شهادة المتبرِّع
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل يُعتبر في قبول شهادة الشاهد الأدلاء بها بعد طلب القاضي بحيث لو تبرَّع بأداء الشهادة دون طلب القاضي أو قبل طلبه فإنَّها تسقط عن الاعتبار؟
الجواب:
الشهادة دون طلبٍٍ من القاضي أو قبل طلبه يُعبَّر عنها بشهادة المتبرِّع أو الشهادة التبرُّعيَّة، وهي تارةً تكون شهادة على حقٍّ من حقوق الله تعالى كالشهادة على الزنا أو شرب الخمر أو شيء من الأوقاف للمصالح العامَّة، وقد تكون الشهادة على حقٍ من حقوق الناس كالشهادة على القتل أو القذف أو الدَين أو الميراث والوصية الخاصة، وقد تكون الشهادة على شيءٍ من الحقوق المشتركة بين حقِّ الله تعالى وحقِ الناس، فهذه فروض ثلاثة.
الشهادة التبرعيَّة على حقٍّ من حقوق الله تعالى:
أمَّا الفرض الأول: وهي الشهادة التبرُّعية على حقٍ من حقوق الله تعالى فالمشهور شهرةً عظيمة -كما أفاد صاحب الجواهر(1)- أنَّها نافذه ولا يُعتبر في حجيتها طلب القاضي، نعم نٌسب إلى الشيخ الطوسي في النهاية البناء على اعتبار طلب القاضي واستنطاقه في نفوذ الشهادة وأنَّ الشهادة التبرعيَّة لا تُقبل حتى في حقوق الله تعالى إلا أنَّه بنى في المبسوط على ما ذهب إليه المشهور كما أفاد ذلك صاحب الجواهر(2).
مذهب المشهور ودليله:
والوجه فيما بنى عليه المشهور من قبول الشهادة التبرُّعيَّة هو إطلاقات ما دلَّ على حجيَّة شهادة العدل، وليس في البين ما يقتضي تقييد هذه الإطلاقات بغير الشهادة التبرعيَّة، على أنَّه يُمكن تأييد ما ذهب إليه المشهور من البناء على نفوذ الشهادة التبرعيَّة أنَّها لو لم تُقبل لأدَّى ذلك إلى ما يقرب من تعطيل الحدود والمصالح العامَّة إذ لا مدَّعي غالباً لها وكذلك يُمكن التأييد لنفوذ الشهادة التبرُّعيَّة في حقوق الله بأنَّها نحوٌ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ودعوى أنَّ الشهادة التبرعيَّة مظنة التهمة، والمتَّهم ممن تردُّ شهادته كما نصَّت على ذلك بعض الروايات، هذه الدعوى لا تتمُّ فإنَّ المراد -ظاهرا- من المتَّهم هو مَن لم تٌحرز عدالته، ولا إشكال في عدم قبول شهادته مطلقاً إلا أنَّ ذلك أجنبيٌّ عن مفروض المسألة، فإنَّ مفروضها هو شهادة العدل التبرعيَّة، وأمَّا أنَّ الشهادة التبرعيَّة مظنَّة التهمة فمضافاً إلى أنَّ ذلك لا يصحُّ على إطلاقه -كما سيتضح- فإنَّه لا دليل على مانعيَّة مطلق ما يوجب التهمة لقبول الشهادة، نعم تكون مانعاً في الموارد التي نصَّت الروايات على مانعيتها كشهادة الشريك وشهادة ذي العداوة.
الشهادة التبرعيَّة على حقٍّ من حقوق الناس:
الفرض الثاني وهي الشهادة التبرعيَّة على حقٍّ من حقوق الناس وفي هذا الفرض ادُّعي الإجماع على عدم نفوذ الشهادة التبرعيَّة والتي تعني الادلاء بالشهادة دون استنطاقٍ وطلب من القاضي سواءً وقعت قبل دعوى المدَّعي أو بعده. وقد استُدل لذلك بثلاثة وجوه:
الاستدلال بالإجماع وجوابه:
الوجه الأول: دعوى الإجماع والذي ادَّعاه غير واحدٍ من الأعلام بل أفاد في كشف اللثام أنَّه ممَّا قطع به الأصحاب(3) إلا أنَّ ما يرد على هذا الوجه أنَّ مثل هذه الإجماع مضافاً إلى كونه منقولاً فإنَّه لا يكون تعبديَّاً وذلك لاحتمال مدركيَّته، فإن مِن المحتمل الذي لا يمكن دفعُه أنَّ مدرك القائلين بعدم نفوذ الشهادة التبرعيَّة أو مدرك جمعٍ منهم هو ما سنذكره من بقية الوجوه.
الاستدلال بالروايات وجوابه:
الوجه الثاني: الاستدلال بعددٍ من الروايات:
الأولى: ما رُوي عن النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال: "ثم يجئ قومٌ يُعطُون الشهادةَ قبل أن يسألوها"(4).
الثانية: ما رُوي أيضاً عن النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال: "ثم يفشو الكذبَ حتى يشهد الرجلُ قبل أنْ يُستشهد"(5).
الثالثة: ما روي كذلك عن النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال: "تقوم الساعة على قومٍ يشهدون من غير أنْ يُستشهدوا"(6) مع ما ورد مِن أنَّها تقوم على شرار الخلق
وأجيب عن هذا الوجه بأنَّ الروايات المذكورة ضعيفة السند فلم يرد شيءٌ منها في طرقنا، ودعوى انجبارها بعمل المشهور لا تتم، وذلك لعدم احراز استنادهم فيما أفتوا به على هذه الروايات بل المظنون قويَّاً أنَّها لم تكن هي مستندَهم أو مستندَ الكثير منهم، وعليه لا تكون مطابقةُ فتواهم لمضمونها موجباً لانجبار ضعفها. هذا مضافاً إلى أنَّها معارَضة بما رُوي من طريقهم عن النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال: "ألا أُخبركم بخير الشهداء؟ قالوا: بلى، يا رسول اللَّه قال: أن يشهد الرجل قبل أنْ يستشهد"(7).
هذا مع التسليم بظهور الروايات الثلاث في عدم نفوذ الشهادة التبرعيَّة، والأمر ليس كذلك، فالرواية الثانية تبدو أجنبيَّة عن الشهادة التبرعيَّة، فهي إنَّما تُشنِّع على الشهادة الكاذبة بقرينة قوله: "ثم يفشو الكذب" وبعده تترقى الرواية لتفيد أنَّه تبلغ الوقاحة بشاهد الكذب أنَّه يتبرَّع بالشهادة على الكذب دون أن يُطلب منه ذلك، فهذا هو المستظهَر من الترقِّي المستفاد من قوله: "حتى يشهد الرجل .." إذ لا يصحُّ الترقي من الأعلى إلى الأدون، فصدرُ الرواية يتحدَّث عن شيوع الكذب، ومقتضى الترقِّي هو بيان ما هو أشنع من شيوع الكذب بين الناس، وعليه يكون الظاهر من معنى قوله: "حتى يشهد الرجل قبل أن يُستشهد" هو أنَّه يبلغ شيوع الكذب حدَّاً بحيث يتبرَّع الرجل بالشهادة على الكذب قبل يُستشهد، ومن الواضح أن الكذب في هذا الفرض أشنع وأشد قبحاً، ويُعبِّر كذلك عن مرتبة متقدِّمة من شيوع الكذب، فالرواية أجنبيَّة عن محلِّ البحث.
وأما الرواية الثالثة فيحتمل من معنى قوله: "من غير أن يستشهدوا" هو أنَّهم يشهدون على شيء لم يتحمَّلوا شهادته، فهم يشهدون على شيءٍ لم يكونوا قد شهدوه، فليس معنى: "من غير أن يُستشهدوا" هو من غير أن يُطلب منهم أداء الشهادة بل معناه -بناء على هذا الاحتمال- أنهم يشهدون على شيءٍ لم يتحمَّلوا الشهادة عليه، فلا يبعد أنَّ الرواية تُشنِّع على شهادة الزور أو شهادة غير المتورع كما ربَّما يظهر من صدرها أنَّهم قوم "يسبق شهادتهم أَيمانُهم"(8) فهي أجنبيَّة عن محلِّ البحث والذي هو شهادة المتبرِّع العدل.
ولو تم التسليم بظهور الرواية في أداء الشهادة دون طلبٍ فأقصى ما تدلُّ عليه الرواية هو الذمُّ لذلك وهو لا يقتضي ظهورها في سقوط الشهادة عن الاعتبار مع افتراض كون الشاهد واجداً لشرائط الحجيَّة.
وأمَّا الرواية الأولى فكذلك لا ظهور لها في عدم نفوذ الشهادة إذا كانت واجدة لشرائط الحجيَّة لمجرَّد الإدلاء بها دون طلب، على أنَّ من المحتمل قويَّاً أنَّها بصدد الذمِّ للمبادرة للشهادة دون طلبٍ من صاحب الحق طمعاً في نواله كما ربَّما يظهر من صدر الرواية: "ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون ويحبون السمن يعطون الشهادة قبل أن يسألوها"(9) فالظاهر من الرواية بقرينة السياق هو التشنيع على شهادة المرتشي الطامع في نوال المدَّعي، وأين هذا من شهادة المتبرِّع العدل.
الشهادة التبرعيَّة مظنَّة تطرُّق التهمة:
الوجه الثالث: أنَّ المبادرة للإدلاء بالشهادة في مجلس القضاء قبل طلب القاضي تبعث على التهمة لكشفها عن حرص الشاهد على مؤدَّى الشهادة، ومع تطرق التهمة بأنَّها شهادة زور تسقط الشهادة عن الحجيَّة. وذلك لما ورد من أنَّ المتهم ممَّن تُردُّ شهادته.
وأُجيب عن هذا الوجه أنَّه لا دليل على سقوط الشهادة عن الحجيَّة لمجرد تطرُّق التهمة إليها لبعض الاعتبارات، وأما ما ورد من أنَّ المتَّهم ممَّن تردُّ شهادته فالظاهر أنَّ المراد من المتَّهم هو مَن لم تُحرز عدالته بأنْ كان في سلوكه ما يُوجب الارتياب في فسقه وإنْ لم يكن فسقه مُحرزاً، فهذا هو المتهم ولا أقل مِن أنَّ عنوان المتَّهم ليس ظاهراً فيمَن تكون شهادته مورداً للتهمة، وعليه فعنوان المتَّهم الذي ورد أنَّه ممَّن تُردُّ شهادته مجمل، فلا يصلحُ لتقييد ما دلَّ على حجيَّة شهادة العدل. ومفروض المسألة أنَّ الشاهد المتبرِّع عدلٌ وإن تطرَّقت التهمة لشهادته بسبب التبرُّع بالشهادة.
هذا مضافاً إلى أنَّه لا ملازمة بين التبرُّع بالشهادة وبين تطرُّق التهمة، فقد يكون الباعث على التبرُّع بالشهادة هو الحرص بنظره على إحقاق الحقِّ والانتصار للمظلوم، وقد يكون باعثُه إلى التبرُّع بالشهادة هو توهُّم وجوب الأداء للشهادة وحرمة الكتمان لها وإنْ يُستشهد، وقد تكون الشهادة التبرُّعية على خلاف ميل أو مصلحة الشاهد، وفي هذا الفرض لا تتطرق التهمة لشهادته. وعليه فلا دليل يُمكن البناء عليه لإثبات عدم نفوذ الشهادة التبرعيَّة في حقوق الناس تماما كما هو الشأن في الشهادة التبرعيَّة في حقوق الله تعالى.
الشهادة التبرُّعيَّة في الحقوق المشتركة:
ومن ذلك يتبيَّن الحال في الحقوق المشتركة، نعم لو صحَّ التفصيل المذكور بين الشهادة التبرُّعية في حقوق الله والشهادة التبرعيَّة في حقوق الناس فإنَّه بناءً عليه تنفذ الشهادة في حقِّ الله تعالى ولا تنفذ قي حقوق الناس، فلو شهد أحدُهم تبرُّعاً على أحدٍ بالسرقة فإنَّه يثبت بهذه الشهادة الحدُّ على السارق ولا يثبت بها الغرم والضمان للمسروق منه. إلا أنْ يُقال كما أفاد صاحب الجواهر(10) أنَّه بناءً على أنَّ عمدة الوجوه في عدم نفوذ الشهادة التبرُّعية في حقوق الناس هو الإجماع فإنَّ مقتضى ذلك هو الاقتصار على القدر المتيقن من معقد الاجماع لأنَّه دليل لبِّي، والقدرُ المتيقن هو عدم النفوذ للشهادة التبرُّعية في حقوق الناس خاصَّة دون الحقوق المشتركة خصوصاً في الحقوق غير القابلة للتوزيع وعليه يكون المرجع في الحقوق المشتركة هو إطلاق ما دلَّ على حجيَّة شهادة العدل.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
4 / جمادى الآخرة / 1446ه
6 / ديسمبر / 2024م
1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص106.
2-جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص106.
3- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص101.
4- المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص549.
5- شرح معاني الآثار -الطحاوي- ج4 / ص151.
6- مسند أبي داود -الطيالسي- ص8، دعائم الإسلام -القاضي النعمان- ج2 / ص508
7- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج5 / ص133، سنن الترمذي -الترمذي- ج3 / ص373.
8- مسند أبي داود -الطيالسي- ص8.
9- سنن الترمذي -الترمذي- ج3 / ص339.
10- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص108.