هجران المؤمن فوق ثلاث والأمر بالمبادرة للصلح

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

عن أبي جعفرٍ الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: "ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلا وبرئتُ منهما في الثالثة، فقيل له: يا ابن رسول الله هذا حال الظالم فما بالُ المظلوم؟ فقال (عليه السلام): ما بالُ المظلوم لا يصيرُ إلى الظالم فيقول: أنا الظالمُ حتى يصطلحا"(1).

سماحة الشيخ:

كيف يذهب المظلوم للظالم ويتَّهم نفسه بأنَّه الظالم؟ أليس فيه إغراء للآخر؟ ومهانة لنفسه؟ فمثلاً ممكن أن نتفهَّم أن يتَّهم نفسه بالظلم لو كان الخلاف بسبب التلاسن ولكن ماذا لو كان قد ظلمه بأنْ سلب حقَّه أو ماله؟

الجواب:

مفاد الرواية أنَّ كلاً منهما غيرُ معذورٍ شرعاً في البقاء على القطيعة والهجران فوق ثلاث، وأنَّ كلاً منهما مسئول شرعاً عن المبادرة إلى الصلح، وكون أحدهما محقَّاً والآخر معتدياً كما هو الغالب لا يُبرِّر للمحقِّ -بحسب الرواية -الإقامة على الهجران والقطيعة، على أنَّ كثيراً ما يتَّفقُ توهُّم كلٍّ من الطرفين أنَّه المحقُّ والآخر هو المخطئ والمعتدي، فلو أنيطت مسئوليَّة المبادرة للصلح بالمعتدي، لرأى كلٌّ منهما أنَّ على الآخر المبادرة للصلح، فجعلُ مسئوليَّة المبادرة للصلح بعُهدة الطرفين يسدُّ عليهما بابَ توهُّم الرخصة في الإقامة على القطيعة. فكلٌّ من المظلوم والظالم مسئول شرعاً عن المبادرة للصلح.

وأمَّا قوله (ع): "ما بالُ المظلوم لا يصيرُ إلى الظالم فيقول: أنا الظالمُ حتى يصطلحا" فمعناه أنَّه لو توقَّف الصلحُ ورفعُ القطيعة على أنْ يذهب المظلوم للظالم فيقرُّ له أنَّه الظالم، لو توقف الصلح على ذلك كان على المظلوم أن يفعلَه، ولا غضاضة عليه في ذلك لأنَّه لا يعدو التنازل له عن حقِّه أو مالِه، وهو سائغ في نفسِه.

وأما أنَّ ذلك يستلزم الامتهان لنفسه فلا يصحُّ، إذ لا ملازمة بين الإقرار له بالظلم وبين الإذلال لنفسِه بل قد يوجب ذلك الإكبارُ له والتعظيمُ لشأنه خصوصاً مع وضوح أنَّه المظلوم واقعاً بل حتى مع عدم الوضوح فإنَّ مبادرته للصلح من طريق الإقرار ترفعُ عن أخيه المؤمن ما كان يجده عليه في نفسِه من غيظٍ وحنَق، لأنَّ مفروض الرواية أنَّ إقراره أنَّه الظالم سوف يؤدِّي للصلح. على أنَّه لو اقتضى ذلك الإذلال لنفسِه في بعض الفروض فإنَّه لابأسَ به بل هو راجحٌ لافتراض أنَّ خصمَه مؤمنٌ، وقد قال الله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(2).

وأمَّا أنَّ إقراره له بالظلم يُؤدِّي إلى إغرائه بالتمادي في ظلمه له فلا يصحُّ أيضاً لأنَّ المفترض أنَّ هذا الخصم مؤمن وأنَّ ما حدث بينهما من خصومة كانت أمراً عارضاً، فليس من دأبه الظلم والتعدِّي، على أنَّه لو اتَّفق أن كان الخصمُ ممَّن دأبه التعدِّي أو يتوقَّع منه ذلك لسوءِ خلقه أو رقَّة دينه أو خفَّة عقله فإنَّ لطرفه أنْ يحتاط لنفسه، فالأمر بمبادرته بالصلح لا تعني الأمر بمخالطته والتعامل معه وإنَّما تعني رفع القطيعة والتواصل معه بمثل التحية والتعزية والمواساة عند حدوث ما يقتضيها، والعيادة له في ظرف المرض والإحسان إليه في ظرفِ الحاجة.

ثم إنَّ قوله (ع): "ما بالُ المظلوم لا يصيرُ إلى الظالم فيقولُ: أنا الظالم حتى يصطلحا" لا يعني أنْ يقول له أنا الظالم دون أنْ يُوحي له أنَّه يقول ذلك لحرصه على نبذ الخصومة والقطيعة المحرَّمة بين المؤمنين، وعليه فإنَّ مثل هذا الإقرار حين يصدر في هذا السياق يُنتج غالباً لدى الأسوياء شعوراً لدى الخصم بالامتنان.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ إقرار المظلوم بالظلم بدافع الإنهاء للخصومة لا يعفي الظالم الواقعي من المسئوليَّة الشرعيَّة فهو إن لم يعمل على الخروج من عهدة مظلمته فإنَّ الله تعالى سوف يُحاسبُه يوم القيامة، ويُؤيد ذلك ما رُوي عن أبي عَبْدِ اللَّه (ع) قال: "لَا يَفْتَرِقُ رَجُلَانِ عَلَى الْهِجْرَانِ إِلَّا اسْتَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَرَاءَةَ واللَّعْنَةَ، ورُبَّمَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ كِلَاهُمَا فَقَالَ لَه مُعَتِّبٌ: جَعَلَنِيَ اللَّه فِدَاكَ هَذَا الظَّالِمُ فَمَا بَالُ الْمَظْلُومِ؟ قَالَ: لأَنَّه لَا يَدْعُو أَخَاه إِلَى صِلَتِه ولَا يَتَغَامَسُ لَه (يتعامس له)(3) عَنْ كَلَامِه، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: إِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فَعَازَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَلْيَرْجِعِ الْمَظْلُومُ إِلَى صَاحِبِه حَتَّى يَقُولَ لِصَاحِبِه: أَيْ أَخِي أَنَا الظَّالِمُ حَتَّى يَقْطَعَ الْهِجْرَانَ بَيْنَه وبَيْنَ صَاحِبِه، فَإِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى حَكَمٌ عَدْلٌ يَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ"(4).

فقوله (ع): "فَإِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى حَكَمٌ عَدْلٌ يَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ" صريحٌ في أنَّ إقرار المظلوم للظالم بأنَّه الظالم لا ينفي الوزْرَ عن الظالم الواقعي ولا يُسقط حقَّ المظلوم.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

11 / شوال / 1445ه

20 / أبريل /2024م

--------------------------

1- الخصال -الصدوق- ص183.

2- سورة المائدة / 54.

3- يتعامس له يعني يتغاضى ويتغافل.

4- الكافي -الكليني- ج2 / ص344.