شهادة ذوي القرابة لقريبهم أو عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل تُقبل شهادة الأب لابنه والابن لأبيه والأخ لأخيه ولابن عمِّه وسائر قرابته؟
الجواب:
الاستدلال على قبول شهادة القريب لقريبه:
الظاهر أنَّه لم يقع خلافٌ بل ادُّعي الإجماع -كما في الرياض والجواهر(1)- على عدم المنع من قبول شهادة الوالد لولده والولد لأبيه والأخ لأخيه ولسائر قرابته، وقد نصَّت على ذلك العديد من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع):
منها: صحيحة أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِه والْوَالِدِ لِوَلَدِه والأَخِ لأَخِيه؟ قَالَ: فَقَالَ: تَجُوزُ"(2).
ومنها: صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِه والْوَلَدِ لِوَالِدِه والأَخِ لأَخِيه؟ فَقَالَ: تَجُوزُ"(3).
ومنها: صحيحة عَمَّارِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) أَوْ قَالَ: سَأَلَه بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الرَّجُلِ يَشْهَدُ لأَبِيه أَوِ الأَبِ يَشْهَدُ لِابْنِه أَوِ الأَخِ لأَخِيه؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ خَيِّراً جَازَتْ شَهَادَتُه لأَبِيه والأَبِ لِابْنِه والأَخِ لأَخِيه"(4).
ومنها: صحيحة أَبِي الْمَغْرَاءِ عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِه والْوَالِدِ لِوَلَدِه والأَخِ لأَخِيه"(5).
التفصيل الذي أفاده الشيخ وجوابه:
هذا وقد نسب إلي الشيخ الطوسي -كما في الجواهر(6)- اناطة نفوذ شهادة القريب لقريبه بما إذا انضمَّت إليها شهادة أجنبيٍّ، واستُدل لذلك بمعتبرة السكوني عن الإمام جعفر عن أبيه (عليهما السلام): أنَّ شهادة الأخ لأخيه تجوزُ إذا كان مرضيَّاً ومعه شاهدٌ آخر"(7).
إلا أنَّ الرواية ليست ظاهرة في اعتبار أن يكون الشاهد اجنبياً فلعلَّها بصدد اعتبار تعدُّد الشهادة وأنَّه لا تثبت الدعوى بشاهدٍ واحد، وعليه فلا موجب لتقييد إطلاقات ما دلَّ على نفوذ شهادة القريب والتي تقتضي نفوذ شهادته حتى لو كان الشاهد الآخر قريباً للمشهود له، هذا مضافاً إلى ما تقتضيه إطلاقات نفوذ شهادة العدل.
الاستدلال على شهادة القريب على قريبه:
بقي الكلام حول شهادة القريب على قريبه فإن مورد الروايات المتقدِّمة هي شهادة القريب لصالح قريبه وأمَّا شهادته على قريبه فيمكن -كما أفاد السيد الخوئي(8)- الاستدلال عليه بالروايات المتقدِّمة من طريق الأولويَّة القطعيَّة، هذا مضافاً إلى ما نصَّت عليه الآية من سورة النساء في قوله تعالى:{ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوَالِدَيْنِ وَاَلْأَقْرَبِينَ ..}(9).
الخلاف في شهادة الأبن على أبيه:
نعم وقع الخلاف في شهادة الولد على أبيه، فالمشهور بل ادُّعي الإجماع -كما في المستند (10) والجواهر(11)- على عدم نفوذ شهادة الولد على أبيه، واستُدلَّ لذلك بمرسلة الصدوق في الفقيه قال: وفي خبر آخر: "أنه لا تقبل شهادة الولد على والده "(12) وكذلك ما أرسله الشريف المرتضى في الانتصار قال: "إلا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمدا على خبرٍ يرويه من أنَّه لا يجوز شهادة الولد على الوالد وإن جازت شهادته له ويجوز شهادة الوالد لولده وعليه"(13).
وكذلك استُدل للمشهور بأنَّ الشهادة على الأب عقوق وهو مسقط للعدالة، أمَّا أنَّه عقوق فلأنَّ الشهادة عليه تستلزم تكذيبه وإيذاءه. فلو فعل ذلك فإنَّه يكون عاقَّاً وبذلك تسقط عدالته. فتسقط لذلك شهادته عن الاعتبار والحجيَّة.
إلا أنَّ شيئاً من ذلك لا يتم فإنَّ كلا الروايتين فاقدتان للاعتبار لكونهما مرسلتَين ودعوى انجبارهما بعمل المشهور لا تصح، فإنَّ أكثر المتقدِّمين -كما أفاد السيد الخوئي(14)- لم يتعرَّضوا للمسألة نفياً أو إثباتاً. على أنَّ من غير المحرَز أنَّ منشأ فتوى المشهور هو الروايتان ليُقال إنَّ ذلك مقتضٍ لانجبارهما بالعمل، فلعلَّ مدرك الكثير منهم هو الوجه الذي ذكرناه وهو استلزام الشهادة على الأب للعقوق.
دليل المشهور وجوابه:
وأمَّا أنَّ الشهادة على الأب مستلزم للعقوق لكونها من التكذيب والإيذاء للأب فجوابه أنَّ الشهادة على الأب لا تستلزم التكذيب، فإنَّ الشهادة على خلاف دعوى المَّدَّعي لا تساوق تكذيبه فقد تنشأ دعوى المدَّعي عن الاشتباه فتكون الشهادة على خلاف دعواه تكذيباً للخبر وليس تكذيباً للمُخبِر، وقد تكون دعوى المدَّعي هو عدم العلم وهو صادق في دعواه فالشهادة المثبتة لا تكون تكذيباً له وإنَّما هي إثبات لشيء يجهله، فالشهادة لا تستلزم التكذيب.
وكذلك فإنَّ الشهادة لا تستلزم الإيذاء فقد يكون الأب تقياً ويدَّعي صادقاً عدم العلم فيشهد الابن على الإثبات فلا يشعر الأب بالإيذاء لذلك وقد يكون الأب معتقدا بصحَّة دعواه خطئاً فإذا قامت البينة على خلاف ما يعتقد التفت وأذعن بل قد يشعر لتقواه بالامتنان. ثم أنَّه لو كانت الشهادة على الأب من العقوق فهي كذلك على الأم فينغي البناء على عدم نفوذ شهادة الأبن على الأم، ولا يلتزم أحدٌ -ظاهراً- بذلك.
ثم إنَّه لو تمَّ أنَّ الشهادة من العقوق فإنَّه يتعين البناء على عدم حرمته في هذا المورد فنلتزم بتقييد إطلاق أدلة حرمة العقوق بالآية الشريفة، وهي قوله تعالى:{ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوََالِدَيْنِ وَاَلْأَقْرَبِينَ...}(15).
وكذلك ما ورد في صحيحة داود بن الحصين قال: سمعتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام) يقول: "أقيموا الشهادة على الوالدين والولد"(16) المؤيدة برواية عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ السَّائِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (ع) قَالَ: كَتَبَ أَبِي فِي رِسَالَتِه إِلَيَّ وسَأَلْتُه عَنِ الشَّهَادَةِ لَهُمْ فَأَقِمِ الشَّهَادَةَ لِلَّه ولَوْ عَلَى نَفْسِكَ أَوِ الْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ فِيمَا بَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ فَإِنْ خِفْتَ عَلَى أَخِيكَ ضَيْماً فَلَا "(17).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
25 / جمادى الأولى / 1446ه
28 / نوفمبر / 2024م
1- رياض المسائل -السيد علي الطبأطبائي- ج13 / ص284، جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص78.
2- الكافي -الكليني- ج7 / ص393، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص367.
3- الكافي -الكليني- ج7 / ص393، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص367.
4- الكافي -الكليني- ج7 / ص394، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص367.
5- الكافي -الكليني- ج7 / ص393، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص367.
6- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص74.
7- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص368.
8- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص116.
9- سورة النساء / 135.
10- مستند الشيعة -النراقي- ج18 / ص248.
11- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص74.
12- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج3 / ص42.
13- الانتصار -الشريف المرتضى- ص496.
14- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص118.
15- سورة النساء / 135.
16- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص340.
17- الكافي -الكليني- ج7 / ص381، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص315.