معنى قول الهادي (ع) لابنه: "أحدِثْ لله شكراً فقد أحدَثَ فيكَ أمراً"
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ورد في أكثر من رواية أنَّ الإمام الهادي (ع) خاطب ابنه الإمام العسكري (ع) بعد موت أبي جعفرٍ محمد بن علي الهادي رحمه الله خاطبَه بقوله: "يَا بُنَيَّ أَحْدِثْ لِلَّه عَزَّ وجَلَّ شُكْراً فَقَدْ أَحْدَثَ فِيكَ أَمْراً .." فما معنى ذلك هل معناه أنَّ أبا جعفرٍ محمد ابن الهادي كان من المُفترض أنْ يكون هو الإمام إلا أنَّه حيث مات في حياة أبيه الهادي (ع) لذلك صارت الإمامة في الإمام الحسن العسكري (ع)؟
الجواب:
نصُّ الروايات:
نصُّ الرواية المشار إليها كما في الكافي عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وغَيْره عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ الأَفْطَسُ أَنَّهُمْ حَضَرُوا -يَوْمَ تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ- بَابَ أَبِي الْحَسَنِ يُعَزُّونَه وقَدْ بُسِطَ لَه فِي صَحْنِ دَارِه والنَّاسُ جُلُوسٌ حَوْلَه، فَقَالُوا: قَدَّرْنَا أَنْ يَكُونَ حَوْلَه مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ وبَنِي هَاشِمٍ وقُرَيْشٍ مِائَةٌ وخَمْسُونَ رَجُلاً سِوَى مَوَالِيه وسَائِرِ النَّاسِ، إِذْ نَظَرَ إلى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَدْ جَاءَ مَشْقُوقَ الْجَيْبِ حَتَّى قَامَ عَنْ يَمِينِه ونَحْنُ لَا نَعْرِفُه فَنَظَرَ إِلَيْه أَبُو الْحَسَنِ (ع) بَعْدَ سَاعَةٍ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَحْدِثْ لِلَّه عَزَّ وجَلَّ شُكْراً فَقَدْ أَحْدَثَ فِيكَ أَمْراً، فَبَكَى الْفَتَى وحَمِدَ اللَّه واسْتَرْجَعَ وقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ وأَنَا أَسْأَلُ اللَّه تَمَامَ نِعَمِه لَنَا فِيكَ وإِنَّا لِلَّه وإِنَّا إِلَيْه رَاجِعُونَ، فَسَأَلْنَا عَنْه فَقِيلَ: هَذَا الْحَسَنُ ابْنُه وقَدَّرْنَا لَه فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَرْجَحَ فَيَوْمَئِذٍ عَرَفْنَاه وعَلِمْنَا أَنَّه قَدْ أَشَارَ إِلَيْه بِالإِمَامَةِ وأَقَامَه مَقَامَه"(1).
وأوردَ من طريقٍ آخر عن علي بن محمد عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كُنْتُ حَاضِراً أَبَا الْحَسَنِ (ع) لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُه مُحَمَّدٌ فَقَالَ لِلْحَسَنِ: يَا بُنَيَّ أَحْدِثْ لِلَّه شُكْراً فَقَدْ أَحْدَثَ فِيكَ أَمْراً"(2).
وأورد كذلك من طريقٍ ثالث عن الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَرْوَانَ الأَنْبَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ حَاضِراً عِنْدَ مُضِيِّ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) فَجَاءَ أَبُو الْحَسَنِ (ع) فَوُضِعَ لَه كُرْسِيٌّ فَجَلَسَ عَلَيْه وحَوْلَه أَهْلُ بَيْتِه وأَبُو مُحَمَّدٍ قَائِمٌ فِي نَاحِيَةٍ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ أَبِي جَعْفَرٍ الْتَفَتَ إلى أَبِي مُحَمَّدٍ (ع) فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَحْدِثْ لِلَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى شُكْراً فَقَدْ أَحْدَثَ فِيكَ أَمْراً"(3).
وأورد الشيخُ الطوسي في كتاب الغيبة عن محمَّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن ابن أبي الصهبان قال: لمَّا مات أبو جعفر محمَّدُ بنُ عليِّ بن محمد بن علي بن موسى (عليهم السلام) وُضع لأبي الحسن عليِّ بن محمد (عليهما السلام) كرسيٌّ فجلس عليه، وكان أبو محمدٍ الحسنُ بن عليٍّ (عليه السلام) قائماً في ناحية فلمَّا فُرغ من غسل أبي جعفر التفتَ أبو الحسن إلى أبي محمد (عليهما السلام). فقال: يا بُني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً"(4).
تفسيرُ الفقرة المذكورة:
ومعنى قول الإمام الهادي للإمام العسكري (ع): "يَا بُنَيَّ أَحْدِثْ لِلَّه عَزَّ وجَلَّ شُكْراً فَقَدْ أَحْدَثَ فِيكَ أَمْراً" هو أنَّ موت أبي جعفر محمد بن علي رحمه الله في حياة أبيه الهادي (ع) قد بدَّد الوهمَ الذي كان يتوهَّمه بعضُ الشيعة من أنَّ الإمامة ستئول إليه بعد الهادي (ع) نظراً لكونه أكبر سنَّاً من أخيه الإمام الحسن العسكري (ع).
فموتُ أبي جعفر محمَّد بن عليٍّ رحمه الله وإنْ كان مفجِعاً ولكنَّه رغم ذلك هو مِن النعم التي تستحقُّ من أبي محمدٍ العسكريِّ (ع) الشكرَ لله تعالى، فقد كُفيَ مؤنة الاشتغال برفع هذه الشبهة بعد أبيه. فهذا هو معنى الرواية فليس معناها أنَّ أبا جعفرٍ رحمه الله مستحقٌّ للإمامة أو هو الأجدر بها لولا موتُه في حياة أبيه بل معنى الرواية أنَّه لو بقيَ إلى ما بعد وفاة أبيه الهادي (ع) لأشتبه على بعض الشيعة فاعتقدوا بإمامته نظراً لكونه الأكبر سنَّاً، فلأنَّه مات في حياة أبيه فقد ارتفعت الشبهة عن المتوهِّمين، وذلك في حدِّ نفسِه نعمةٌ ولطفٌ من الله تعالى، وكذلك هي نعمةٌ من الله تعالى على الامام الحسن العسكري (ع) لأنَّه لن يكون بحاجة إلى الاشتغال برفع الشبهة عن الناس، لهذا خاطبه الإمام الهادي (ع) بقوله: "يا بُني أحدثْ لله شكراً فقد أحدثَ فيك أمراً" يعني جدِّدْ لله تعالى الشكر لأنَّه قد كفاك مؤنةَ مَن سيشغبُ عليك بعد موت أبيك من الناس ومؤنة الاشتغال برفع الشبهة عنهم، فمنشأ الشبهة هو وجود أبي جعفر رحمه الله وحيث إنَّه قد اختاره الله تعالى في حياة أبيه لذلك لن يكون ثمة ما يُوجب الاشتباه وذلك ما يستحقُّ الشكرَ لله تعالى.
فإمامة الإمام الحسن العسكري (ع) ثابتةٌ له بعد أبيه (ع) سواءً مات أبو جعفرٍ رحمه الله في حياة أبيه أو مات بعد أبيه، غايته أنَّ موته في حياة أبيه كشف للمتوهِّمين أنَّه لم يكن الإمام (ع) واقعاً وأنَّ اعتقادهم أو ظنَّهم بإمامته كان وهماً خاطئاً، فعنايةُ الله تعالى ولطفُه بعباده اقتضى قبضَ روحه في حياة أبيه ليكشف للمتوهِّمين فسادَ وهمِهم وأنَّ الله تعالى لم يجعل له الإمامة من أول الأمر ولم يدَّخرْها له بعد أبيه.
التأييد برواية أبي هاشم الجعفري:
ويُؤيد ما ذكرناه من معنى الفقرة المذكورة ما أورده الكليني في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ (ع) بَعْدَ مَا مَضَى ابْنُه أَبُو جَعْفَرٍ، وإِنِّي لأُفَكِّرُ فِي نَفْسِي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ كَأَنَّهُمَا أَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ وأَبَا مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ - كَأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى وإِسْمَاعِيلَ ابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (ع) وإِنَّ قِصَّتَهُمَا كَقِصَّتِهِمَا، إِذْ كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُرْجَى بَعْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) فَأَقْبَلَ عَلَيَّ أَبُو الْحَسَنِ (ع) قَبْلَ أَنْ أَنْطِقَ فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا هَاشِمٍ بَدَا لِلَّه فِي أَبِي مُحَمَّدٍ بَعْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) مَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ لَه كَمَا بَدَا لَه فِي مُوسَى بَعْدَ مُضِيِّ إِسْمَاعِيلَ مَا كَشَفَ بِه عَنْ حَالِه وهُوَ كَمَا حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ وإِنْ كَرِه الْمُبْطِلُونَ، وأَبُو مُحَمَّدٍ ابْنِي الْخَلَفُ مِنْ بَعْدِي عِنْدَه عِلْمُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْه ومَعَه آلَةُ الإِمَامَةِ"(5).
فالروايةُ صريحةٌ في المطلوب فقد صرَّح الإمام أبو الحسن الهادي (ع) في ذيلها بقوله: "وأَبُو مُحَمَّدٍ ابْنِي الْخَلَفُ مِنْ بَعْدِي عِنْدَه عِلْمُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْه ومَعَه آلَةُ الإِمَامَةِ"، وأمَّا قوله (ع) "بدا لله في أبي محمد .." فمعناه أنَّ الله تعالى كشفَ بموت أبي جعفر محمد بن عليٍّ (رحمه الله) في حياة أبيه أنَّ إرادته تعالى هي جعلُ الإمامة في أبي محمدٍ الحسن(ع) على خلاف ما يظنُّه الواهمون تماماً كما كشفَ بموت إسماعيل ابن الصادق عن أنَّ إرادته تعالى قد تعلَّقت بجعل الإمامة بعد الصادق (ع) في ابنِه موسى الكاظم (ع) على خلاف ما يظنُّه الواهمون. فالبداء لله -كما هو محرَّرٌ في محلِّه- يعني الكشفَ والإظهار بعد الخفاء. وليس هو بمعنى التغيير لما هو مقرَّر واستبداله بأمرٍ آخر.
تسميةُ العسكريِّ في الروايات المتواترة عن الرسول (ص) والأئمة السابقين:
والذي يدلُّ على ذلك مضافاً للروايات المتواترة الواردة عن النبيِّ الكريم (ص) والأئمة السابقين (ع) والتي تصدَّت لتسمية الإمام الحسن العسكري (ع) باسمه واسم أبيه ضمن الأئمة الاثني عشر (ع) والروايات الخاصَّة التي نصَّ فيها الإمام الرضا والجواد والهادي (ع) على إمامة الحسن العسكري (ع) وقد نقلنا عدداً وافراً منها في كتاب تواتر النصِّ على الأئمة (ع) فمضافاً إلى ذلك فقد وردت العديدُ من الروايات التي نصَّ فيها الإمامُ الهادي (ع) على إمامة ابنه الحسنِ العسكري (ع) في حياة أخيه أبي جعفرٍ محمد بن عليٍّ (رحمه الله) فمِن ذلك:
النصُّ على إمامة العسكريِّ في حياة أخيه:
ما رواه الشيخُ الطوسي في كتاب الغيبة عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن عيسى العلوي من ولد عليِّ بن جعفر قال: دخلتُ على أبي الحسن (عليه السلام) بصريا فسلَّمنا عليه، فإذا نحن بأبي جعفرٍ وأبي محمَّدٍ قد دخلا، فقمنا إلى أبي جعفرٍ لنُسلِّمَ عليه، فقال أبو الحسن -الهادي- (عليه السلام): ليس هذا صاحبَكم، عليكم بصاحبِكم، وأشار إلى أبي محمَّدٍ -الحسن- (عليه السلام)"(6).
أقول: الرواية صريحةٌ في المطلوب، فإنَّ أحمد بن عيسى ومَن كان معه كانوا يتوهَّمون أنَّ الإمام بعد أبي الحسن الهادي (ع) هو ابنُه أبو جعفرٍ محمد بن عليٍّ رحمه الله نظراً لتقدُّمه في السنِّ على أخيه الحسن (ع) لذلك أرادوا تمييزه بالتحيَّة والسلام، فتصدَّى الإمامُ أبو الحسن الهادي (ع) لتبديد هذا الوهم، فنفى عن محمَّدٍ ابنه الإمامةَ بقوله: "ليس هذا صاحبكم" ثم أشار إلى ابنِه أبي محمَّدٍ الحسن العسكريِّ (ع) وقال لهم: "عليكم بصاحبِكم".
ومنه: ما أورده الكلينيُّ في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيِّ عَنْ بَشَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَصْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ النَّوْفَلِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الْحَسَنِ -الهادي- (ع) فِي صَحْنِ دَارِه فَمَرَّ بِنَا مُحَمَّدٌ ابْنُه فَقُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا صَاحِبُنَا بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: لَا، صَاحِبُكُمْ بَعْدِيَ الْحَسَنُ"(7).
وأورد الشيخُ الطوسي الرواية في كتاب الغيبة بسنده عن سعد بن عبد الله، عن جعفر بن محمد بن مالك، عن سيَّار بن محمد البصري، عن عليِّ بن عمر النوفلي قال: كنتُ مع أبي الحسن العسكري (عليه السلام) في داره فمرَّ عليه أبو جعفر، فقلتُ له: هذا صاحبُنا؟. فقال: لا، صاحبُكم الحسن"(8).
أقول: الرواية صريحةٌ في المطلوب، فالسائلُ كان يحتملُ أنَّ محمَّدَ بن عليٍّ رحمه الله هو الإمام فنفى أبو الحسن الهادي (ع) هذا الوهم ونصَّ على أنَّ صاحبَ الأمر بعده هو ابنُه الحسن (ع).
ولمزيد من البيان لاحظ ما ذكرناه في الملحق الثالث من كتاب تواتر النصِّ على الأئمة (ع) تحت عنوان: شبهة دعوى النص على إسماعيل.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
8 / ربيع الأول / 1446ه
12 / سبتمبر / 2024م
1- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص327
2- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص326.
3-الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص326، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص316
4- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص203.
5-الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص327، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص319.
6-الغيبة -الشيخ الطوسي- ص199.
7- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص326.
8- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص199.