ينهى عن المنكر وهو يرتكبه
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
لدي سؤال، وأرجوا الإجابة عنه لتجنب الاشتباه
يجب على المكلف النهى عن المنكر إذا توفَّرت جميع شرائط الوجوب في حقِّه، حتى وإن كان الناهي يفعل نفس المنكر، لكن هناك آيات وروايات يفهم منها عدم جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال أنَّ المكلف يرتكب نفس المنكر، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(1) ومنه ما رُوي عن الصادق ﷺ أنَّه قال: ".. وأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلاً ثُمَّ خَالَفَه إِلَى غَيْرِه"(2) ومنه: ما رُوي عنه (ص) أنه قال:"إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلاً وعَمِلَ بِغَيْرِه". فكيف نجمع بين الأمرين؟
وجزاكم الله خيرا ونسألكم الدعاء
الجواب:
نعم يجب على كلِّ مكلَّفٍ النهي عن المنكر إذا توفَّرت في حقِّه شرائط الوجوب فهو مكلَّف بالنهي عن المنكر في هذا الفرض وإنْ كان يرتكب ذات المنكر، فإطلاقات أدلَّة وجوب النهي عن المنكر لا تختصُّ بمَن التزم اجتناب المنكر.
وأمَّا قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ وكذلك قوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ / كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾(4) فهو لا يدلُّ على عدم جواز الأمر بالمعروف في فرض عدم الائتمار به وعدم جواز النهي عن المنكر في فرض عدم الانتهاء عنه، فمثل هذه الآيات وكذلك الروايات المشتملة على ذات المضمون إنَّما هي بصدد التشنيع والنهي عن فعل المنكر رغم التظاهر بالنهي عنه والتشنيع والنهي عن ترك المعروف رغم التظاهر بالائتمار به، فالمنهيُّ عنه في مثل هذه النصوص هو فعلُ المنكر وتركُ المعروف وليس هو النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، والمنهيُّ عنه كذلك هو التظاهر بالائتمار بالمعروف والتظاهر بالانتهاء عن المنكر، فإنَّ التصدِّي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُوحي للمتلقِّي أنَّ المتصدِّي للأمر والنهي ملتزمٌ بفعل ما يأمرُ به وتركِ ما ينهى عنه، وذلك ما يستبطنُ الكذب المعبِّر إمَّا عن النفاق أو التهاون والاستخفاف وعدم الصدق وهذا وما نشأ عنه التشنيع.
ففعلُ المنكر قبيحٌ وهو أشدُّ قبحاً حين يصدر من المتصدِّي للنهي عنه، وذلك لأنَّه يعبِّر عن النفاق أو الابتلاء بالرياء أو يعبِّر عن التهاون والاستخفاف وعدم المبالاة بأحكام الدين.
فمفاد الآيات الروايات المتصدِّية للتقريع والتوبيخ لمَن يتصدَّى للنهي عن المنكر دون أن ينتهي عنه هو حثُّ المتصدِّي للنهي على الالتزام بما ينهى عنه وليس مفادها النهي عن التصدِّي للنهي عن المنكر، فالتصدِّي للنهي عن المنكر حسنٌ في نفسه، والمستقبح أو المستهجَنُ هو عدم الانتهاء عن المنكر والتظاهر بالانتهاء عنه والتلبُّس بلباس المنتهي عن المنكر.
ولهذا لا يُحاسب المتصدِّي للنهي عن المنكر على تصدِّيه للنهي عنه وإنَّما يُحاسب على فعل المنكر وعلى نفاقه أو ريائه أو استخفافه. فالآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ توبِّخ الآمرين بالبرِّ ليس على أمرهم الناس بالبرِّ وإنَّما تُوبِّخهم على نسيان أنفسهم يعني على تركهم للبرِّ رغم أنَّهم عالمون يتلون الكتاب، فتركُهم للبرِّ مع تصدِّيهم للأمر به يكشفُ عن نفاقِهم وخبث سرائرهم أو يكشف عن استخفافهم، وذلك هو ما نشأ عنه التقريع المشدَّد والعذاب المشدَّد يوم القيامة.
وكذلك هو الشأن في مفاد قوله (ع): "من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره" فإنَّ وصف العدل مستحَسن في نفسه، والقبيحُ إنَّما هو العمل بغيره، وإنَّما استحقَّ الواصفُ للعدل العاملُ بغيره للعذاب المشدَّد لأنَّ عمله بغير العدل -والذي لم ينشأ عن غفلةٍ أو جهل- يساوقُ الاستهزاء أو الاستخفاف بالعدل ومقتضياته وقد يكشف عن النفاق أو الرياء.
وخلاصة القول: إنَّ مؤدى الآيات والروايات المستهجِنة والمتصدِّية للتشنيع على مَن ينهى عن المنكر وهو يفعله هو ما عليه العقلاء من الاستهجان والذمِّ لمَن يأمرُ بالصلاح والإصلاح وهو مفسد أو ينهى عن الظلم ويرتكبه، فالعقلاءُ إنَّما يستهجنون منه عدم الالتزام بما يأمرُ به وينهى عنه، ويعتبرون ذلك من النفاق السياسي والمكر والخديعة، وهي صفات مستهجَنة وممقوتة لدى العقلاء. فهم حينما يعيبون على هؤلاء إنَّما يعيبون على نفاقهم ومكرهم المستكشَف عن عدم التزامهم بما يأمرون به من الخير والصلاح وبما ينهَون عنه من الشرور والفساد.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
27 / ذي الحجَّة / 1446ه
23 / يونيو / 2025م
1- سورة البقرة / 44.
2- الكافي -الكليني- ج2 / ص176.
3- الكافي -الكليني- ج2 / ص300.
4- سورة الصف / 2-3.