معنى قوله تعالى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى قوله تعالى في سورة القيامة: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾(1)؟.

 

الجواب:

البَنان هي الأصابع أو هي أطرافُ الأصابع المُعبَّر عنها بالأنامل، والبَنان جمعٌ مفردُه بنانة. وقوله تعالى: ﴿نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ أي بنان الإنسان، فالضمير المتَّصل بكلمة بَنان ترجع إلى الإنسان المذكور في الآية التي سبقت هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾(2).

 

والآية -أعني قوله تعالى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾- بصدد تأكيد أنَّ الله تعالى سوف يبعثُ الناس بعد موتِهم وتبدُّدِ أوصالهم وصيرورتهم رميماً، وأنَّه تعالى سوف يُعيد تصوريهم على النحو الذي كانوا عليه في عالم الدنيا فيجمع ذرات أجسادهم وعظامهم فيعيد تكوينها وتصويرها على الهيئة التي كانوا عليها في عالم الدنيا. فهو جلَّ وعلا قد خلقَ الإنسان وكوَّنه من العدم لذلك فهو -سبحانه- قدارٌ على إعادة خلقِه وتكوينه بعد موته وصيرورته رميماً.

 

فالآيةُ التي سبقت هذه الآية هي قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ يعني أيظنُّ الإنسان أنَّه لن يُبعث بعد الموت لأنَّ عظامه قد تبدَّدت وصارت رميماً لذلك لا يُمكن جمع هذه العظام؟! فهو استفهام سيق لغرض الاستنكار والتوبيخ، ثم تصدَّت الآية للتأكيد على أنَّ عظام الإنسان سوف تُجمع فقوله تعالى: ﴿بَلَى﴾ حرف جواب ومفاده الإيجاب ردَّاً على النفي الوارد في الاستفهام، فالاستفهام هو: ألن نجمع عظامه؟! والجواب بلي سوف نجمعُ عظامَه ﴿قَادِرِينَ﴾ أي حال كوننا قادرين على ذلك، فقوله: ﴿قَادِرِينَ} حال لفاعل الفعل المقدَّر يعني حال من فاعل نجمع، فيكون محصَّل المعنى بلى سوف نجمع عظامَه حال كوننا قادرين.

 

وقوله تعالى: ﴿عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} يعني قادرين على جمع وتسوية أدقِّ عظامه وصغارها وهي البَنان، فنحن قادرون على جمع عظام البنان فضلاً عن العظام الكبيرة والغليظة، والتي يكون جمعُها وتسويتها أيسر بالإضافة إلى عظام البَنان الدقيقة والصغيرة، فالقدرة على جمع وتسوية العظام الدقيقة والصغيرة يلزم منه القدرة على جمع وتسوية سائر العظام الغليظة والكبيرة. فالآية أرادت من بيان القدرة على جمع وتسوية عظام البنان الدقيقة أنْ تؤكد على أنَّ القدرة على جمع وتسوية سائر العظام الغليظة يكون أولى وأوضح.

 

الآية تنبِّه على عظيم أثر البنان وبديع صنعتها:

هذا ولعلَّ الآية المباركة أرادت من التنوية على قدرة الله تعالى على جمع وتسوية عظام البنان التنبيه على عظيم أثر البنان وفائدتها، فبِها يتهيأ للإنسان القبض والبسط، ولولا البنان لما تمكَّن من قبض الأشياء، ولما أُتيح له الأكل إلا كما يأكلُ الحيوان، ولَمَا تمكَّن من مثل الكتابة والغزل والحياكة والبناء وصناعة الأشياء الدقيقة والبديعة، ولعلَّ الآية تُشير أيضاً إلى الخطوط التي تتميَّز بها البَنان والتي تختلفُ هيئاتها من فردٍ لآخر بحيث يتميَّز كلُّ فردٍ بهيئةٍ لخطوط بَنانه مغايرةٍ للهيئات التي عليها خطوط بنان سائر الناس. فالآية تُنبِّه على عظيم قدرة الله تعالى وبديع صنعته جلَّ وعلا.

 

احتمال آخر لمعنى الآية:

وهنا معنىً آخر ذكره بعض المفسرين لقوله تعالى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ وهو أنَّ المراد من تسوية البَنان هو ضمِّها إلى بعضها فتُصبح عضواً واحداً كما هو خفُّ البعير وحافرُ الخيل، ولو وقع ذلك لفات الإنسانَ الكثيرُ من المنافع التي لا تُتاح إلا بواسطة هيئة البنان التي خُلق عليها الإنسان، فكأنَّ الآية بصدد تنبيه الإنسان على ما امتنَّ اللهُ به عليه من تصيير بنانه بالكيفيَّة التي هي عليها.

 

الجواب عن الاحتمال المذكور:

وهذا المعنى وإنْ كان صحيحاً في نفسه ولكنَّه مخالف لسياق الآية المباركة، إذ أنَّ الواضح من سياقها هو أنَّها بصدد التأكيد على قدرة الله تعالى على جمع عظام الإنسان بعد صيرورتها رميماً، فهي بصدد الإفادة على أنَّه تعالى قادر على جمع وتسوية دقاق العظام فضلاً عن غليظها. فلا ينبغي توهُّم امتناع ذلك على الله جلَّ وعلا القادر على كلِّ شيء.

 

ولعلَّ منشأ البناء على أنَّ المراد من الآية هو ضمُّ بنان الإنسان بحيث تصير كهيئة خفِّ البعير هو التعبير بالتسوية بمعنى تسوية الأصابع شيئاً واحداً متساوياً والحال أنَّ التسوية تُستعمل بمعنى إتمام الشيء وتعديل صورته، فيكون المعنى بلى قادرين على جمع عظام الأصابع وإتمام وتعديل صورتها على الهيئة التي كانت عليها قبل موت الإنسان، وقد استعمل القرآن كلمة التسوية في هذا المعنى كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ / فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(3) يعنى فإذا صورته أو قل أتممتُ صورته، وكذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}(4).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

3 / شهر رمضان / 1445ه

14 / مارس / 2024م

------------------------------

1- سورة القيامة / 4.

2- سورة القيامة / 3.

3- سورة الحجر / 28-29.

4- سورة السجدة / 9.