كتمان الشهادة وتحمُّلها
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
إذا حضر أحدٌ واقعةً ثم استُشهد عليها هل يجب عليه أداءُ الشهادة أو أنَّ له أنْ لا يشهد؟ فلو حضر مجلساً أُبرم فيه عقد من العقود أو طلَّق فيه رجلٌ زوجته أو سمع فيه رجلاً يوصي بشيءٍ من ماله لآخر فهل يجب عليه أداءُ الشهادة إذا استُشهد على ما كان قد شهده أو أن له أنْ لا يشهد؟
الجواب:
أنَّ هنا فرضين:
إذا تحمَّل الشهادة بطلبٍ من ذوي الشأن:
الفرض الأول: أن يكون تحمُّله للشهادة وقع بطلبٍ ممَّن أَبرم العقد أو الطلاق أو الوصيَّة أو ما أشبه ذلك، ففي هذا الفرض يجب الأداء للشهادة إذا استُشهد على ما كان قد شهده ويحرم عليه الكتمان للشهادة، وعلى ذلك إجماع الفقهاء كما أفاد صاحبُ الجواهر(1).
واستُدلَّ عليه أولاً بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾(2) بناءً على استظهار أنَّ متعلَّق الدعوة هو الأداء للشهادة، فمعنى: ﴿إِذَا مَا دُعُوا﴾ هو إذا ما دعوا لأداء الشهادة، وليس إلى تحمُّلها بقرينة أنَّ المخاطَب بالنهي هم الشهداء، وظاهر وصفهم بالشهداء هو أنَّهم قد تحمَّلوا الشهادة في مرحلة سابقة فصحَّ لذلك وصفهم بالشهداء، إذ أنَّ الوصف ظاهرٌ في المتلبس به وليس فيمَن سيتلبس به، فالشهداء هم مَن شهدوا الواقعة، فهؤلاء مخاطَبون بالنهي عن الإباء لأداء الشهادة إذا ما دُعوا إلى أدائها.
نعم، الشهداء المخاطبون بأداء الشهادة هم من تمَّ استشهادهم فاللام في الشهداء ليست للجنس وإنَّما هي للعهد بقرينة ما سبق الفقرة من الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾(3) فالشهداء المخاطَبون بعدم الإباء عن أداء الشهادة هم هؤلاء الذين استُشهدوا أي طُلب منهم التحمُّل للشهادة.
وعليه بناءً على أنَّ اللام في الشهداء عهديَّة لا ينعقد إطلاقٌ للآية يشمل مطلق من تحمَّل الشهادة حتى لولم يُطلب منه التحمُّل لها بل يختصُّ الخطاب بمَن طُلب منه التحمُّل للشهادة، ولو قيل إنَّ اللام في الشهداء ليست ظاهرة في العهد فهي ليست ظاهرة أيضاً في إرادة الجنس لصلاحيَّة القرينة المذكورة لسلب ظهور اللام في إرادة الجنس، فتكون دلالة الآية قاصرة عن إثبات وجوب أداء الشهادة على غير من استُشهد عليها.
الاستدلال بآية النهي عن كتمان الشهادة:
وكذلك يُمكن الاستدلال على وجوب أداء الشهادة وحرمة كتمانها بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾(4) فالآية ظاهرة في حرمة كتمان الشهادة بعد تحمُّلها، نعم ليس للآية ظهورٌ في شمول الخطاب لمَن كان تحمُّله للشهادة اتفاقياً وعن غير طلب، وذلك إمَّا لظهور لام الشهادة في العهدية أو عدم ظهورها في إرادة الجنس.
ومع التسليم بظهورها في إرادة الجنس المقتضي للإطلاق فإنَّه يتعيَّن رفع اليد عن هذا الظهور، وذلك لتصريح الروايات بأنَّ مَن يجب عليه أداء الشهادة هو مَن كان تحمُّله لها نشأ عن طلب التحمُّل للشهادة دون مَن كانت شهادته اتفاقيَّة.
فمِن ذلك صحيحة هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِذَا سَمِعَ الرَّجُلُ الشَّهَادَةَ ولَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ شَهِدَ وإِنْ شَاءَ سَكَتَ، وقَالَ: إِذَا أُشْهِدَ لَمْ يَكُنْ لَه إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ(5).
إذا تحمَّل الشهادة عن غير طلب:
الفرض الثاني: أنْ يكون التحمُّل للشهادة وقع اتفاقاً ودون طلبٍ من ذوي الشأن، وفي هذا الفرض نصًّت الروايات على أنَّ للشاهد الخيار، فله أنْ يشهد وله أنْ لا يشهد، فمِن ذلك صحيحة هشام المتقدمة.
ومنه: صحيحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: إِذَا سَمِعَ الرَّجُلُ الشَّهَادَةَ ولَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ شَهِدَ وإِنْ شَاءَ سَكَتَ"(6).
ومنه: رواية مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) عَنِ الرَّجُلِ يَحْضُرُ حِسَابَ الرَّجُلِ فَيَطْلُبَانِ مِنْه الشَّهَادَةَ عَلَى مَا سَمِعَ مِنْهُمَا فَقَالَ: ذَلِكَ إِلَيْه إِنْ شَاءَ شَهِدَ وإِنْ شَاءَ لَمْ يَشْهَدْ، فَإِنْ شَهِدَ بِحَقٍّ قَدْ سَمِعَه وإِنْ لَمْ يَشْهَدْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْه لأَنَّهُمَا لَمْ يُشْهِدَاه"(7).
حرمة الكتمان إذا كان طرف الخصومة ظالماً:
فأداءُ الشهادة لا يكون لازماً إذا كان التحمُّل للشهادة وقع اتفاقاً ودون طلبٍ من ذوي الشأن، نعم لو علم الشاهد أنَّ أحد طرفي الخصومة ظالم للآخر ففي هذا الفرض يجب عليه لدفع الظلم الأداء للشهادة وإنْ لم يكن تحمله للشهادة قد تمَّ بطلب من ذوي الشأن، ويدلُّ على ذلك مثل موثقة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(ع) قَالَ: "إِذَا سَمِعَ الرَّجُلُ الشَّهَادَةَ ولَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ شَهِدَ وإِنْ شَاءَ سَكَتَ إِلَّا إِذَا عَلِمَ مِنَ الظَّالِمِ فَلْيَشْهَدْ ولَا يَحِلُّ لَه إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ"(8)
المؤيَّدة بمعتبرة يُونُسَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِذَا سَمِعَ الرَّجُلُ الشَّهَادَةَ فَلَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ شَهِدَ وإِنْ شَاءَ سَكَتَ إِلَّا إِذَا عَلِمَ مِنَ الظَّالِمِ فَيَشْهَدُ ولَا يَحِلُّ لَه أَنْ لَا يَشْهَدَ "(9).
وجوب الأداء عينيٌّ أو كفائي:
ثم إنَّه وقع البحث في أنَّ وجوب الأداء للشهادة في الفرض الأول هل هو عينيٌّ أو هو كفائي؟
أفاد صاحب الجواهر(10) أنَّ ظاهر كلمات الأصحاب هو الإطباق على الكفائيَّة، وأفاد أنَّه استفاض في عباراتهم نقل الاجماع ونفي الخلاف على ذلك، وأفاد أنَّ المؤيِّد لدعوى كفائية وجوب الأداء للشهادة هو أنَّ الحكمة من جعل الوجوب هو إثبات الحق والتحفُّظ عليه من الضياع، وذلك لا يتوقف على شهادة جميع الشهود فيكفي في تحقُّقه قيام ما تتمُّ به البيِّنة أو قيام ما به يثبت الحق كاليمين، ومقتضى ذلك هو كفائية الوجوب.
إلا أنَّ ذلك خلاف ظاهر النصوص التي دلَّت على وجوب الأداء للشهادة وحرمة كتمانها كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ فإنَّ الظاهر من ذلك هو الإطلاق وأنَّ الشاهد مكلَّف بوجوب الأداء وعدم الكتمان للشهادة سواءً انحصر طريق إثبات الحقِّ بشهادته أو كان ثمة طريقٌ آخر لإثبات الحق، فوجوبُ الأداء للشهادة لم يقيَّد في النصوص بما إذا انحصر إثبات الحق بشهادته، فمقتضى الإطلاق هو عينيَّة الوجوب.
نعم لو اتَّفق تعدُّد الشهود بما يزيد على مقدار تحقق البينة العادلة فطلب المدَّعي حضور الجميع فإنَّ الظاهر هو عدم وجوب الحضور على الجميع لأنَّ الحق المطلوب إثباته يتحقَّق بحضور ما به تتمُّ البينة، فلا موجب ظاهراً لحضور الجميع، فيلتزم بكفائية الوجوب في مثل هذا الفرض.
وبهذا يتبين -كما أفاد السيد الخوئي(11)- أنَّه لو اتَّفق اثبات المدَّعي لحقِّه من طريقٍ آخر غير البينة أو حكم القاضي له بعلمه فانتهت بذلك الخصومة، ففي مثل هذا الفرض لا يجب على الشاهد الأداء لشهادته، وذلك لانتفاء موضوع الوجوب لأداء الشهادة، وذلك لأنَّ موضوع الوجوب هو إثبات الحق وقد ثبت بحسب الفرض.
حكم تحمُّل الشهادة عند الطلب:
هذا ما يتصل بأداء الشهادة بعد تحمُّلها ويقع الكلام بعد ذلك في أنَّ تحمُّل الشهادة هل هو واجب في فرض الطلب كما لو أراد أحدٌ أن يُوصي فطلب من آخر أنْ يشهد على وصيته أو أراد أن يُطلِّق أو أن يُبرم عقداً فاستشهد أحداً على ذلك فهل يجب عليه القبول بتحمُّل الشهادة أو لا يجب عليه ذلك؟
المشهور شهرة عظيمة -كما أفاد صاحب الجواهر(12)- هو وجوب تحمُّل الشهادة على مَن دُعي إليها، ونُسب القول بعدم الوجوب إلى ابن إدريس رحمه الله تعالى.
واستُدلَّ على الوجوب بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ فهذه الآية وإنْ كانت ظاهرة بدواً في النهي عن كتمان الشهادة بعد تحمُلها كما بيَّنا ذلك فيما تقدَّم إلا أنَّ الروايات الواردة عن أهل البيت(ع) أفادت أنَّ المخاطَبين بعدم الإباء هم المكلَّفون إذا دُعوا لتحمُّل الشهادة، وأهل البيت (ع) أعلم بمقاصد الكتاب المجيد، وعليه يكون أطلاق عنوان الشهداء عليهم بلحاظ تلبسهم بالشهادة بعد تحمُّلها فيما بعد تماماً هو الشأن في المراد من قوله تعالى: ﴿لَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾(13) فإنَّ إطلاق عنوان الكاتب عليه رغم عدم تلبُّسه بعدُ بالكتابة إنَّما هو باعتبار ما يأتي، فيصح عرفاً إطلاق الوصف على مَن لم يتلبس بالحدث بلحاظ تلبُّسه به فيما بعد إذا دلَّت القرينة على إرادته كما في الآية الشريفة وكما في قول مَن عزم على السفر إنِّي مسافر رغم أنه لم يتلبَّس بعدُ بالسفر.
وكيف كان فالآية بضميمة الروايات تصلح دليلاً على وجوب تحمُّل الشهادة إذا دُعي إليها، فمِن تلك الروايات صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ﴾ قال: قبل الشهادة، وقوله:﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ﴾ قال: بعد الشهادة"(14).
ومنه: صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا﴾ فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ إِذَا دُعِيَ إِلَى شَهَادَةٍ يَشْهَدُ عَلَيْهَا أَنْ يَقُولَ لَا أَشْهَدُ لَكُمْ، وقَالَ: فَذَلِكَ قَبْلَ الْكِتَابِ"(15).
ومنه: موثقة سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا﴾ فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ إِذَا دُعِيَ إِلَى الشَّهَادَةِ يَشْهَدُ عَلَيْهَا أَنْ يَقُولَ لَا أَشْهَدُ لَكُمْ"(16).
ثم إنّ الظاهر من الآية والروايات أنَّ وجوب التحمُّل للشهادة عند الطلب عينيٌّ بمقتضى إطلاق الأمر بالتحمُّل والنهي عن الإباء للتحمُّل عند الطلب سواءً وُجد من يقوم بالتحمُّل أو لم يوجد.
نعم إنَّما يجب القبول بتحمُّل الشهادة إذا لم يترتَّب الضرر على ذلك، وكذلك هو الشأن في وجوب الأداء بعد التحمُّل للشهادة فإنَّ الأداء إنَّما يجب في فرض عدم الضرر وإلا فمعه ينتفي الوجوب لحكومة قاعدة نفي الضرر المقتضية لانتفاء كلِّ حكم إلزامي ينشأ عنه الضرر.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
13 / رجب المعظم / 1446ه
14 / يناير / 2025م
1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص183.
2- سورة البقرة / 282.
3- سورة البقرة / 283.
4- سورة البقرة / 283.
5- الكافي -الكليني- ج7 / ص381، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص318.
6- الكافي -الكليني- ج7 / ص381، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص318.
7- الكافي -الكليني- ج7 / ص382، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص319.
8- الكافي -الكليني- ج7 / ص382، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص318.
9- الكافي -الكليني- ج7 / ص382، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص318.
10- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص184
11- الشهادات والحدود -السيد الخوئي- ج2 / ص35.
12- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص180.
13- سورة البقرة: 282.
14- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص309.
15- الكافي -الكليني- ج7 / ص380، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص310.
16- الكافي -الكليني- ج7 / ص379، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص310.