تفنيدُ دعوى صحَّة التعبُّد بكلِّ الأديان

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، الحمد لله الالهِ القدوس، يُسبِّح له ما في السماواتِ والأرض طائعين غيرَ مكرهين، وكلُّ شيءٍ يُسبح بحمده ولكنْ لا يعلمُ الخلائقُ تسبيحَهم، اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وأعطه الوسيلةَ والفضيلةَ، والمكانَ الرفيعَ والغبطةَ، وشرفَ المنتهى، والنصيبَ الأوفى، والغايةَ القصوى، والرفيعَ الأعلى، حتى يرضى، وزدْه بعد الرضا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهد أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله واعلموا أنَّ أكمل المؤمنينَ إيماناً أحسنُهم خلقا وأعظمُهم حلما، وأبرُّهم بقرابته، وأشدُّهم من نفسِه إنصافاً.

أمَّا بعدُ فيقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1).

استدلَّ بعضُهم بهذه الآية المباركة على دعوى صحَّة التعبُّد بكلِّ الأديان بتقريب أنَّ الآية وعدتْ اليهود والنصارى والصابئين بالأجر عند ربِّهم وأنَّه لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، فلو لم يصح ما هم عليه من أديان لَمَا استحقُّوا الأجرَ والوعدَ بالأمن من العقاب يوم القيامة.

الجواب على الاستدلال بالآية على صحَّة التعبُّد بالأديان:

والجواب عن ذلك أنَّ الآية المباركة أجنبيَّةٌ تماماً عن هذا الفهم، فهي بصدد الدفع لشبهةٍ قد تعلقُ في الأذهان، وهي أنَّه إذا كان اللهُ تعالى لا يقبلُ من عباده التديُّن بغير الإسلام والإيمان بالرسول الكريم (ص) فما هو مصيرُ مَن سبَق المبعثَ النبوي وكذلك مَن لم تصلهم دعوةُ النبيِّ (ص)؟ فهل جميعهم محرومون من نعيم الله في الآخرة ومحكومٌ عليهم بالعذاب في جهنَّم؟

فتصدَّت الآية للجواب عن هذه الشبهة، وأفادت أنَّ الذين لم يُدركوا المبعثَ النبويَّ أو لم تصلْهم الدعوةُ ولكنَّهم كانوا يؤمنون بالله بمقتضى فطرتهم ويعملونَ الصالحات التي تقتضيها الفطرة، فهؤلاء لا خوفٌ عليهم وسوف يمنحُهم الله تعالى أجرَه وفضلَه يوم القيامة، وهذا الصنفُ من الناس يُعرَفون بالحنيفيين الذين التزموا بمقتضيات العقل الفطري الذي ينبذُ الشركَ وعبادةَ الأوثان، ويستهجنُ السجودَ للأصنام أو غيرِها من المعبودات المصطنعة، وكذلك التزموا بعمل الصالحات التي تنسجمُ ومقتضيات الفطرة كالإنصاف والإحسان والصدق والأمانة، وتركوا ما تنفرُ منه الطباعُ السليمة والفطرةُ القويمة مثل الظلم والكذب والفواحشِ الظاهرة، فهؤلاء لن يكونوا محرومين من نعيم الله تعالى في الآخرة رغم أنَّهم لم يُدركوا النبيَّ (ص) ولم يتديَّنوا بدين الإسلام.

وكذلك فإنَّ اليهودَ والنصارى والصابئين ممَّن لم يُدرك النبيَّ (ص) أو أدركوه ولكن لم تصلْهم دعوتُه فإنَّ الله تعالى لن يحرمَهم أجرَه، وسوف يكونُ مآلُهم الجنَّة ولكنَّ ذلك مشروطٌ بأنْ يكونوا ممَّن آمن بالله تعالى وحده، وآمَن باليوم الآخر، وعمل صالحاً.

فمفادُ الآية أنَّ النجاة والفوز بالنعيم في الآخرة لن يحظى بهما مطلق المنتسبين لليهود والنصارى والصابئين وإنَّما سيحظى بهما خصوص مَن آمنَ منهم بالله فلم يشركْ به شيئا، وآمن باليوم الآخر وعمل صالحاً، فمؤدَّى الآيةِ المباركة أنَّ الانتساب لهذه الديانات ليس موجباً بنفسه للنجاة كما أنَّه ليس سبباً للحرمان من النجاة، فالموجبُ -حصراً- لفوز المنتسبين لهذه الديانات بالنعيم في الآخرة ليس هو مجرَّد الانتساب لهذه الديانات وإنَّما هو الإيمانُ الخالص لله تعالى -المقتضي للعبوديَّة الخالصة له- والايمانُ باليوم الآخر، وعملُ الصالحات.

الآيةُ بصدد التعريف بمصائر أتباع الديانات قبل المبعث:

هذا هو المستظهَرُ من مفاد الآية المباركة، فهي بصدد التعريف بمصائر المؤمنين وأتباع الديانات التي سبقت المبعثَ النبويَّ أو الذين لم تصل إليهم الدعوةُ النبويَّة، فهي بذلك تدفع توهُّماً قد يعلقُ في الأذهان بأنَّ كلَّ مَن لم يعتنق الإسلام فمآلُه الخسران يوم القيامة، فالناس قد تعلمُ أنَّ الله تعالى لكمال عدلِه لن يُعذِّبَ أحداً لم يُدرك زمن الدعوة أو لم تصلْه ولكنَّها لا تعلمُ أنَّ الله تعالى هل سيمنحُ جنَّته لمَن لم يُؤمن بدعوة النبيِّ (ص) لعدم إدراكه لزمنِها أو عدم وصولِها إليه فتصدَّت الآيةُ لبيان أنَّ الله تعالى سوف يمنحُ جنَّته للمؤمنين بالفطرة ولأتباع الديانات إذا كانوا يُؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملونَ الصالحات.

التأييد بما ورد في أسباب النزول:

ويُؤيِّد ما ذكرناه من أنَّ الآية بصدد التعريف بمصائر مَن لم يُدرك المبعثَ النبويَّ الشريف ما ورد في سبب نزول الآية المباركة وأنَّها نزلت بعد سؤال سلمان الفارسي عن مصير المؤمنين بالديانات السابقة قبل المبعث وقال مخاطباً النبيَّ (ص) إنَّهم كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنَّك ستُبعث نبيَّاً ولو أدركوك صدَّقوك واتَّبعوك فأنزل الله هذه الآية(2).

وورد من طريقٍ آخر أنَّ سلمان الفارسي سأل النبيَّ (ص) عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالِهم .. فنزلت هذه الآية، فدعا النبيُّ (ص) سلمان فقال: "نزلت هذه الآيةُ في أصحابك" ثم قال النبيُّ (ص): "مَن مات على دينِ عيسى ومات على الاسلام قبل أن يسمعَ بي فهو على خير، ومَن سمِع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك"(3).

فالآية إذن بصدد التعريف بمصائر المؤمنين وأتباع الديانات السابقة قبل المبعثِ النبويِّ الشريف، وليست بصدد التصحيح للتعبُّد بمطلق الديانات حتى بعد مجيء الإسلام كما توهَّم صاحبُ هذه الدعوى.

لا يصحُّ فهمُ الآية بقطع النظر عن الآيات الأخرى:

على أنَّه لو تمَّ التسليم بظهور الآية بدواً في أنَّ كلَّ مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فهو من الناجين في الآخرة وإنْ لم يؤمن بالإسلام ونبيِّ الإسلام (ص) لو تمَّ التسليم جدلاً بالظهور البدوي للآية في ذلك فإنَّه يتعيَّنُ الجزمُ بعدم كون هذا الظهور مُراداً للآية، وذلك لأنَّ الظهور الذي يصحُّ اعتمادُه والاحتجاجُ به هو الظهورُ النهائي المستنِدُ إلى ملاحظة مجمل كلام المتكلِّم فلا يصحُّ -كما هي طريقة العقلاء- اجتزاءُ كلام المتكلم وترتيبُ الأثر عليه دون ملاحظة مُجملِ كلامِه وملاحظةِ القرائن المكتنفة به. فلا يصحُّ استظهارُ معنىً من آيةٍ وترتيبُ الأثر عليه بقطع النظر عن سائرِ الآيات والقرائنِ السِّياقيَّة والقرائنِ المحيطة بالآيات.

آياتُ القرآن صريحةٌ في عدم صحَّة التعبُّد بغير دين نبيِّ الإسلام:

فلا يصحُّ فهم الآية المذكورة بقطع النظر عن مثل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ / وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾(4) فالآيةُ وصفتْ مَن لم يُؤمِنْ بما أُنزلَ على محمدٍ (ص) بالكفَّار وأنَّ الله تعالى قد أضلَّ أعمالَهم أي أنَّه أبطلَها ولم يقبلها، فلو كان يصحُّ التعبُّدُ بكلِّ دين في مقابل دينِ النبيِّ محمدٍ (ص) فكيف وصفت الآيةُ مَن لم يُؤمن بما نزِّل على محمَّدٍ (ص) بالكفَّار، وأفادت أنَّ الله تعالى قد أضلَّ أعمالَهم وأبطلَها.

وكذلك هو الشأنُ في مثل قوله تعالى: ﴿قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ / فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(5) فمفادُ الآيتين صريحاً أنَّ المتعيّن على الناس هو الإيمانُ بالله والإيمانُ بما أُنزل على النبيِّ الكريم (ص) وما أُنزل على عموم الأنبياء، ثم أفادت الآيةُ أنَّ من آمن بمثل ما آمنتم به أيُّها المسلمون فقد اهتدوا ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ فالهدايةُ -في صريح الآية- منحصرةٌ في الإيمان بمثل ما آمنتم به وهو الإيمانُ بالله وما أنزل على النبيِّ (ص) وما أنزل على سائر الأنبياء، والمقابلُ لذلك شقاقٌ وضلال. 

وهكذا هو مفادُ قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ -يا محمد- الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾(6) فالذي يجحدُ بما أُنزل إلى الرسول الكريم (ص) كافرٌ بمقتضى صريح الآية، فلو كان يصحُّ منه التديُّنُ بمثل الديانة المسيحيَّة أو المجوسيَّة فكيف يُشنِّع عليه القرآنُ المجيد ويصفُه بالكافر؟!

ويقولُ الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾(7) فكلُّ أتباع الديانات لا يؤمنون بالقرآن وبما أُنزل على النبيِّ الكريم (ص) من آيات بيِّنات، ويرون النبيَّ (ص) -والعياذ بالله- كاذباً أو مخطئاً فيما يدَّعيه من نزول الآيات عليه، فلو كان يصحُّ التديُّنُ بمختلف الديانات فلماذا تصفُ الآية الجاحدين بما أُنزل على النبيِّ (ص) بالكافرين والفاسقين.

ويقولُ الله تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾(8).

ويقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾(9) فالهدايةُ بحسب صريح الآيتين منحصرةٌ في اتِّباع النبيِّ الكريم (ص) واتِّباع الكتاب الذي أُنزل عليه، وكلُّ من لم يكن كذلك من أهل الكتاب والأمِّيين فهو على ضلالٍ بمقتضى صريح الآية.

ويقولُ تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا / مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا / خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾(10) فكلُّ مَن أعرض عن الذكر الذي آتاه اللهُ نبيَّه (ص) وهو القرآن ﴿فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا / خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾ فالآياتُ صريحة في أنَّ المُعرضين عن القرآن الجاحدينَ له لنْ يحظَوا بالنجاة، وسيكونُ مآلُهم جهنَّمَ خالدين فيها، ومن الواضح البيِّن أنَّ أصحابَ الديانات يجحدون نبوَّة النبيِّ (ص) ويجحدون القرآنَ الذي أُنزل عليه، وقد صرَّحت الآياتُ أنَّ جحودَهم سيسوقهم إلى الخلود في الجحيم، فلو كان يصحُّ التديُّن بالديانات الأخرى فإنَّه لا مسوِّغ لمعاقبة المتديِّن بواحدٍ منها.

ويقولُ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾(11) فالآية تُخاطب اليهود والنصارى وتأمرُهم بالإيمان بالقرآن المنزَّلِ على النبيِّ الكريم (ص) وتُحذِّرُهم من عدم الاستجابة لهذا الأمر وأنَّ العاقبة التي تنتظرُهم إنْ لم يؤمنوا بما نُزِّل على النبيِّ الكريم (ص) هي الطمسُ لوجوههم يعني إغراقهم في الضلال واللعن والطرد من رحمة الله تعالى، فلو كان يصحُّ التعبُّد باليهوديَّة والنصرانيَّة بعد المبعث النبويِّ الشريف لما كان ثمة مساغٌ لتهديدهم باللَّعن والطمس في الضلال.

فهذه الآيات -وغيرها كثير- يضيق المجال عن استقصائها، هذه الآيات تدلُّ على أنَّه لا يسعُ من أحدٍ بعد المبعث النبويِّ الشريف أن يتديَّن بغير دين الإسلام الذي صدعَ به النبيُّ الكريم (ص) وأنَّ أحداً لن يحظى بنعيم الله في الآخرة إذا لم يكن يتديَّنُ بدين الإسلام الذي أُنزل على النبيِّ محمَّدٍ (ص)

وعليه يتعيَّنُ حملُ الآية التي تمسَّك بها صاحبُ الشبهة لإثبات دعواه، يتعيَّن حملُها إمَّا على نجاة أتباع الديانات قبل المبعث النبويِّ الشريف أو حملُها على إرادة أنَّ اليهود والنصاري والصابئين سيحظون بالنجاة والفوز في الآخرة إذا آمنوا بالله واتَّبعوا ما أُنزل على نبيِّه محمَّد (ص) والذي يُوجب تعيُّن حملِها على إرادة ذلك هو ملاحظة الآية في إطار مجموع آياتِ القرآن المجيد، فتلك هي طريقة العقلاء في مقام التعرُّف على مقاصد كلام المتكلِّمين، فلا يصحُّ اجتزاءُ الكلام وفهمُه بقطع النظر عن مجموع كلام المتكلِّم، كما لا يصحُّ فهمُ الكلام مجرَّداً عن القرائن المكتنفةِ به.

سيرةُ النبيِّ (ص) مع أصحاب الديانات:

فكيف يتمُّ البناءُ على أنَّ مفاد الآية هو صحَّة التعبُّد بمختلف الأديان والحال أنَّ النبيَّ الكريم (ص) الصادع بهذه الآية ظلَّ طوال دعوتِه يدعو أتباع الديانات لترك دياناتهم واتِّباع الدين الذي جاء به من عند الله ويُحذِّرُهم من الجحود والعناد، وآنَّ مآلَ ذلك هو سخطُ الله وعذابُه في الآخرة، وكان يحتجُّ عليهم بمختلف الحُجج، وكان يؤكِّد أنَّه لو كان موسى(ع) حيَّاً لما وسِعَه إلا اتِّباعي(12) وقد دعا نصارى نجران للمباهلة وأنْ يُنزلَ اللهُ تعالى لعنتَه وعذابه العاجل على المُبطل. فلو كان يصحُّ التعبُّد بمختلف الديانات لأقرَّهم على دياناتِهم ولم يكثرْ بينَه وبينهم السجالُ والمنابذة.

نجاةُ القاصرين لا يعني صحَّة ما هم عليه:

أختم بالإشارة إلى أنَّ القاصرين من أتباع الديانات المختلفة لضعف مداركهم أو الذين لم تصلْهم دعوةُ النبيِّ الكريم (ص) مثلُ هؤلاء معذورون فيما هم عليه من التديُّن بغير دين الإسلام فلا يُعذَّبون يوم القيامة لكنَّ ذلك لا يعني صحَّة ما هم عليه من دين، فهم على ضلالٍ وعلى خلاف الحقِّ والواقع إلا أنَّهم غير مستحقِّين للعذاب لقصورهم، فإنَّ الله تعالى لكمال عدلِه لا يُعذِّبُ من أحدٍ لم تقمْ عليه الحجَّة.

اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّدٍ واغفر لعبادك المؤمنين.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(13).

والحمد لله ربِّ العالمين

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

25 من شهر صفر 1446هـ - الموافق 30 اغسطس 2024م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة البقرة / 62.

2- جامع البيان -الطبري- ج1 / ص460، الدر المنثور -السيوطي- ج1 / ص74.

3-جامع البيان -الطبري- ج1 / ص461، الدر المنثور -السيوطي- ج1 / ص74.

4- سورة محمد / 1-2.

5- سورة البقرة / 136-137.

6- سورة العنكبوت / 47.

7- سورة البقرة / 99.

8- سورة آل عمران / 20.

9- سورة الزمر / 41.

10- سورة طه / 99-101.

11- سورة النساء / 47.

12- الدعوات -الراوندي- ص170، شعب الإيمان -البيهقي- ج1 / ص200.

13- سورة الكوثر.