درهمُ ربا أعظمُ عند الله من سبعين زنية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
الإمام الصادق (عليه السلام): "درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية بذات محرم في بيت الله الحرام"(1).
سماحة الشيخ: كيف نفهم هذه الرواية؟ وكيف نتعقل أنْ يأكل أحدٌ درهمَ ربا فيكون ما فعله أشد من الزنا بذات محرم؟ سمعتُ البعض يسخر من هذه الرواية
الجواب:
لا يعلمُ من أحدٍ ما هو مقياسُ المبغوضيَّة عند الله تعالى من حيث الشدَّة والضعف، فمِن الغرور والجهل والاعتداد بالذات قياسُ المبغوضيَّة والاستيحاش عندنا بما عند الله جلَّ وعلا، فالربا -مثلاً- الذي نستهينُ بقبحه ونرى أنَّ الكثير من الذنوب تفوقُه قبحاً وشناعةً نجد القرآن قد نزَّله منزلةَ الحرب لله ورسوله (ص) والذي هو أعظم المُوبقات، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ / فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾(2).
وحين نستعرضُ الكثير من الذنوب الكبيرة التي تصدَّى القرآنُ المجيد لتَعدادها لا نجد منها ما هو منزَّلٌ منزلة الحرب لله ورسوله (ص) رغم أنَّها بحسب مقاييسنا أفظعُ وأشدُّ شناعةً من الربا، وذلك يكشفُ عن أنَّ مقياس الشدَّة والضعف في المبغوضيَّة عندنا ليس هو ذاتُه المقياس عند الله جلَّ وعلا.
فمقياسُ القبح والشناعة والاستيحاش عند الناس يخضعُ للكثير من العوامل غير المطردة مثل الثقافة وطبيعة التربية والألفة، فالقتلُ -مثلاً- في بعض المجتمعات ليس فظيعاً أو أنَّ فظاعته منخفضة بالقياس إلى مجتمعاتٍ أخرى، ومنشأ ذلك هو طبيعة التربية والظروف والألفة، وكذلك الزنا فإنَّه يكون قبيحاً مُستبشَعاً في مجتمعٍ ولكنَّه مُستساغٌ في مجتمعٍ آخر حتى لو كان بذاتِ محرم، ومنشأ ذلك هو الألفة وطبيعة التربية، وهكذا هو الشأنُ في الكثير من الفواحش وشرب الخمر ولعب القمار فهي مأنوسة ومستساغة لدى بعض المجتمعات ولكنَّها مستبشَعة في مجتمعاتٍ أخرى. بل نجد التفاوت في مقياس الاستيحاش والقبح في المجتمع الواحد فتجدُ اسرةً تستفظعُ السفور وخروج المرأة متبرِّجة ونجدُ أسرةً من ذات المجتمع تستمرأُ هذا العمل ولا ترى فيه غضاضة. بل كثيراً ما يتَّفق التحوُّل في مقاييس الاستحسان والاستبشاع للفرد الواحد تبعاً لسلوكه والمناخات الاجتماعيَّة التي يتنقَّل إليها، فتراه مثلاً كان يستفظعُ الاستيلاء على درهمٍ واحد بغير وجهِ حق، فإذا اعتاد على ذلك تراه لا يتأثَّم من الاستيلاء عدواناً على العظيم من أموال الناس، وتراه يحتشمُ من الجلوس في محضر امرأةٍ أجنبيَّة ثم ينتقل إلى مجتمعٍ لا يرى في مفاكهة النساء غضاضةً فيزول الاستيحاش من نفسه أو يضعف وقد يجدُ نفسه تأنسُ بذلك وتستمرئه، وحين يستذكر استيحاشه القديم يعجبُ منه.
ولهذا لا يصحُّ التعويل على ما نستحسنُه ونستوحشُ منه دون اعتماد المقاييس الشرعيَّة في ذلك، فالمقاييس عند الناس متفاوتة وتخضعُ لعوامل غير مطَّردة، وكثيراً ما لا يكون منشأها الملاحظة محضاً لأوجهِ المصالح والمفاسد الواقعيَّة، وعلى خلاف ذلك المقاييس الشرعيَّة فإنَّها تنشأ عن ملاكاتٍ واقعية وملاحظةٍ لتمام أوجه المصالح والمفاسد والتي يشقُّ على الإنسان لقصوره الإحاطةُ بها، فقد يُدرك بعضَها ويخفى عليه البعضُ الآخر، وقد يُدرك بعضها إلا أنَّه يشقُّ عليه التجرُّد عن محيطه وثقافته وبواعثه النفسيَّة، لهذا ينبغي للمؤمن العاقل أنْ يتواضع لربَّه، ويذعن بقصوره، ويتأمَّل في تفاوت الأفكار التي كان يتبنَّاها ثم يجدُ نفسه وقد تخلَّى عنها واعتمد غيرَها أو نقيضها.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
19 / جمادى الآخرة / 1446ه
21 / ديسمبر / 2024م
1- أورد الرواية بسندٍ معتبر القمي في تفسيره ج1 / ص93، وأوردها الصدوق في وصية النبيِّ (ص) لعلي (ع) في من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج4 / ص367، وأوردها في الفقيه أيضاً بسندٍ صحيح مع شيء من التفاوت عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "درهم ربا أشد عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم" من لا يحضره الفقيه -الصدوق-ج3 / ص274. وأوردها الكليني في الكافي بسند صحيح عن هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ دِرْهَمٌ رِبًا أَشَدُّ مِنْ سَبْعِينَ زَنْيَةً كُلُّهَا بِذَاتِ مَحْرَمٍ الكافي -الكليني- ج5 / ص144.
2- سورة البقرة / 278-279.