مفطريَّة الإرتماس للصائم
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما هو الوجه فيما ذهب إليه المشهور من مفطريَّة الارتماس للصائم؟
الجواب:
المشهور -ظاهراً -بين الفقهاء رضوان الله عليهم هو مفطريَّة الارتماس في الماء للصائم وأنَّ فعله موجبٌ لفساد الصوم وموجبٌ للقضاء والكفارة بل ادُّعي الاجماع على ذلك -كما أفاد صاحب الجواهر(1)- وفي مقابل ما ذهب إليه المشهور نُسب إلى عددٍ من الفقهاء -كالشيخ في الاستبصار، والمحقِّق في المعتبر، والعلامة في المنتهى والمختلف، والسيد العاملي في المدارك- القول بحرمة الارتماس في الماء تكليفاً دون اقتضائه لفساد الصوم، فلا يجب بفعله القضاء والكفارة، وثمة قولٌ ثالث هو أنّ الارتماس مكروه موجبٌ لنقصان الصوم لكنَّه لا يُوجب فساده، فلا يوجب قضاءً ولا كفارة نُسب ذلك إلى السيِّد المرتضى في أحد قوليه وابن أبي عقيل وابن إدريس الحلِّي، وثمة قولٌ رابع نُسب إلى ابن أبي الصلاح وهو أنَّ الارتماس في الماء موجبٌ لفساد الصوم إلا أنَّه لا يترتَّب على فعله سوى القضاء(2).
أمَّا مستند المشهور فرواياتٌ عديدة:
منها: صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لا يرتمس المحرم في الماء، ولا الصائم"(3).
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "الصائم يستنقعُ في الماء، ويصبُّ على رأسه، ويتبرَّد بالثوب، وينضحُ بالمروحة، وينضحُ البوريا تحته، ولا يغمس رأسَه في الماء"(4).
ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "الصائمُ يستنقعُ في الماء ولا يرمسُ رأسَه"(5).
ومنها: صحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لا يرتمسُ الصائم، ولا المحرم رأسَه في الماء"(6).
أقول: النفي في الروايات المذكورة ظاهرُ في الانشاء والنهي، وأنَّ الصائم منهيٌ عن الارتماس أثناء الصوم، والنهي في مثل المقام ظاهر عرفاً في الارشاد إلى مانعيَّة المنهيِّ عنه للصحَّة، فهو ظاهر في الإرشاد إلى فساد الصوم وأنَّ الارتماس مفسِدٌ له تماماً كما هو الشأن في النهي عن الكلام في الصلاة والنهي عن استدبار القبلة فإنَّ ذلك ظاهرٌ في الإرشاد إلى مانعيَّة الكلام الآدمي لصحَّة الصلاة، ومانعية الاستدبار لصحَّة الصلاة وأنَّ عدمه شرط في الصحَّة، والذي يؤكد ظهور النهي -في مثل المقام- في الارشاد إلى الفساد هو أنَّ الروايات نهت عن الارتماس في مطلق الصوم بما في ذلك الصوم المندوب والذي يجوز تركه اختياراً من رأس ولا يحرم إفساده، فلا معنى للنهي عن الارتماس في الصوم المندوب إلا اشتراط صحَّته بترك الارتماس.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم قال: سمعتُ أبا جعفرٍ عليه السلام يقول: "لا يضرُّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب، والنساء، والارتماس في الماء"(7).
أقول: وهذه الصحيحة أظهر في إفادة مفطريَّة الارتماس من الروايات السابقة، فمضافاً إلى ورود الارتماس في سياق ما هو معلومٌ كونه مفطِّراً ومُفسِداً للصوم فإنَّ عدَّ الارتماس ممَّا يضرُّ بالصوم ظاهرٌ شديداً في أنَّه يضرُّ بصحته تماماً كما يضرُّ الطعام والشراب بصحَّة الصوم خصوصاً وأنَّ الرواية لم تُقيِّد الصوم بالواجب، ولهذا فالرواية ظاهرة بمقتضى الاطلاق أنَّ الارتماس يضرُّ بالصوم المندوب، وذلك يقتضي عدم إرادة الحرمة التكليفيَّة من إضرار الارتماس بالصوم، إذ أنَّ الصوم المندوب يجوز تركه اختياراً ولذلك يتعيَّن استظهار إرادة الفساد ممَّا أفاده (ع) أنَّ الارتماس يضرُّ بالصوم.
ومنها: رواية أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه باسناده رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خمسة أشياء تفطر الصائم الأكل، والشرب، والجماع، والارتماس في الماء، والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة عليهم السلام"(8).
أقول: هذه الرواية صريحةٌ في المطلوب ولكنّها ضعيفة السند لكونها مرفوعة، فهي صالحة للتأييد، وبذلك يتَّضح مستند المشهور في البناء على مفطريَّة الارتماس في الماء وأنَّه موجبٌ لفساد الصوم، وأنَّ من تعمّد فعله لزمه القضاء والكفارة. نعم ثمة رواية معتبرة السند تقتضي خلاف ذلك وهي موثقة إسحاق بن عمار قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: رجلٌ صائم ارتمس في الماء متعمِّداً عليه قضاء ذلك اليوم؟ قال: ليس عليه قضاؤه ولا يعودنَّ"(9).
والرواية كما هو واضح صريحةٌ في أنَّ الارتماس لا يُوجب قضاءً ولا كفارة، ومعنى ذلك أنَّه غير مُفسِدٍ للصوم، ولعله لذلك استظهر بعضُ الفقهاء من النهي عن الارتماس إرادة الحرمة التكليفيَّة وأنَّ ذلك هو مقنضى الجمع بين النهي عن الارتماس الوارد في الطائفة الأولى والحكم بعدم اقتضائه للقضاء والكفارة كما هو صريح موثقة إسحاق، ويُؤيده قوله (ع) في الموثقة: "ولا يعودن" إذ لا معنى للنهي عن العودة إلا الحرمة بعد أنّْ لم يكن الارتماس مُوجباً -بحسب الرواية- للقضاء والكفارة.
إلا أنَّ هذا الجمع -كما أفاد السيد الخوئي(10)- لا يستقيم مع مثل صحيحة محمد بن مسلم الشديدة الظهور في أنَّ الارتماس موجبٌ لبطلان الصوم، فالصحيح أنَّ التعارض بين موثقة إسحاق وبين مثل صحيحة محمد بن مسلم مستقرٌّ، ولا يُمكن الجمع العرفي بينهما، إذ أنَّ مفاد موثَّقة إسحاق هو عدم فساد الصوم بالارتماس، ومفاد مثل صحيحة محمد بن مسلم هو الفساد، ولا يمكن الجمع بين الحكم بالفساد والحكم بعدمه.
ومن ذلك يتَّضح الجواب عما قيل من أنَّ الجمع بين الطائفتين يقتضى حمل الروايات الناهية عن الارتماس على الكراهة، فإنَّ الكراهة التكليفيِّة منافيةٌ لمثل صحيحة محمد بن مسلم الشديدة الظهور في إفادة فساد الصوم بالارتماس، وأما الكراهة الوضعيَّة فهي غير متعقلة -كما أفاد السيد الخوئي(11)- فإنَّ الارتماس إمَّا أنْ يكون موجباً لبطلان الصوم، وإمَّا أنْ لا يكون موجباً للبطلان، فدعوى أنَّ الارتماس موجبٌ لمرتبةٍ من البطلان ليس لها معنىً محصَّل.
وعليه فالصحيح هو استقرار التعارض بين الروايات النافية للصحة وبين موثقة إسحاق، وحيث إنَّ الروايات النافية للصحَّة مستفيضةٌ وموجبةٌ للاطمئنان بالصدور إجمالاً فالمتعيَّن هو طرح موثقة إسحاق لعدم مكافئتها للروايات النافية للصحَّة بعد افتراض استفاضتها والاطمئنان بصدورها في الجملة.
ومع البناء على التكافؤ في الحجيَّة لولا التعارض فالمرجع هو مرجِّحات باب التعارض، وهي تقتضي الترجيح للروايات النافية للصحَّة، وذلك لأنَّ مفاد موثقة إسحاق موافقٌ لما يُفتي به العامَّة من عدم فساد الصوم بالارتماس فتُحمل الموثقة على التقية، وأمَّا قوله (ع) بعد نفي القضاء والكفارة: "ولا يعودن" فمناسبٌ لما يفتي به الحنابلة من كراهة الارتماس إذا لم يكن للتبريد ولم يكن للغسل كما أفاد ذلك السيد الخوئي(12).
فموثَّقة إسحاق موافقةٌ لما عليه العامَّة، وذيلها مناسبٌ لما يفتى به الحنابلة، ولهذا تُحمل على التقية ويتعيَّن البناء على ما أفادته الطائفة الأولى من الروايات من اعتبار الارتماس موجباً لفساد الصوم المقتضي للقضاء والكفارة كما عليه مشهور الفقهاء.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
29 شعبان 1446
28 فبراير 2025م
1- جواهر الكلام -الشيخ حسن النجفي- ج16 / ص227.
2- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج13 / ص133.
3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص36.
4- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص36.
5- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص38.
6- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص38.
7- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص31.
8- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص34.
9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج10 / ص43.
10- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج11 / ص161.
11- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج11 / ص164.
12- المستند في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج11 / ص164.