شهادة الخصم وحدوده

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل تُقبل شهادة الخصم؟ وما هي حدود هذا العنوان؟

الجواب:

يُمكن أنْ يفترض لشهادة الخصم في الدعوى خمسة فروض:

الشاهد هو صاحب الدعوى نفسه:

الفرض الأول: أن يكون الشاهد على الدعوى هو ذات المدَّعي كأنْ يدَّعي أحدهم مالاً، فإذا طولب بالبيِّنة نصب نفسه شاهداً أو أحد الشهود على الدعوى، ولا إشكال في عدم قبول شهادته في هذا الفرض، إذ لا يصحُّ أن يكون الشاهد لإثبات الدعوى هو المدَّعي نفسه وإلا للزم أنْ تثبت الدعوى دون بيِّنة أو دون بينةٍ تامَّة كما لو أقام شاهداً آخر وصار هو الشاهد الأول على الدعوى، وعدم قبول شهادة الشاهد في هذا الفرض يقتضيها الارتكاز العقلائي والمتشرعي -كما أفاد السيد الحائري(1)- دون الحاجة إلى أنْ يُستشهد عليه بالروايات.

الشاهد هو المدَّعي في المآل: 

الفرض الثاني: أن يكون الشاهد هو المدَّعي بحسب الواقع والمآل وإنْ كان هو غير المدَّعي بحسب الصورة، ومثاله أنْ يدَّعي العبد مالاً له على آخر ويستشهد على ذلك سيدَه فيشهد له، فإنَّ شهادة السيد لا تُقبل، وذلك لأنَّه وإن لم يكن هو المدَّعي صورةً ولكنَّه بحسب الواقع والمآل هو المدَّعي -بناءً على أن ما يملكه العبدُ ملكٌ لسيده- فعدم قبول شهادة الشاهد في هذا الفرض ينشأ عن أنَّه هو الخصم واقعاً فيكون ممَّن تردُّ شهادته بحسب ما ورد في معتبرة سماعة قال: سألتُه عمّا يُردّ مَن الشهود قال: "المريب والخصم والشريك ودافع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتّهم، كلّ هؤلاء تردُّ شهاداتهم"(2).

وكذلك ما ورد في صحيحة أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَمَّا يُرَدُّ مِنَ الشُّهُودِ؟ فَقَالَ: الظَّنِينُ والْمُتَّهَمُ والْخَصْمُ قَالَ: قُلْتُ الْفَاسِقُ والْخَائِنُ قَالَ كُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي الظَّنِينِ"(3) هذا مضافاً إلى ما يقتضيه الارتكاز العقلائي والمتشرعي من عدم قبول شهادة الخصم.

الشاهد شريك في المال المدَّعى:

الفرض الثالث: أن يكون الشاهد غير المدَّعي ولكنَّه -أي الشاهد- شريك للمدَّعي في المال المدَّعى، فالشاهد في هذا الفرض يكون بحكم الخصم، لأنَّ له نصيب فيما يشهد به، وقد نصَّت صحيحة أبان بن عثمان على عدم نفوذ شهادته قال: سُئِل أبو عبد اللَّه (عليه السلام) عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه قال: تجوز شهادته إلّا في شي‏ء له فيه نصيب"(4) هذا مضافاً إلى معتبرة سماعة المحمول إطلاقها على ما أفادته صحيحة أبان.

الشهادة التي تجلب نفعاً أو تدفع ضرراً:

الفرض الرابع: أنْ يكون الشاهد غير المدَّعي مع افتراض وجود منفعة ترجع للشاهد لو ثبتت دعوى المدَّعي أو افتراض انتفاء مضرة عن الشاهد لو ثبتت دعوى المدَّعي.

ومثال الصورة الأولى لو أدَّعى المحجور عليه لفلسٍ أنَّ له مالاً على زيد فجاء الدائن للمحجور عليه وشهد له، فإنَّ شهادته لا تُقبل لأنَّ دعوى المحجور لو ثبتت بشهادة الدائن فذلك يعني أنَّ للمحجور مالاً وبه يستحقُّ الشاهد -والذي هو الدائن- ذلك المال، فشهادةُ الدائن تجرُّ له نفعاً وبذلك يكون بحكم الخصم، فكأنَّ الشاهد هو المدَّعي للمال على زيد لأن المال بعد ثبوت الدعوى سيئول إليه. ولهذا لا تُقبل شهادته بمقتضى ما أفادته الروايات -كصحيحة أبي بصير- من عدم نفوذ شهادة الخصم، والظاهر أنَّ عنوان الخصم الذي تصدَّت الروايات لبيان عدم نفوذ شهادته لا يقصد منه المتصدِّي للدعوى لوضوح عدم القبول لشهادته لكونه المدَّعي، ولهذا فإنَّ المستظهَر من الروايات التي أفادت عدم قبول شهادة الخصم هو إرادة مَن كان بحكم الخصم في المرتكز العقلائي والعرفي. ومن الواضح أنَّ الشاهد الذي ترجع إليه المنفعة من ثبوت الدعوى يُعدُّ بحسب المرتكز العقلائي والعرفي بمثابة الخصم.

ومثال الصورة الثانية هو ما لو شهد شهود على أنَّ زيداً قتل خالداً خطأً، فهنا لو كان الشهود عدولاً فإنَّه ستثبت الدية لذوي القتيل على عاقلة القاتل، والعاقلة هم أقرباء القاتل من جهة أبيه، فلو شهد بعض أفراد العاقلة بعدم عدالة الشهود فإنَّ شهادتهم لو قبلت فإنَّ أثرها هو عدم ثبوت جناية القتل على قريبهم وبذلك لا تجب عليهم الدية لذوي القتيل، فالشهادة إذن تدفع عنهم -لو قُبلت- ضرراً كان سيلزمهم لو ثبتت دعوى القتل على قريبهم، ولهذا فهم -أي شهود الجرح- بمثابة الخصم بمقتضى الارتكاز العقلائي والعرفي وهو ما يقتضي استظهار انطباق عنوان الخصم عليهم والذي أفادت الروايات أنَّ شهادته لا تُقبل.

شهادة الوصيِّ والوليِّ والوكيل:

الفرض الخامس: أن يكون الشاهد غير المدَّعي مع افتراض أن يثبت للشاهد -بثبوت الدعوى- حقُّ التصرُّف في المال لكونه وصياً أو وليَّاً أو وكيلاً، فلو أُدَّعي لميتٍ -مثلاً- مالٌ على زيد فشهد لإثبات هذه الدعوى وصيُّ الميت أو أُدعي مالٌ لقاصرٍ فشهد لإثبات الدعوى وليُّه فإنَّ شهادته لا تُقبل لكونه بمثابة -الخصم بحسب المرتكز العقلائي والعرفي- إذ أنَّه لو ثبتت الدعوى فإنه سيكون صاحب الحق في التصرف بالمال لكونه وصياً أو لكونه ولياً فهو بمثابة الخصم الذي دلَّت مثل معتبرة سماعة أنَّه ممَّن تردُّ شهادته.

وقد استدل السيِّد الخوئي(5) على ردِّ شهادة الوصي فيما هو وصيٌّ فيه بصحيحة مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: كَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (ع) هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لَه عَلَى رَجُلٍ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ عَدْلٍ فَوَقَّعَ (ع): إِذَا شَهِدَ مَعَه آخَرُ عَدْلٌ فَعَلَى الْمُدَّعِي يَمِينٌ .."(6).

بتقريب أنَّ إثبات الدعوى بشاهدِ عدل آخر ويمين المدَّعي معناه أنَّ الوصي لم تُقبل شهادته وإلا لم يكن ثمة ما يوجب اليمين، إذ لو كانت شهادة الوصي نافذة لكانت شهادته مع شهادة الرجل العدل الآخر بيِّنة تامَّة موجبة لثبوت الدعوى دون الحاجة إلى يمين المدَّعي، فإناطة ثبوت الدعوى بيمين المدعي قرينةٌ على أنَّ الدعوى إنَّما ثبتت بشهادة العدل الواحد ويمين المدَّعي، وأما شهادة الوصي فهي لاغية، وهو ما يدلُّ على عدم قبول شهادة الوصي فيما هو وصيٌّ عليه.

إلا أنَّ ما يكن إيراده على ذلك -كما أفاد السيد الحائري(7)- هو أنَّه لا يتعيَّن من المطالبة باليمين استظهار عدم نفوذ شهادة الوصي مطلقاً، فقد يكون منشأ المطالبة باليمين هو كون الدعوى صادرة عن الوصي نفسه لأنَّ المدَّعى له المال ميِّتٌ لا يتاح له إقامة الدعوى، فالوصي في هذا الفرض هو صاحب الدعوى فلا يصحُّ أن يكون شاهداً.

ولعلَّ ما يُؤكد عدم دلالة الرواية على ما أفاده السيد الخوئي هو ما ورد في تتمَّة الرواية المذكورة قال: "وكَتَبَ أيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَشْهَدَ لِوَارِثِ الْمَيِّتِ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ بِحَقٍّ لَه عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ عَلَى غَيْرِه وهُوَ الْقَابِضُ لِلْوَارِثِ الصَّغِيرِ ولَيْسَ لِلْكَبِيرِ بِقَابِضٍ فَوَقَّعَ ع نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ أَنْ يَشْهَدَ بِالْحَقِّ ولَا يَكْتُمَ الشَّهَادَةَ، وكَتَبَ أو تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ عَلَى الْمَيِّتِ مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ عَدْلٍ؟ فَوَقَّعَ (ع) نَعَمْ مِنْ بَعْدِ يَمِينٍ"(8) فمؤدَّى جواب الإمام (ع) هو نفوذ شهادة الوصي على مال الوارث الصغير الذي هو وصيٌّ عليه. فلأنَّ المدَّعى له المال ليس ميتاً لهذا يمكن افتراض أن لا يكون الوصي هو صاحب الدعوى بل يكون غيره ويكون الوصي شاهداً.

وعليه يُمكن القول بأنَّ الوصي وكذلك الولي والوكيل وإن كانوا بحسب المرتكز العقلائي بمثابة الخصم إلا أنَّ هذا الارتكاز ليس في الوضوح كالفروض السابقة، ولهذا لا يُحرز أنَّ هذه العناوين مشمولة لعنوان الخصم الذي تُردُ شهادته -بحسب الروايات- خصوصاً في فرض كون الولاية والوصاية والوكالة مجانية، وعليه تكون أدلة حجيَّة شهادة العدل محكَّمة.

شهدا لمن يرثانه قبل موته:

وهنا تحسن الإشارة إلى فرع يتَّصل بالفرض الأول وحاصله أنَّه لو شهد شاهدٌ أو شاهدان لمدَّع يرثانه لو مات إلا أنَّهما شهدا له في ظرف حياته ولكنَّه مات قبل أن يبت القاضي في الحكم فهل يصحُّ له أن يحكم للمدَّعي استنادا إلى شهادتهما، ومثاله لو ادَّعى أحدهم مالاً واستشهد على دعواه أخويه العادلين فشهدا له فهنا لا إشكال في نفوذ شهادتها ويصحُّ للقاضي أن يحكم للمَّدَّعي استناداً لشهادة أخويه لو فصل في القضية في ظرف حياة المدَّعي إنَّما الإشكال لو اتَّفق موت المدَّعي بعد إدلاء الأخوين بالشهادة وقبل أن يبت القاضي في القضية وصادف أنْ كان الأخوان هما الوارثين للمدَّعي فهل تسقط شهادتها أو تبقى نافذةً حتى في ظرف موت المدَّعي قبل البتِّ في القضية ؟

ومنشأ الإشكال هو أنَّ الشاهدين أصبحا بموت المدَّعي مستحقَّيَن للمال المدَّعى لو ثبتت دعوى المدَّعي أي أنَّ الشاهدين بموت المدَّعي صارا هما المدَّعى، فمع قبول شهادتهما تكون النتيجة هي ثبوت الدعوى بشهادة المدَّعي أي تكون النتيجة هي اتَّحاد المدَّعي والشاهد، ولهذا افتى المشهور بل ادعي الإجماع (9) على عدم نفوذ شهادتهما لو اتفق موت المدَّعي قبل حكم القاضي، وذلك لأنَّه لا يصحُّ إثبات الدعوى بشهادة المدَّعي نفسه .

إلا أنَّ الصحيح ظاهراً - كما أفاد السيد الخوئي(10)- هو نفوذ شهادة الشاهدين – الأخوين- وذلك لوقوع شهادتهما قبل موت المدَّعي فهما حين شهدا لم يكونا مدَّعيين والمناط في حجيَّة شهادة الشاهد هو ظرف الإدلاء بالشهادة وليس هو ظرف البتِّ في الحكم، ولهذا لو اتَّفق موت الشاهدين قبل أن يفصل القاضي في الدعوى فإنَّ له أن يحكم في القضية استناداً لشهادتهما فلا تسقط شهادتهما بموتهما وهو ما يعني أنَّ المناط في نفوذ الشهادة هو ظرف الأداء وليس هو ظرف الفصل في القضية، وكذلك لو اتَّفق أنْ فقد الشاهدان أهليتهما الذهنيَّة أو صارا فاسفين بعد أداء الشاهدة وقبل أنْ يفصل القاضي في القضية فإنَّ له أن يحكم في القضية استناداً لشهادتهما، فالمناط هو ظرف الأداء للشهادة والمفترض هو أنَّ الشاهدين في ظرف الأداء للشاهدة أجنبيين عن الدعوى فلا يصحُّ القول إنَّ الدعوى ثبتت بشهادة المدَّعي نفسه .

والمتحصَّل أنه إذا لم يقم إجماع على سقوط شهادتهما فإنَّ الصحيح هو نفوذ شهادتهما   حتى لو اتفق أن صارا وارثيَن للمال المدَّعى حين الفصل في الدعوى التي شهدا عليها قبل موت المدَّعي .  

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

22 / جمادى الأولى / 1446ه

25 / نوفمبر / 2024م


1- القضاء في الفقه الإسلامي -السيد كاظم الحائري- ص358.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص378.

3- الكافي -الكليني- ج7 / ص395.

4- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص370.

5- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص111-112.

6- الكافي -الكليني-ج7 / ص394.

7- القضاء في الفقه الإسلامي -السيد كاظم الحائري- ص365.

8- الكافي -الكليني- ج7 / ص394.

9- امستند الشيعة- النراقي- ج18/ 414 .

10-مباني تكملة المنهاج- السيد الخوئي- ج41/ 114.