مرجع الضمير في: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى من سورة الفتح: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا / لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾(1) على مَن يرجع الضمير في قوله تعالى: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ هل يرجع على الرسول الكريم (ص)؟
الجواب:
مرجع الضمير في قوله تعالى: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ هو الله جلَّ وعلا، إذ لا يليقُ التسبيح إلا لله سبحانه وتعالى، ويُؤيدُ ذلك أنَّ القرآن المجيد في جميع الآيات الكثيرة لم يأمر بالتسبيح إلا لله جلَّ وعلا، ولم يُسنِد التسبيح إلا لله عزَّ وجل، فمِن ذلك قوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا / وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾(2) وقوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾(4) وقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(6) وغيرها كثير.
فالمقصود من الضمير في قوله: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ هو اللهُ جلَّ وعلا دون إشكال، والظاهر -بحسب التتبع- أنَّه لم يقع خلافٌ في ذلك بين عامَّة المفسِّرين من الفريقين(7).
ومفادُ الآيتين أنَّ الله تعالى أرسلَ النبيَّ الكريم (ص) مبشِّراً ونذيرا لتُؤمنوا بالله ورسوله، ولتعزِّروه، ولتوقِّروه، ولتسبِّحوه، فاللام في قوله: ﴿لِتُؤْمِنُوا ..﴾ للتعليل وجملة: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾ معطوفة على جملة: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وكذلك هو الشأنُ في جملة: ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ وجملة: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ فهي جُمَلٌ معطوفة على قوله تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا ..﴾.
اتِّحاد مرجع الضمائر المتعاقبة في الآية:
وهنا قد يطرأ إشكالٌ في الذهن وهو أنَّ الضمير في قوله: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ إذا كان عائداً على الله تعالى فإنَّ ذلك يستلزم اختلاف مرجع الضمائر الواردة في الأفعال المتعاقبة في الآية فيكون مرجعُ الضمير في قوله تعالى: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ عائداً على الرسول (ص) ومرجعُ الضمير في: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ عائداً على اسم الله فاختلف مرجعُ الضمير في الأفعال المتعاقبة رغم أنَّها واردة في نسقٍ وسياقٍ واحد
والجواب:
أنَّه يمكن الالتزام بكون الضمائر في الأفعال المتعاقبة عائدةً جميعاً على الله تعالى، وذلك بقرينة تعيُّن عود الضمير -يقيناً- في: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ على الله تعالى، فلأنَّ المناسب هو اتِّحاد مرجع الضمائر المتعاقبة لورودها في نسقٍ وسياقٍ واحد، ولأنَّ مِن المحرَز كون الضمير في: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ عاداً على الله تعالى لذلك فالمناسب هو البناء على أنَّ مرجع الضمير في قوله: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ عائداً كذلك على الله تعالى.
ولا محذور في ذلك فإنَّ كلمة تعزِّروه تُستعمل في كلام العرب بمعنى تنصروه، وقد حثَّ القرآن المجيد على نصر الله تعالى بمعنى النصر لدينه كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(8) وقوله تعالى: ﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾(9) وقوله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾(10) وأمَّا كلمة: ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ فتعني وتعظِّمون شأنه، وإسناد ذلك مناسب لله تعالى دون محذور كما في قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾(11).
الاختلاف في مرجع الضمائر المتعاقبة:
ثم إنَّه لو تمَّ القبول على أنَّ مرجع الضمير في قوله تعالى: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ هو الرسول الكريم (ص) كما هو محتمَلٌ بقرينة قوله تعالى من سورة الأعراف: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ .. فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(12).
لو تمَّ القبول بذلك فإنَّه لا يمنع من الالتزام بأنَّ الضمير في: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ عائدٌ على الله تعالى، وأقصى ما سوف يترتَّب على ذلك هو اختلاف مرجع الضمائر في الأفعال المتعاقبة، وذلك لا ضيرَ فيه إذا اقتضته القرينة ولم يستلزم اللَّبْس في الدلالة على المعنى المراد. فإنَّ استظهار اتِّحاد مرجع الضمائر للأفعال المتعاقبة في سياقٍ واحد إنَّما يصحُّ في فرض عدم وجود قرينة على اختلاف المراد من مرجع الضمائر، وأمَّا مع قيام القرينة فالمتعيَّن هو استقرار الظهور فيما تقتضيه القرينة، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾(13) فإنَّ الضمير في "سوَّل" يعودُ على الشيطان، وأمَّا الضمير في قوله: ﴿وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ فيعودُ -كما أفاد جمع من المفسِّرين- على الله تعالى، إذ أنَّ الإملاء -بمعنى الإمهال والاستدراج- إنَّما يكون من الله تعالى كما في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا﴾(14) وقوله تعالى: ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾(15) وقوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ / وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾(16).
فرغم أنَّ الفعل "سوَّل" والفعل "أملى" قد وردا في سياقٍ واحد إلا أنَّ مرجع الضمير في كلٍّ من الفعلين مختلفٌ عن الآخر، وذلك لقيام القرينة المقتضية لاستظهار أنَّ مرجع الضمير في أحدهما ليس هو ذاتُه مرجعَ الضمير في الآخر.
وهكذا هو الشأن في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ..إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾(17) فإنَّ الضمير في قوله: ﴿سُلْطَانُهُ﴾ وقوله: ﴿يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ يرجعُ على الشيطان، وأمَّا الضمير في: ﴿بِهِ﴾ فيرجعُ على الله تعالى، فرغم أنَّ الضمائر وردت في سياقٍ واحد إلا أنَّها اختلفتْ في المرجع، وعُلم ذلك من طريق القرينة.
كذلك هو الحال في الآية، فلأنَّ القرينة وهي أنَّ التسبيح لا يليقُ إلا لله جلَّ وعلا لذلك تعيَّن استظهار عوْدِ الضمير في:﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ على الله تعالى، وإنْ كان ذلك مُستلزماً لاختلاف الضمائر المتعاقبة، فيكون مرجعُ الضمير في قوله:﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ هو الرسول (ص) كما تبنَّى ذلك عددٌ من المفسِّرين، ويكون مرجعُ الضمير في: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ هو الله جلَّ وعلا، إذ أنَّ التسبيح لا يليقُ بغير الله جلَّ وعلا.
وخلاصةُ القول إنَّ المقصود من الضمير في قوله: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ هو الله جلَّ وعلا دون إشكال ودون خلافٍ سواءً التزمنا بعوْدِ الضمير في الفعلين الأولين على الله تعالى كما هو الأرجح أو التزمنا بعوْدِ الضمير في الفعلين الأولين على الرسول (ص) كما تبنَّى ذلك جمعٌ من المفسِّرين.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
8 / جمادى الأولى / 1446ه
11 / نوفمبر / 2024م
1- سورة الفتح / 8-9.
2- سورة الأحزاب / 41-42.
3- سورة الواقعة / 74.
4- سورة الأعلى / 1.
5- سورة الجمعة / 1.
6- سورة الحديد / 1.
7- لاحظ مثلاً: تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي-ج2/ 315، الأمالي- الشريف المرتضى-ج4/ 139، التبيان في تفسير القرآن- الطوسي-ج9/ 318،تفسير مجمع البيان- الطبرسي- ج9/ 188، فقه القرآن- الراوندي- ج2/ 167، الميزان في تفسير القرآن- الطبأطبائي-ج18،274، جامع البيان- الطبري- ج26/ 98،معاني القرآن- النحاس- ج6/ 500،تفسير السمرفندي- أبو الليث السمرقندي-ج3/ 298، زاد المسير في علم التفسير- ابن الجوزي-ج7/ 163،تفسير القرآن العظيم- ابن كثير-ج4/ 199، البرهان- الزركشي-ج4/ 36، الجامع لأحكام القرآن- القرطبي- ج16/ 267، الكشف والبيان عن تفسير القرآن- الثعلبي-ج9/ 44.
8-سورة محمد (ص): 7.
9- سورة الحشر / 8.
10- سورة الحج / 40.
11- سورة نوح / 13.
12- سورة الأعراف / 157.
13- سورة محمد / 25.
14- سورة الحج / 48.
15- سورة الحج / 44.
16- سورة الأعراف / 182-183.
17- سورة النحل / 98-100.