معنى: أَيْنَ صَدْرُ الخَلائِقِ ذُو البِرِّ وَالتَّقْوى

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في دعاء الندبة: "أَيْنَ صَدْرُ الخَلائِقِ ذُو البِرِّ وَالتَّقْوى"(1) فما معنى هذه الفقرة؟ ومن هو صدر الخلائق؟

الجواب:

صدرُ الخلائق هو الإمام المهدي بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف

مدلول الاستفهام بأين:

وفقرةُ: "أَيْنَ صَدْرُ الخَلائِقِ ذُو البِرِّ وَالتَّقْوى" جملةٌ استفهاميَّة، والجملةُ الاستفهاميَّة المصدَّرة بكلمة "أين" يُطلبُ بها التعرُّف على مكان تواجد المسئول عنه، فحين يُقال: أين زيدٌ؟ فإنَّ الغرض من ذلك هو السؤال عن مكان تواجد زيد.

من موارد استعمال الاستفهام بأين:

هذا هو المعنى الحقيقي لجملة الاستفهام بكلمة "أين" ولكنَّه قد تُستعمل مجازاً في غير الاستفهام أي في غير طلب الفهم والسؤال عن مكان التواجد كما في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾(3) فإنَّ الغاية من السؤال بأين في الآيتين ليس هو الاستفهام بل الغاية من ذلك هو التوبيخ والتقريع للمخاطَب.

وقد تُستعمل الجملة المصدَّرة بأين لغرض التحذير والوعظ والتنبيه كقول أمير المؤمنين(ع) كما في نهج البلاغة: "أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَة، أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ، أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ، وأَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ، وأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ، أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وهَزَمُوا بِالأُلُوفِ، وعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ ومَدَّنُوا الْمَدَائِنَ"(4) فالغاية من الاستفهام بأين في هذا النصِّ الشريف هو التذكير والوعظ والتنبيه.

وقد تُستعمل الجملة المصدَّرة بأين لغرض التحسُّر والتعبير عن الشوق وشدَّة التلهُّف، وهذا المعنى هو ما استُعمِلتْ له فقرة: "أَيْنَ صَدْرُ الخَلائِقِ ذُو البِرِّ وَالتَّقْوى" فإنَّ الغاية ظاهراً من سَوْق مثل هذه الفقرة في دعاء الندبة هو التعبير عن الحسرة والحُزن والكآبة الناشئة عن التلهُّف والاشتياق إلى لقاء صدر الخلائق والنظر إلى محيَّاه والتيمُن بفيض حضوره.

معنى صدر الخلائق:

ومعنى صدرِ الخلائق هو المقدَّمُ عليها تماماً كما هو الصدر من كلِّ شيء، وذلك في مقابل الظَهر والذي يكون في الخلف، وفي مقابل الذيل الذي يكون في الطرف الأخير من كلِّ شيء، فصدرُ الخلائق هو مَن كان في موضع الطليعة والصدارة من الخلائق، ومفادُ إضافة الخلائق إلى الصدر هو تحديد الدائرة التي يكون الإمام (ع) منها في موضع الصدارة، فالإمامُ (ع) بمقتضى مدلول الإضافة صدرٌ لعموم الخلائق.

فالمراد من هذا الوصف هو أنَّه (ع) إمام الخلائق أو أنَّه الأفضلُ من بينها، فمثلُ هذا الوصف المركَّب يُستعملُ ويُراد منه المعنى الأول أعني الإمامة، وقد يُستعمل ويُراد منه التفضيل، وذلك يتحدَّدُ من ملاحظة المضاف إلى الصدر، فحين يُوصفُ أحدُهم بصدر الدولة -مثلاً- فإنَّ المستظهَر من ذلك هو أنَّه رئيسها وسائسها وصاحبُ الأمر والنهي فيها، وحين يُوصف أحدٌ -مثلاً- بصدر العلماء، فإنَّ المستظهَر من هذا الوصف هو إرادة القول أنَّه أفضلُ العلماء وأكثرُهم علماً وأجودُهم فهماً، وهكذا حين يُقال لأحدٍ أنَّه صدر الملَّة، فإنَّ المراد من ذلك -ظاهراً- هو أنَّه أفضل أهل ملَّته، فإنَّ الصدر وإنْ أُضيف إلى الملَّة لكنَّ المراد هو أهل الملَّة، وكذلك حين يُقال لأحدٍ أنَّه صدرُ الدين، فإنَّ المضاف إليه هو أهل الدين فيكون الغرض من وصف أحدٍ بأنَّه صدر الدين هو إفادةُ أنَّه الأفضل من بين المتدينين بالدين.

وعليه فيُحتمل أنَّ المراد مِن وصف الإمام الحجَّة (ع) في الدعاء المأثور بأنَّه صدرُ الخلائق هو أنَّه (ع) إمامُ الخلائق كما يُحتمل أنَّ المراد من هذا الوصف هو إفادةُ أنَّه (ع) أفضلُ الخلائق وأعظمُهم قدراً في زمانه، ولعلَّ كلا المعنيين مرادٌ من الفقرة المذكورة كما هو كذلك واقعاً فهو (ع) إمامُ الخلائق، وهو أفضلُهم في زمانِه على الإطلاق.

أين صدرُ الخلائفِ بالفاء:

هذا وقد ورد في بعض مصادر الدعاء بدلاً من الخلائق الخلائف هكذا: أين صدرُ الخلائفِ ذو البرِّ والتقوى"(5) والخلائف جمع خليفة كصحائف جمعُ صحيفة، وقد استعمَل القرآن هذا الجمع في مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾(6).

 فالخلائف وصفٌ لبني الإنسان الذي جعله الله تعالى خليفةً في الأرض كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(7) فالإنسان هو خليفة الله في الأرض والمكلف بتعميرها كما قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(8).

وعليه فوصفُ الإمام(ع) بأنَّه صدرُ الخلائف معناه أنَّه أفضل بني الإنسان وأعظمُهم شأناً عند الله تعالى أو أنَّه إمامُهم والمكلَّفُ بإدارة شؤونِهم، ومَن له الطاعةُ والأمرُ والنهيُ عليهم.

وقد يكون المراد من الخلائف هي الأمَّة التي جاءت خلفاً للأمة التي سبقتها، فكلُّ أمة يكون أبناؤها خلائف للأمة التي سبقتها وقد يكون المراد من الخلائف في الآية من سورة الأنعام هي أمَّة النبيِّ الكريم (ص) بصفته خاتم الأنبياء لخاتمة الأمم فأبناء أمَّة النبي الكريم (ص) هم خلائف الأمم الغابرة.

وعليه فمعنى وصف الإمام (ع) بصدر الخلائف هو أفضل الأمم المتعاقبة بناء على الاحتمال الأول وبناء على الاحتمال الثاني يكون المراد من وصف الإمام (ع) بصدر الخلائف أنَّه أفضل أمة الإسلام أو أنَّه أمام أمَّة الإسلام ومن له الطاعة والأمر والنهي عليها.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

2 / جمادى الأولى / 1446ه

5 / نوفمبر / 2024م


1- إقبال الأعمال -السيد ابن طاووس- ج1 / ص509.

2- سورة الشعراء / 92.

3- سورة القصص / 62.

4- نهج البلاغة -خطب الإمام على (ع)- ص263.

5- سورة المزار -المشهدي- ص579.

6- سورة الأنعام / 65.

7- سورة البقرة / 30.

8- سورة هود / 61.