، ومقتضى ذلك هو انحلال هذا الحقِّ بانحلال موضوعه كما هو الشأن في كلِّ مورد جُعل فيه الحكم على موضوع فإنَّ هذا الحكم ينحلُّ إلى أحكامٍ بعدد أفراد طبيعيِّ الموضوع، فإذا قيل مثلاً أنفِق على الزوجة، فإنَّ وجوب النفقة ينحلُّ إلى وجوبات بعدد أفراد طبيعي الزوجة، فإذا كنَّ ثلاثَ زوجاتٍ -مثلاً- كان هذا الخطاب مقتضياً لانحلال الحكم بوجوب النفقة على الزوجة إلى ثلاثة وجوبات، وهكذا لو قيل يجب الوفاء بالعقد فإنَّ هذا الوجوب ينحلُّ إلى وجوبات بعدد أفراد طبيعي العقد. وكذلك هو الشأن في المقام فإنَّ الآية قد جعلت حقَّ القصاص لوليِّ المقتول ومقتضى ذلك هو انحلال هذا الحقِّ إلى حقوقٍ بعدد أفراد الأولياء.

فلو قيل إنَّ حق القصاص يسقط بعفو البعض أو بقبول البعض للدية فإنَّ مقتضى ذلك أنَّ الذي لم يعفُ ولم يقبل بالدية لا حقَّ له وهو مناف لمفاد الآية التي جعلت له الحقَّ في القصاص، وهذا بخلاف ما لو قلنا إنَّ لكلِّ فرد حقَّ الاستيفاء للقصاص فإنَّ مَن عفى قد أسقط حقَّ نفسه، وكذلك الذي قبِل بالدية فإنَّه قد اسقط حقَّ نفسه في القصاص، فسقوط حقِّ القصاص عمَّن عفا أو قبل بالدية لا ينافي ظاهر الآية في استحقاقِه للقصاص، وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنَّ حقَّ القصاص يسقطُ بعفو البعض فإنَّ لازمَه أنَّ مَن لم يعفُ لا حقَّ له وهو منافٍ لظاهر الآية التي جعلت حقَّ القصاص لطبيعي الولي.

الاستدلال بالروايات ومعالجة التعارض:

وكذلك يُستدلُّ باستحقاق كلِّ واحد من الأولياء باستقلاله في استيفاء حقِّ القصاص بصحيحة أَبِي وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ رَجُلٍ قُتِلَ ولَه أُمٌّ وأَبٌ وابْنٌ فَقَالَ: الِابْنُ أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ قَاتِلَ أَبِي، وقَالَ الأَبُ: أَنَا أَعْفُو وقَالَتِ الأُمُّ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَ الدِّيَةَ قَالَ: فَقَالَ: فَلْيُعْطِ الِابْنُ أُمَّ الْمَقْتُولِ السُّدُسَ مِنَ الدِّيَةِ، ويُعْطِي وَرَثَةَ الْقَاتِلِ السُّدُسَ مِنَ الدِّيَةِ حَقَّ الأَبِ الَّذِي عَفَا، ولْيَقْتُلْ"(5).

فهذه الرواية صريحةٌ في استحقاق أحد الأولياء في استيفاء حقِّه في القصاص رغم عفو الولي الثاني وهو الأب وقبول الأم بالدية غايته أنَّ على الوليِّ الذي يُريد استيفاء حقِّه في القصاص أنْ يعطي الأمَّ التي قبلت بالدية سدس الدية، ويعطي ورثة الجاني سدس الدية والذي هو حقُّ الأب الذي عفا عن الجاني.

ويؤيِّد ذلك مرسلة جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه رَفَعَه إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فِي رَجُلٍ قُتِلَ ولَه وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا وأَبَى الآخَرُ أَنْ يَعْفُوَ؟ قَالَ: إِنْ أَرَادَ الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَنْ يَقْتُلَ قَتَلَ ورَدَّ نِصْفَ الدِّيَةِ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الْمُقَادِ مِنْه"(6) فالرواية صريحة في استحقاق الذي لم يعفُ في استيفاء حقِّه في القصاص إلا أنَّ عليه أنْ يدفع نصفَ دية الجاني المُقاد منه إلى ورثته.

إلا أنَّه بإزاء ذلك وردت رواياتٌ يظهرُ منها سقوط حقِّ القصاص بعفو البعض أو قبولهم بالدية.

منها: صحيحة عَبْدُ الرَّحْمَنِ قال: فَقُلْتُ: لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَرَجُلَانِ قَتَلَا رَجُلاً عَمْداً، ولَه وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ قَالَ: فَقَالَ: إِذَا عَفَا بَعْضُ الأَوْلِيَاءِ دُرِئَ عَنْهُمَا الْقَتْلُ، وطُرِحَ عَنْهُمَا مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ حِصَّةِ مَنْ عَفَا وأَدَّيَا الْبَاقِيَ مِنْ أَمْوَالِهِمَا إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا"(7).

ومنها: معتبرة إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أنَّ عليَّاً (عليه السلام) كان يقول: "مَن عفا عن الدم من ذي سهمٍ له فيه فعفوُه جائزٌ، وسقط الدمُ وتصير دية، ويرفع عنه حصَّة الذي عفا"(8).

فالتعارض بين الطائفتين مستحكم، لذلك يكون المرجعُ هو مرجِّحات باب التعارض، وهي تقتضي تقديم الطائفة الأولى المقتضية لعدم سقوط حقِّ القصاص بعفو بعض الأولياء، وذلك لأنَّها موافقة لظاهر الكتاب كما اتَّضح ممَّا تقدم مضافاً إلى أنَّ الطائفة الثانية موافقة لفتوى جمهور أو مشهور العامَّة فتُحمل على التقية كما أفاد ذلك صاحب الجواهر رحمه الله(9) وكذلك أفاده السيِّد الخوئي رحمه الله (10).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

26 / جمادى الأولى / 1445ه

11 / ديسمبر / 2023م

---------------------

1- جواهر الكلام -النجفي- ج42 / ص289.

2- جواهر الكلام -النجفي- ج42 / ص289.

3- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج42 / ص160.

4- سورة الإسراء / 33.

5- الكافي -الكليني- ج7 / ص356، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج29 / ص113.

6- الكافي -الكليني- ج7 / ص356، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج29 / ص113.

7- الكافي -الكليني- ج7 / ص358، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج29 / ص115.

8- الاستبصار -الشيخ الطوسي- ج4 / ص264، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج29 / ص116.

9- جواهر الكلام -النجفي- ج42 / ص290.

10- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج42 / ص160.