صفاتُ وخصالُ الإنسان الكامل

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله شكراً لنعمائه واستدعاءً لمزيدِه واستخلاصاً له وبه دون غيرِه، وعياذاً به من كفرانه .. حمدَ مَن يعلمُ أنَّ ما به مِن نعمائه فمِن عند ربِّه، وما مسَّه من عقوبتِه فبسوءِ جناية يدِه وصلَّى الله على محمَّدٍ عبدِه ورسولِه وخيرتِه مِن خلقه وذريعةِ المؤمنين إلى رحمته وآله الطاهرين ولاةِ أمره، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

عبادَ الله أوصيكم ونفسِي بتقوى الله، واعلموا أنَّه لن يَستكمِلَ العبدُ حقيقةَ الإيمان حتى يُؤثِرَ دينَه على شهوتِه، ولن يَهلكَ حتى يُؤثِرَ شهوتَه على دينِه، ولا يستكمِلَ عبدٌ الإيمانَ حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه، وحتى يَخافَ اللهَ في مِزاحِه وجِدِّه.

أعظم اللهُ أجوركم بمصابكم بذكرى استشهاد الإمام أبي محمَّدٍ الحسنِ بن عليٍّ المجتبى سبط رسول الله تعالى وريحانته وسيد شباب أهل الجنَّة صفيِّ الله وحجَّته على عباده وأستثمرُ هذه المناسبة الجليلة للوقوف على إحدى خُطبه المأثورة عنه والتي أوردها الكليني في الكافي قال:

نصُّ الخطبة الشريفة:

قَالَ خَطَبَ النَّاسَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ(ع) فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَخٍ لِي كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِي عَيْنِي، وكَانَ رَأْسُ مَا عَظُمَ بِه فِي عَيْنِي صِغَرَ الدُّنْيَا فِي عَيْنِه، كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِه، فَلَا يَشْتَهِي مَا لَا يَجِدُ، ولَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ فَرْجِه، فَلَا يَسْتَخِفُّ لَه عَقْلَه ولَا رَأْيَه، كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ الْجَهَالَةِ، فَلَا يَمُدُّ يَدَه إِلَّا عَلَى ثِقَةٍ لِمَنْفَعَةٍ، كَانَ لَا يَتَشَهَّى ولَا يَتَسَخَّطُ ولَا يَتَبَرَّمُ، كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِه صَمَّاتاً، فَإِذَا قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ، كَانَ لَا يَدْخُلُ فِي مِرَاءٍ، ولَا يُشَارِكُ فِي دَعْوَى ولَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَرَى قَاضِياً، وكَانَ لَا يَغْفُلُ عَنْ إِخْوَانِه ولَا يَخُصُّ نَفْسَه بِشَيْءٍ دُونَهُمْ، كَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً فَإِذَا جَاءَ الْجِدُّ كَانَ لَيْثاً عَادِياً، كَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً فِيمَا يَقَعُ الْعُذْرُ فِي مِثْلِه حَتَّى يَرَى اعْتِذَاراً، كَانَ يَفْعَلُ مَا يَقُولُ، ويَفْعَلُ مَا لَا يَقُولُ، كَانَ إِذَا ابْتَزَّه أَمْرَانِ لَا يَدْرِي أَيُّهُمَا أَفْضَلُ نَظَرَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا إِلَى الْهَوَى فَخَالَفَه، كَانَ لَا يَشْكُو وَجَعاً إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَرْجُو عِنْدَه الْبُرْءَ، ولَا يَسْتَشِيرُ إِلَّا مَنْ يَرْجُو عِنْدَه النَّصِيحَةَ، كَانَ لَا يَتَبَرَّمُ ولَا يَتَسَخَّطُ ولَا يَتَشَكَّى ولَا يَتَشَهَّى ولَا يَنْتَقِمُ، ولَا يَغْفُلُ عَنِ الْعَدُوِّ، فَعَلَيْكُمْ بِمِثْلِ هَذِه الأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ إِنْ أَطَقْتُمُوهَا فَإِنْ لَمْ تُطِيقُوهَا كُلَّهَا فَأَخْذُ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه"(1).

الغاية من تعداد صفات الإنسان الكامل:

يتصدّى الإمامُ الحسنُ المجتبى (ع) في هذه الخطبةِ المأثورةِ عنه لتَعداد صفاتِ وسجايا الإنسان الكامل، ويصوغ ذلك في قالبٍ قَصصيٍّ بديع لكونه أدعى لشدِّ الانتباه وأبلغَ في الحضِّ على تمثّل المتلقِّي لهذه الصفات والسجايا الحميدة، وذكَرَ (ع) في نهاية الخُطبةِ ما يكشف عن غايته من تَعداد صفات الإنسان الكامل وسجاياه وهي اتَّخاذُها مثالاً يُحتذى، وبذلُ الطاقة في تحصيلها والتخلُّقِ بها، وهو ما يُعبِّر عن أنَّ الوجدان لهذه الصفات يقتضي المجاهدةَ للنفس واستفراغَ الوِسْع في طريق تحصيلها.

ثم أفاد (ع) أنَّه لو شقَّ على الإنسانِ أنَّ يكون واجداً لمجموع هذه الصفات فإنَّ ذلك لا ينبغي أن يصرفَه عن السعي لتحصيل الوجدان لبعضها، فأخذُ القليل من سجايا الخير خيرٌ من تركِها مجتمعة، ومعنى ذلك أنَّه لا ينبغي للمؤمن أنْ يساورَه شعورٌ بالإحباط واليأسِ لمجرَّد عجزِه عن الجمع لجميع سجايا الخير، كما لا ينبغي الاقتناع بما هو عليه من السجايا الحميدة دون السعيِ الصادق والدائم لتحصيل المزيدِ منها.

ثم ختم الإمام(ع) خطبته الشريفة بقوله: "ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه" وهو ما يُشعِرُ بأنَّ وسيلةَ التحصيل للكمالات -مضافاً إلى عقدِ العزم على ذلك والسعيِ وبذلِ الوِسع في ذلك- هو الاستعانةُ بالله تعالى والاعتقادُ بأنَّ من غير المتاح لأحدٍ النيلَ لشيءِ من حميد الصفات وسجايا الخير دون توفيقٍ من الله تعالى، فهي منحٌ إلهيَّةٌ يمنُّ اللهُ تعالى بها على مَن أخذ بأسبابها.

ما ينبغي أن يكون منشأً للتعظيم:

يقول(ع): "أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَخٍ لِي كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِي عَيْنِي" يعني أنَّه يحظى بموقعٍ أثيرٍ في نفسِه، فكان يُكبِرُه ويُجلُّه ويعظِّم من شأنِه، وأفاد (ع) أنَّ تقديرَه وتعظيمه له لم ينشأ عن نسبٍ بينهما أو مصلحةِ يرجوها منه أو منفعةٍ أسداها له أو أُلفةٍ اتفقتْ لهما بل نشأ التعظيمُ والتقدير عن كونِه واجداً لحميدِ الصفات ومكارمِ الأخلاق، فهو ما ينبغي أن يكونَ منشأً للتقديرِ والإكبار والتعظيم.

أشرف صفاته استصغاره للدنيا:

ثم قال (ع): "وكَانَ رَأْسُ مَا عَظُمَ بِه فِي عَيْنِي صِغَرَ الدُّنْيَا فِي عَيْنِه" يعني أنَّ أشرفَ صفاته وأجدرَها بالتعظيمِ والإكبار هي استصغارُه للدنيا واحتقارُه لشأنِها، فلم تكن تحظى من نفسِه باهتمام، فهو لا يعبأُ كثيراً بملذَّاتِها، ولا تبهرُه زخارفُها وزينتها، ولا يستعظمُ أهوالَها وتقلُّباتِها، فهي بمكانٍ حقيرٍ من نفسِه، ولهذا فهو لا يأسى على ما فاتَه منها، ولا يفرحُ بما نالَ منها، وذلك هو سرُّ تحرُّرِه من سلطانِها، فالدنيا إنَّما تَستعبِد من يَعشقُها ويتعلَّقُ بملذَّاتِها وزينتها، ولهذا أفاد الإمامُ (ع) أنَّ الأثرَ المترتِّبَ على استصغارِ الدنيا هو التحرُّرُ من سلطانها. وإذا تحرَّر الإنسانُ من سلطانِ الدنيا صارَ هو المالكَ لقياد نفسِه فلا تُلجئُه رغبةٌ إلى اقتراف ما ينافي الدينَ أو العقل، ولا يمنعُه خوفٌ من الثباتِ على الحقِّ والانتصارِ له، ولا يقودُه طمعٌ إلى القبول بالهَوان، فذلك هو أثرُ استصغارِ الدينا والاحتقار ِلشأنِها. 

أقوى أسبابِ الحبِّ للدنيا والانقيادِ لسلطانها:

فالإنسانُ الذي يتحدَّثُ عنه الإمامُ (ع) ويُثني على كريم خِصالِه: "كان خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِه" فمشتهياتُ البطنِ والتي هي تعبيرٌ آخر عن الرغبةِ الجامحةِ في تأمينِ حاجاتِ الجسد من الطعام والشراب واللِّباس والمسكنِ والمركب ومختلف وسائل الراحةِ والاستجمام هي من أقوى أسبابِ الحبِّ للدنيا والانقيادِ لسلطانها، وهو ما يبعثُ بطبعِه على الطمع كما أفاد أميرُ المؤمنين (ع) أنَّ: "حبَّ الدنيا يُوجب الطمع"(2) ويقول النبيُّ الكريم (ص) فيما رُوي عنه:"حرامٌ على كلِّ قلبٍ يُحبُّ الدنيا أنْ يفارقَه الطمع"(3) يعني أنَّ هنا تلازماً غيرَ قابلٍ للانفكاك بين حبِّ الدنيا وبين الابتلاءِ بداءِ الطمع، فإذا ابتُليَ الإنسانُ بداءِ الطمع انصرف همُّه إلى ما يطمعُ في تحصيله، فصار بطنُه شغلَه الشاغل الذي يبذلُ فيه كلَّ سعيه، ويجمعُ له كلَّ حواسِّه ومداركِه، ويصرف كلَّ وقته وجهدِه في سبيل إشباعه، وبذلك يُصبحُ أسيراً لمشتهيات بطنِه، ولهذا ورد عن الرسولِ الكريم(ص) أنَّه قال: "إيَّاكم واستشعارَ الطمع، فإنَّه يشوبُ القلبَ بشدَّةِ الحِرص، ويَختِمُ على القلب بطبائع حبِّ الدنيا، وهو مفتاحُ كلِّ معصية، ورأسُ كلِّ خطيئة، وسببُ إحباطِ كلِّ حسَنة"(4).

الطمعَ يبعثُ على الهَوان:

وكذلك فإنَّ الطمعَ يبعثُ على الهوان وذلك لأنَّ الإنسانَ إذا اشتدَّت رغبتُه في الشيء وطمِع في نوالِه توسَّل بكلِّ وسيلةٍ في سبيلِ تحصيله وإنْ كانت هذه الوسيلةُ هي الإذلال لنفسه والتخضُّع لمَن بيدِه تحقيقُ ما يطمع فيه، ولهذا ورد عن الإمام موسى بن جعفر(ع) أنَّ: "الطمعَ مفتاحُ الذُّل"(5) وورد عن أمير المؤمنين(ع) أنَّه قال: "قُرِنَ الطمعُ بالذُّل"(6) وأنَّ: "الطامع في وِثاق الذُّل"(7) فكثيراً ممَّن تجدونهم يتصاغرونَ لكبرائهم إنَّما نشأ ذلك عن طمعِهم فيما في أيديهم. 

الطمع يبعثُ على الجشع:

وكذلك فإنَّ الطمع يبعثُ على الجشع والحبِّ المُفرِط لجمع المال، لأنَّه وسيلة الإشباع لمشتهيات الجسد، وإذا ابتُلي الإنسانُ بالجشع والحبِّ المفرِط للمال دفعَه ذلك إلى البخل المفضي للامتناعِ عن أداء الحقوق التي عليه بل إنَّ مِن آفاتِ الجشع هو الاغراءُ بالتعدِّي على ما في أيدي الناس بالغصبِ أو الاستئثارِ أو الابتزاز أو الغشِّ أو الغبْن أو الاحتيال والمكر، ويستعينُ على ذلك بمثلِ الكذب أو الاستطالةِ أو الخنوع والقبول بالهَوان، فكلُّ هذه المساوئ نشأتْ عن الانقيادِ لسلطان البطن والجسد.

علامة الخروج عن سلطان البطن:

وأمَّا الإنسانُ الذي يتحدَّث عنه الإمام (ع) ويُثني على كريم خصاله فهو في عافيةٍ من هذه المساوئ لأنَّه كما وصفَه الإمام (ع) خارجٌ عن سلطان بطنِه "فَلَا يَشْتَهِي مَا لَا يَجِدُ ولَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ" يعني وعلامةُ خروجِه من سلطان بطنِه أنَّه لا يشتهي ما لا يجد، فالمرغوباتُ التي ليست في متناولِه يغضُّ عنها، فلا تشغل اهتمامَه ولا يكترثُ أنَّه لا يجدُها، فهو في راحةٍ لخلوِّ نفسِه من الحزنِ والأسفِ على فواتِها، وهو في راحةٍ من ألمِ الحِرص على تحصيلِها، وهو في راحةٍ من مشاعر الحسدِ لمَن هو واجدٌ لها، فالحزنُ والأسفُ والحِرصُ والحسدُ أدواءٌ تنشأُ عن الشوقِ والرغبةِ الجامحةِ في ملذَّاتِ الدنيا ونعيمِها، فإذا تحرَّرَ الإنسانُ من سلطانِ الشوقِ والرغبةِ في ملذَّاتِ الدنيا ونعيمِها كان في راحةٍ مِن هذه الأدواء.

ولهذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: "حُرم الحريصُ خصلتين، ولزمته خصلتان: حُرم القناعة فافتقَدَ الراحة، وحُرم الرضا فافتقدَ اليقين"(8) يعني أنَّ الحريصَ محرومٌ من الشعور براحةِ النفس والبال فهو لا يفتأ يترقَّبُ ما لا يجد ويجتاحُه الغمُّ خشيةَ أنْ يفوته ما لا يجد، ويشعر بالحُزن والأسى والأسفِ لو فاتَه أو عجزَ عن نواله، ويقولُ الإمام عليٌّ (ع) فيما رُوي عنه: "إنَّ الدنيا مشغَلةٌ عن غيرها، ولم يُصبْ صاحبُها منها شيئاً إلا فتحتْ له حرصاً عليها ولهَجاً بها، ولنْ يستغنيَ صاحبُها بما نال فيها عمَّا لم يبلغْه منها"(9) يعني أنَّ الحريص على ملذَّات الدنيا ونعيمِها مشغولٌ عن غيرها، وحين يُصيبُ منها شيئاً فأنَّه يظلُّ مهموماً خشيةَ أنْ يضيع منه فهو يعضُّ عليه بالنواجذ، وقد يُعادي فيه القريبَ والبعيدَ، ويفرِّط في سبيل الاستمساك به بما يلزمُه من حقوق، وهو في ذاتِ الوقت لا يشعرُ بالرضا والقناعةِ بما في يدِه، فهو أبداً ساخطٌ يطمحُ في المزيد، وهذا هو معنى ما رُوي عن أمير المؤمنين (ع) أنَّ: "الحرصَ عناء مؤبَّد"(10) وأنَّ: "الحِرصَ مطيَّةُ التعب"(11) وأنَّ: الحريصَ فقيرٌ ولو ملك الدنيا بحذافيرها"(12) فهو لا يلتذُّ بما في يدِه لجشعِه وطمعِه فيما ليس في يدِه.

الرغبة الجامحة في الملذَّاتِ تُورث واجدَها داءَ الحسد:

وهكذا فإنَّ الرغبة الجامحةَ في ملذَّاتِ الدنيا ونعيمها تُورث واجدَها داءَ الحسد، وبذلك يُصبحُ محروماً من الشعور بالراحة، فهو في غيظٍ وحنَقٍ دائمٍ على مَن يراه يرفل في نعمةٍ هو محرومٌ منها، فالحسدُ يورثُ الحزن والحسرةَ والغيظَ والغضب والحقد والحنَق، فقلبُ الحاسد يغلي ليلَ نهار كالمِرجلِ على النار، وهذا هو معنى ما أفاده أميرُ المؤمنين(ع) أنَّ: "الحسدَ مطيَّةُ التعب"(13) وأفاد (ع) فيما رُوي عنه أنَّ: "الحسودَ دائمُ السقم وإنْ كان صحيحَ الجسم"(14) وأنَّ: "الحسودَ أبداً عليل"(15) ويقولُ (ع) فيما رُويَ عنه: "الحسد ينشئ الكمَد"(16) وهو أبلغُ مراتبِ الغيظ والحزن.

كلُّ ذلك لأنَّه يطمح فيما لا يجد، وأمَّا الخارج عن سلطان الدنيا فهو في راحةٍ من هذه الأدواء، لأنَّه كما أفاد الإمامُ الحسن المجتبى (ع): "لا يشتهي ما لا يجد".

ثم قال (ع): "ولَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ" يعني أنَّه لا يتجاوزُ فيما وجد حاجتَه، ولا يتناولُ منه ما يفوقُ حدَّ الاعتدال، وبهذا يكونُ الخارجُ عن سلطانِ الدنيا في عافيةٍ من رذيلتين: رذيلةِ النهَم والشرَه، ورذيلة الاسرافِ والتبذير

النهم والشرَه يصرف عن التقيُّد بالمباح:

أمَّا النهَمُ والشره فيعني الولَعَ الذي لا ينقطع، فكلَّما تزوَّد من الملذَّات اشتدَّت رغيته في تناولِها على خلاف طبعِ الإنسان السَّوي، فالشرِهُ النهِمُ بالطعام مثلاً هو مَن يأكلُّ إلى حدِّ الامتلاء دون أنْ يشعر بالشبع ودون أن تنقطع رغبتُه في المزيد، وهكذا هو الشرِه النهِم بمثل المال وسائرِ الملذَّات، فالنهَم والشرَه رُتبةٌ متقدِّمةٌ من داءِ الحرص والطمع، وهو أي الشرَه -كما أفاد أميرُ المؤمنين (ع) فيما رُوي عنه- "شرُّ العيوب"(17) و"سجيَّةُ الأرجاس"(18) و"رأس كلِّ دنية، "وأُسُّ كلِّ رذيلة"(19) ويقول (ع) فيما رُوي عنه: "الشرَه يشينُ النفس، ويُفسد الدين"(20) أمَّا أنَّه يشين النفس فلأنَّ واجد هذه السجيَّة المرذولة كالبهيمة همُّها علفُها فهو أسيرُ بطنه وفرجه ومُتعِه لا يشغل اهتمامَه غيرُها، وهو كذلك منبوذ لدى الأسوياء، وأمَّا أنَّه يُفسد الدين فلأنَّ واجد هذه السجيَّة لا يسعُه الصبر على ضوابطِ الدين وحدوده، ولهذا ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: "إيَّاك والشره، فإنَّه يُفسد الورع"(21) فولعُ الشرِه -الذي لا ينقطع- بالملذَّات يصرفُه عن التقيُّد بالمُباحِ منها، فهو مغرم منهوم بالاستزادة منها بأيِّ وسيلة اتَّفقت، لذلك فهو لا يُبالى في سبيلِ تحصيلها أنْ يظلمَ ويتعدَّى أو أن يذلَّ نفسَه ويمتهنَها، وهذا هو معنى ما رُوي عن أمير المؤمنين(ع) أنَّ: "الشرَه مذلةٌ"(22) وأنَّ: "من شرهت نفسُه ذلَّ موسرا"(23).

وأمَّا رذيلة الإسراف والتبذير والتي هي من آفات الانقياد لسلطان الدنيا فهي كذلك من أسوأ رذائل الأخلاق، ويكفي ما أفاده القرآنُ المجيد في وصف المبذرين بقوله: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾(24).

نستكمل الحديث حول الخطبة المأثورة عن الإمام الحسن المجتبى فيما بعد إنْ شاء الله تعالى.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَبْدِكَ وابْنِ رسولِك الَّذِي انْتَجَبْتَه بِعِلْمِكَ وجَعَلْتَه هَادِياً لِمَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ والدَّلِيلِ عَلَى مَنْ بَعَثْتَه بِرِسَالاتِكَ ودَيَّانِ الدِّينِ بِعَدْلِكَ وفَصْلِ قَضَائِكَ بَيْنَ خَلْقِكَ والْمُهَيْمِنِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّه والسَّلَامُ عَلَيْه ورَحْمَةُ اللَّه وبَرَكَاتُه

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد، واغفِرْ لعبادِك المؤمنين.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(25).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

11 من شهر صفر 1446هـ - الموافق 16 اغسطس 2024م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- الكافي -الكليني- ج2 / ص238.

2- جامع أحاديث الشيعة -البروجردي- ج 14 / ص5.

3- تنبيه الخواطر -ورامح- ص441.

4- جامع أحاديث الشيعة -البروجردي- ج 14 / ص64.

5- مستدرك الوسائل -النوري- ج12 / ص68.

6- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص369.

7- نهج البلاغة -حطب الإمام علي (ع)- ج4 / ص50.

8- الخصال -الصدوق- ص69.

9- نهج البلاغة -حطب الإمام علي (ع)- ج3 / ص79.

10- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص30.

11- جامع أحاديث الشيعة- البروجردي- ج14 / ص30.

12- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص 22.

13- ميزان الحكمة -الريشهري- ج1 / ص628.

14- جامع أحاديث الشيعة- البروجردي- ج13 / ص552.

15- جامع أحاديث الشيعة- البروجردي- ج13 / ص552.

16- جامع أحاديث الشيعة- البروجردي- ج13 / ص553. 

17- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص390.

18- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص43.

19- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص97.

20- ميزان الحكمة -الريشهري- ج2 / ص1446.

21- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص97.

22- ميزان الحكمة -الريشهري- ج2 / ص1446.

23- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص455.

24- سورة الإسراء / 27.

25- سورة الكوثر.