الحرية السياسية في الإسلام

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾(1)

صدق الله العلي العظيم

 

قلنا في أحاديث سابقة أنَّ اتضاح مفهوم الحرية -من وجهة النظر الإسلاميّ- يستدعي شيئاً من التفصيل عن أقسام الحرية، وقد تحدثنا فيما سبق عن الحرية الشخصية، وكذلك تحدثنا عن الحرية الفكرية العقيدية، ونتحدث في هذه الجلسة -إن شاء الله تعالى- عن قسم آخر من أقسام الحرية وهي الحرية السياسية.

 

الحرية السياسية في المنظور الديمقراطي:

المقصود من الحرية السياسية من وجهة النظر الديمقراطي: هو أنَّ لكلِّ أحدٍ من أفراد الأمة الحق في تقرير كلِّ ما يتصل بشؤون الأمة -سواء العام منها أو الخاص-، فكلُّ فردٍ له الحق في أن يساهم في سنِّ القوانين، كما وأنَّ له الحق في أن يُساهم في إعداد البرامج، والخطط، المرتبطة بالحياة العامة، وكذلك الخاصة. كما أنَّ له الحقّ في تعيين السلطات التي تحمي هذه القوانين، كالسلطة التنفيذية، وكذلك السلطة التشريعية، وهكذا السلطة القضائية. كما أنَّ له الحق -من وجهة النظر الديمقراطي- في أن يشغل أيّ منصبٍ من المناصب الإدارية. هذا هو المراد من الحرية السياسية، وهذه هي المساحة التي أُعطيت لكلِّ فردٍ من أفراد المجتمع في المنظور الديمقراطي.

 

معنى الحرية السياسية في النظر الإسلامي:

وأما ما هو المقصود بالحرية من وجهة النظر الإسلاميّ، فهي لا تختلف عمَّا هو المراد بالحرية بحسب المنظور الديمقراطي إلَّا في مسألة: وهذه المسألة في الواقع مسألة جوهرية، وهي ما أكدنا عليه في أوائل حديثنا حول مفهوم الحرية، حيث قلنا هناك أنَّ الحرية -بحسب المنظور الإسلامي- هي الحرية التي تكون في إطار المسؤولية الإلهية المناطة بالإنسان من قِبَل الله -جلَّ وعلا-، ومساحتها يجب أن لا تتعدى القيم الإنسانية، كما أنها يجب أن لا تتعدى حرِّيات الآخرين. هذا هو تعريف الحرية من وجهة النظر الإسلامي، ولمَّا كان كذلك، كانت الحرية السياسية تتحرك في نفس هذا الإطار، فالحرية السياسية تُعطي لكلِّ فردٍ الحقَّ في أن يُساهم في كلِّ ما يتصل بالشؤون العامة، تُعطي لكلِّ أحدٍ الحق بأن يُساهم مساهمة فعَّالة في كلِّ ما يرتبط بالشؤون العامة، ولكن في إطار الحدود الشرعية (2)، فأيُّ تعدٍّ على الحدود الشرعية فإنه مُنافٍ لمساحة الحرِّية المُعطاة من قِبَل الله -عز وجل- للإنسان.

 

ركنا النظام الحكومي:

وهنا لابد من الإشارة الى مسألة مهمة، وهي: أنَّ أيّ حكومة في الأرض، فهي تقوم على أساس ركنين، وهما اللذان يؤهلان هذه الحكومة في أن تسود البلاد والعباد، وهما اللذان يُعطيان للحكومة القوة، والنفاذ، والصلاحية في إعداد البرامج والخطط وتنفيذها. وأيّ حكومة تكون مفتقرة لواحدٍ من هذين الركنين فإنَّها حكومة لا جدوى، منها فهي إما أن تكون قائمة على الاستبداد والظلم، أو لا تكون لها فاعلية. هذان الركنان هما:

 

الركن الأول: الشرعية:

أن يكون هناك مصدرٌ يُعطي الشرعية لهذه الحكومة، فما لم يكن ثمَّة مصدر يُعطي الشرعية لهذه الحكومة فإنَّ هذه الحكومة تكون غير شرعية، وليس لها حقِّ النيابة والإدارة لشؤون المجتمع.

 

الركن الثاني: الخطط والبرامج التي تستهدف المصلحة العامة:

أن تكون لهذه الحكومة برامج وخطط تصبُّ في إطار المصلحة العامة للمجتمع.

 

فأيُّ حكومةٍ من الحكومات تكون مفتقرة لأحد هذين الركنين، فإنَّها لا تكون إلَّا حكومة استبداد، أو حكومة فاقدة للفاعلية، فيكون وجودها كعدمها، وعندئذ يسود الهرج والمرج، ويختلُّ النِّظام، وتسود الاضطرابات، وينعدم الأمن.

 

ركنا الحكومة في التطبيق الديمقراطي:

تطبيق الركن الأول: مصدر الشرعية هو الناس:

النظرية الديمقراطية تقول -أو تتبَّنى- أنَّ مصدر مشروعية أيِّ حكومة من الحكومات، يقوم على أساس التعاقد الاجتماعيّ. بمعنى أنَّ الذي يؤهِّل الهيئة الحكومية للحكم، والذي يُعطي الحكومة الصلاحية، والقدرة، والنفوذ، هم الناس أنفسهم. فالناس هم الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وهذا ما يُعبَّر عنه بالتعاقد الاجتماعي، بمعنى أنَّ المجتمع يختار بعضاً من أفراده؛ ليقوم بدور الولاية، وبدور تنفيذ البرامج التي تصبُّ في صالح المجتمع، فلا سيادة لأحدٍ على أحد -بحسب المنظور الديمقراطي-، بل إنَّ كلَّ أحدٍ يُساهم في برامج الدولة، وخططها، وسنِّ قوانينها، وذلك إما من خلال انتخاب مجموعة من أفراد المجتمع؛ ليقوموا بهذا الدور. أو بأن يتم التصويت المباشر على كلِّ قانون من القوانين التي يُراد سنّها. أو يكون بالتلفيق: بأن تُنتخب مجموعة من الأفراد، تكون لهم بعض الصلاحيات، ويساهمون في سنِّ مجموعة من القوانين، وتكون ثمَّة قوانين أخرى مصوَّتٌ عليها من قِبَل المجتمع مباشرةً. وحينئذٍ لا تكون سيادة لأحد على أحد، وإنما تكون لهذه الهيئة الحكومية الصلاحية، والقوة، والنفوذ؛ باعتبار تخويل الشعب لها: ولو سحب الشعب هذا التخويل، وهذه الصلاحية، فإنَّ الحكومة تكون لاغية.

 

تطبيق الركن الثاني: المصلحة العامة يكفلها المجتمع:

وأما عن الأساس الثاني الذي يجب أن تتوفر عليه هذه الحكومة، وهو أن تكون برامجها في إطار المصلحة العامة، فهي مكفولةٌ بحسب النظرية القائمة؛ إذ أنَّ المصلحة العامة سوف تكون مرعيَّة، باعتبار أنَّ هؤلاء يُمثِّلون المجتمع، ومن الطبيعيّ أن يحرصوا على مصالح المجتمع، فالمجتمع بأكمله يحرص على التحفُّظ على مصالحه. وبهذا تكون الحكومات الديمقراطية واجدة لكلا الركنين الأساسيين الذين تتقوم بهما الحكومة، الركن الأول: مصدر المشروعية، وهم الناس أنفسهم. والركن الثاني: أن تكون برامجها تصبُّ في إطار المصلحة العامة، وهي واجدةٌ لهذا الركن -كما أوضحنا ذلك بنحو الاختصار-. فإذن، الأساس الذي تقوم عليه الحكومات الديمقراطية هو التعاقد الاجتماعيّ -كما نصّ على ذلك المُنظِّر الأوَّل للحركة الدِّيمقراطية، وهو المفكر الفرنسي "جان جاك روسو"، أحد قادة الثورةٍ الفرنسية-.

 

ركنا الحكومة في التطبيق الإسلامي:

تطبيق الركن الأول: مصدر الشرعية هو الله (عزوجل): أما الحكومة الإلهية، فهل هي واجدة لهذين الركنين، أو لا؟

 

نقول: نعم، من وجهة النظر الإسلامي فإنَّ مصدر الشرعية للحكومة لا يكون إلَّا ممن له الولاية الحقيقية على العباد، فالذي يُؤهِّل أيُّ فردٍ، أو أيُّ هيئةٍ، للتصدِّي لشؤون المجتمع، وتدبير أموره، وحماية مقدراته، وتتبُّع ما يرتبط، وما يصبُّ في إطار مصالحه، إنما هو الوليّ الحقيقي، فإنما تُطاع الحكومة، ويكون لها نفوذٌ وقوة، باعتبار أنَّها تستمدُّ مشروعيتها من الله، فالحاكم -بحسب النظر الإسلاميّ- على العباد هو الله -عز وجل- بالأصالة، الله تعالى هو سيد الخلق، وحاكمهم، وهو ربُّهم، وسائسهم، وليس ثمَّة لأحدٍ من حقٍّ في أن يسوس العباد بمعزلٍ عن ولاية الله وحاكمتيه. لا العباد أنفسهم لهم هذه الصلاحية، في أن يقيموا لهم مَن يقوم بهذه المهمة، ولا لأيِّ فرد آخر أن يتصدَّى -ابتداء وتبّرعاً- للقيام بهذه المهمة، ومبرِّر؛ ذلك هو أنَّ الله تعالى هو خالق العباد، وهو المُنعم، وهو الذي له حقُّ الطاعة فرضاً على العباد، ولا سيادة لأحدٍ على أحد، وليس ثمَّة من حقٍّ لأحد بأن يجعل السيادة لأحد. فالسيد الحقيقي، والولي الحقيقي والحاكم الحقيقي للعباد والبلاد هو الله -عز وجل-، والذي يُعطي الأهليَّة لأيِّ حكومة أن تتصدَّى لشؤون المجتمع هو الله، فإذا خوَّل اللهُ بعضَ عباده للقيام بهذه المهمة فإنَّ الحقَّ يكون له، باعتبار التخويل الإلهيّ، قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(3).

 

فإذن، المصدر الذي يُعطي الشرعيَّة لأيِّ حكومة -من وجهة النظر الإسلاميّ- هو الله -عز وجل-، لذلك جعلَ رسولَ الله وليّاً على عباده، فقال: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾(4)، وجعل لعليٍّ الولاية، لأنَّ الله لمَّا كان قد خوَّل النبيّ، وأعطاه الولاية على الناس، بلَّغه أن يجعل الولاية من بعده لعليٍّ (ع)، فقال: "من كنت مولاه، فعليٌّ مولاه"(5). فمصدر شرعيَّة الولاية لعليٍّ (ع) على الناس ليس هو ذاته، فهو ليس وليّاً بالأصالة، فالوليُّ بالأصالة هو الله -عز وجل-، وإنما جُعلت لعليٍّ بالتخويل الإلهيّ.

 

تطبيق الركن الثاني: المصلحة العامة تكفلها الأحكام الشرعية:

يبقى الكلام عن الأساس الثاني الذي تتقوَّم به كلُّ حكومة من الحكومات، وكلُّ ولاية من الولايات، وهل هو متحقِّق من وجهة النظر الإسلامي، أو لا؟

 

نقول: نعم. الركن الثاني هو أن تكون برامج الحكومة تصبُّ في إطار المصلحة العامة للمجتمع، وأيُّ أحد أعرف بمصالح العباد من خالق العباد؟! لن يكون أحدٌ أعرف بما يُصلِح العباد من ربِّ العباد.

 

الله -عز وجل- سنَّ أحكاماً وقوانين وتشريعات، وكان مٍلَاك تشريع هذه الأحكام هو المصلحة التي تعود للعباد، فالله -عزَّ وجلَّ- لا تعود إليه أيُّ مصلحة، ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾(6).

 

إذا اتضحت هذه المقدَّمة، واتضح أنَّ الحرية التي جعلها الله لعباده لابدَّ وأن تكون في إطار الحدود الشرعية، نصل إلى بيان مساحة الحرية السياسية التي أُعطيت للناس.

 

قلنا إنَّ الله -عز َّوجلَّ-، وإنَّ الشريعة أعطت للعباد الحقَّ في أن يُساهموا في جميع ما يتصل بالشؤون العامة للأمة، ولكن في إطار الحدود الشرعية. الإسلام هو أوَّل من أعطى هذه الحرية، وهي حرية تتحرك في مجموعة من المساحات المرتبطة بالشؤون السياسية:

 

أولا: الحرية في شغل أيِّ منصب من دون تمييز:

إنَّ لكلِّ أحدٍ الحقّ في أن يشغل أيَّ منصبٍ من المناصب الإدارية، فليس هناك أيُّ اعتبار للحالة الاجتماعية، ولا للوضع الاقتصاديّ، ولا للعمر، كما أن الشريعة أهملت الجانب العرقيّ. كلُّ هذه المقاييس -التي كان لها اعتبار عند مجموعة من الحضارات قبل بعثة الرسول الكريم (ص)- فإنها لا تُراعى في الإسلام، فلكلِّ أحدٍ حقُّ شغلِ أيِّ منصبٍ -مهما كان خطيرا -بقطع النظر عن وضعه الاقتصادي، فالفقير والغنيّ سواء من جهة هذا الحقّ. كما أنه لا فرق بين عربيّ ولا أعجميّ، فالجنس، والعرق لا يحولان دون هذا الحقّ. فكلُّ أحدٍ له الحق في أن يشغل منصباً من المناصب الإدارية، بقطع النظر عن جنسه، ومن أيِّ بلد، ومن أيِّ عرقٍ حضر، كما أنَّ العمر غير ملحوظ، وهكذا وهكذا سائر الاعتبارات، فجميعها غير ملحوظ، بل إنَّ المناط الأوَّل والأخير هو الكفاءة.

 

أعلى منصب -في زماننا- متاحٌ للجميع ومن دون تمييز:

أعلى منصب للمجتمع هو الولاية العامة، وهذه الولاية العامة إما أن تكون مجعولة بنحو التعيين، فتكون للنبي (ص)، أو للإمام (ع)، فإذا خلا الزمانُ من النبي والإمام، وكانت الولاية للفقيه -كما هو مقتضى وجهة النظر الإسلامية-، فإنَّ هذا الفقيه تكون له الولاية بقطع النظر عن حالته الإجتماعية، وحالته الاقتصادية، وعمره، وكذلك جنسه ولغته، وليس عليك إلَّا أن تتأهَّل، وتتوفَّر على الصفات التي يجب توفُّرها في الولي الفقيه، وعندئذ يكون لك الحق في الإطلاع بهذا المنصب.

 

الروايات المؤكِّدة على معيار (الكفاءة) في تولِّي المناصب:

هناك مجموعة من الروايات تؤكد هذا المعنى -وهو أنَّّ المناط في استحقاق شغل أيِّ منصبٍ من المناصب الإدارية هو الكفاءة-، وفيما يلي نذكر بعضاً منها:

 

-ورد عن عليّ ابن أبي طالب -عليه أفضل الصلاة والسلام-، قال: (لا تقبلنَّ في استعمال عُمَّالك، وأُمرائك، شفاعةً إلَّا شفاعة الكفاءة والأمانة) (7). إذا كان ثمَّة شخصٌ كفوءً، وأميناً، فإنَّ له الحقّ في أن يتسلَّم أيَّ منصبٍ يتناسب مع كفاءته، وليس ثمَّة من شفيع آخر. فالمحاباة، والمحسوبيات، و العِرق، والمال، والجهة الاجتماعية، كلُّ ذلك ملفىٌّ بحسب وجهة النظر الإسلامية.

 

كانت بعض الشعوب -اليهودية بالتحديد- ترى أنَّ الحالة الاقتصادية دخيلةٌ في استحقاق أيِّ شخصٍ لمنصب الولاية والأمارة، وهذا ما تؤكِّد عليه الآية الشريفة التي حكت لنا الحوار الذي دار بين بني إسرائيل وبين نبيهم، حينما أخبرهم بأنَّ ملكهم هو طالوت، فماذا قال اليهود؟: ﴿قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾(8)، ما هو منشأ استحقاقكم، وعدم استحقاقه في نظركم؟ قالوا: ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾(9)، وبأي جواب أجاب النبي؟ قال: "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ"(10). إذن، الكفاءة في العلم، والدراية، والبصيرة، والقدرة على الأمارة والقيادة، عندما يكون أحد من الناس متوفراً على كلِّ ذلك فإنَّه يكون مؤهَّلا -حتى وإن كان فقيراً-.

 

ويوسف الصديق -سلام الله عليه- كان يخاطب عزيز مصر، فيقول: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ﴾(11). بأيِّ مبِّرر أجعلك على خزائن الأرض؟ وأيّ ميزة تُميزك عن الآخرين؟ لماذا أنت، وليس غيرك؟ قال: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾(12)، أمين، وبصير، كفاءة وبصيرة، علم وأمانة، حفيظ أمين، هاتان الصفتان هما اللتان يؤهلاني أن أتولَّى هذا المنصب الخطير. أما أنِّي كنتُ عبداً في نظركم -عندكم، وعند أهلكم- ثم كنت سجيناً سنين، فهذا لا يمنع أن أتولى هذا المنصب، بعد أن كنتُ مشتملاً على هاتين الصِّفتين.

 

-هناك رواية أخرى عن رسول الله (ص)، تعبِّر عن أنَّ الكفاءة، والعلم، هما اللذان يؤهِّلان الشخص لشغل أيِّ منصب من المناصب، وأنَّ أيَّ مقياسٍ آخر فهو غير مقبول في النظر الإسلامي، يقول (ص): "من استَعمِل عاملا، من المسلمين وهو يعلم أنَّ فيهم أولى بذلك منه، وأعلم بكتاب الله وسُنَّة نبِّيه. فقد خان الله، ورسوله، وجميع المسلمين"(13)، تلك خيانة، أن تُجعل لأحدٍ القيادة والإمارة، وهناك من هو أكفأ وأعلم منه.

 

ويقول أمير المؤمنين (ع): "من ولي من أمور المسلمين شيئاً فأمرَّ عليهم أحداً محاباةً محاباة لنسب، قرابة، محسوبيات له بغير حق فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا، ولا عدلا، حتى يُدخله جهنَّم"(14)، لأنه أمرَّ على رقاب المسلمين من ليس بكفوء، وإنما لاحظ اعتبارات أخرى، ترتبط بالنَّسب، والحسب، والمال، والجاه، وأي اعتبار يصبُّ في إطار هذه الاعتبارات.

 

التأريخ الإسلامي ومعيار الكفاءة:

والتأريخ يُعرِّفنا أيضا على هذا المقياس الذي اعتمده الإسلام، وأنه لكلِّ أحدٍ أن يشغل أي منصبٍ إداريّ -على أن يكون كفوءا-.

 

- قضية عتَّاب ابن أسيد:

هناك شاب يسمَّى عتَّاب ابن أسيد، هذا الشاب كان من الصحابة، بعد أن فُتِحت مكة، واستتبَّ الأمر فيها، وهدأت، ولَّى رسول الله (ص) هذا الشاب على مكة -والتي هي أهمّ الحواضر الإسلامية-، فاستنكف لذلك بعض الكبار من الصحابة، وبعض الوجهاء، وأصحاب رؤوس الأموال، فقالوا: كيف يُولِّي علينا شخصا صغيراً، ونحن أهل الجاه، والمال والمكانة الاجتماعية؟ فرسول الله (ص) قام فيهم خطيبا، وقال: "لا يَحتَجَّ مُحتجٌّ منكم في مخالفته بصغر سِنِّه"(15)، لاحظوا المقياس، فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكفأ، وعندما تكون أفضل وأكفأ فأنت الأكبر، وليس الذي يكبرك في السن هو الأكبر إذا كنت تكبره في الفضل والكفاءة. هذا هو المقياس الذي يستحُّق به الشخص أن يتولَّى المنصب -خصوصا المناصب الخطيرة-، وقال لعتاب: "يا عتاب أتدري على ما استعملتك؟ استعملتك على أهل الله -عز وجل-، ولو أعلم لهم خيراً منك استعملته عليك"(16)، أنا لم استعملك محاباةً، أو ملاحظةً لاعتبارات غير اعتبار الأهليَّة والكفاءة.

 

- قضية أسامة بن زيد:

وكلكم قد سمع قضيَّة أسامة بن زيد وجيشه، أسامة بن زيد كان شاباً صغيراً، وكان أبوه عبداً حبشياً، تبنَّاه رسول الله (ص)، ثم حرَّره. وأسامة بن من كان أصله عبداً، يؤمِّره رسول الله (ص) على جيشٍ فيه وجوه الصحابة، كأبي بكر، وعمر، وعبيدة بن الجراح، وعثمان، وشيوخ الصحابة، ولم يُلاحظ أيَّ اعتبارٍ آخر غير اعتبار الكفاءة. واحتجَّ مَن احتجَّ منهم، فزجرهم رسول الله، وقال: "لئن طعنتم في إمارة أسامة لقد طعنتم في إمارة أباه من قبله وأيم الله إن كان للإمارة لخليقاً وإنَّ ابنه من بعده لخليقٌ للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإنَّ هذا لمن أحب الناس إلي وإنهما لمخيلان لكل خير فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم"(17). ثم قال: "نفذوا جيش أسامة لعن الله من تأخر عنه"(18)، ويتثاقلون في الخروج، ويتباطئون، منهم من هو مُستثقلٌ أن يكون في إمارة شاب كان أصل والده عبداً مرقوقاً، ومنهم من يخشى أن تفوته الخلافة؛ لأنَّ رسول الله (ص) ينعى نفسه، ومنهم من يُدبِّر لانقلابٍ خطير وهم المنافقون، أخبر عنهم القرآن: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾(19).

 

ثانياً: الحرية في النقد وإبداء الرأي:

هناك أيضا مساحة على مستوىً آخر -نشير إليه إشارة؛ لأنَّ الوقت فقد انتهى-، وهي أن يكون لكلِّ أحدٍ الحقّ في النقد، وإبداء الرأي. الإسلام لا يصادر حرية التعبير، لكلِّ أحدٍ أن ينتقد أيَّ فردٍ -مهما خَطُر موقعه-، بل لم يُعطِ الحقَّ في ذلك وحسب، بل شجَّع، وزاد على التشجيع بأن أوجب على الناس أن يُشيروا، وأن ينتقدوا، إذ أنَّ قِوَام البلاد لا يكون إلَّا بالمشورة. الإمام الصادق (ع). يقول: "أحب إخواني إلي من أهدى إليَّ عيوبي"(20) ويقول أمير المؤمنين (ع): "من استقبل وجوه الآراء، عرف مواقع الخطاء"(21) ويقول: "رأي الشيخ أحبُّ إلي من جلد الغلام"(22) تشجيع، وتأكيد، على أهمية الرأي، وعلى إبداء الرأي، والمشورة، والنقد .. ويُوصي عمَّاله بأنْ لا يحتجبوا عن الناس؛ حتى يعرفوا آرائهم، وحتى تصل إليهم شكاواهم وظلاماتهم، ويقول: "كلُّكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"(23)، كلُّ واحدٍ من أفراد الأمَّة مسئول عن حماية الأمة ونظامها ومقدراتها، وذلك بواسطة رأيه، وإبداء المشورة، والنقد البنَّاء.

 

نختم الحديث بموقفٍ وقع في أيام خلافة علي بن أبي طالب: جاءت إليه امرأة ضعيفة، وجلست عنده، قالت: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك ظلم الوالي الذي ولَّيته علينا. فدمعت عينا أمير المؤمنين، وبكى بكاءاً مرّاً حتى سالت دموعه على شيبته، ثم رمق بطرفه إلى السماء، وقال: "إلهي، والله ما أَمرتهم بظلم عبادك، وما ولَّيتهم على أن يَحيفوا، وأن يُجحفوا، وأن يسلبوا أحداً حقَّه. ثم كتب لها صكَّا ًبعزله -دون أن ينتظر حتى يسأل-؛ ليشجِّعها على النَّقد، وإبداء الرأي، وإعطاء المشورة. فلو أنَّه أمهلها، وقال سننظر في الأمر؛ لعلك مُخطأة، لعلك كاذبة، عندئذ يسد باب النقد والمشورة وإبداء الرأي، ولكنه حتى يُشجِّعها كتب لها صكّاً بعزل ذلك الوالي. وليس معنى ذلك أنه (ع) حكم بثبوت الإدانة على الوالي وأنَّه قد ظلم حقاً وإنما أراد من ذلك مضافاً إلى التشجيع على النقد وبثَّ الشكوى أراد مضافاً إلى ذلك أن يحدث في نفوس ولاته المزيد من المراقبة الذاتية.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأعراف / 157.

2- ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾،﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾. سورة المائدة / 44-45.

3- سورة ص / 26.

4- سورة الأحزاب / 6.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص440.

6- سورة الحج / 37.

7- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج20 ص276.

8- سورة البقرة / 247.

9- سورة البقرة / 247.

10- سورة البقرة / 247.

11- سورة يوسف / 55.

12- سورة يوسف / 55.

13- الغدير -الشيخ الأميني- ج8 ص291.

14- كنز العمال -المتقي الهندي- ج5 ص665.

15- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج21 ص123.

16- أسد الغابة -ابن الأثير- ج3 ص358.

17- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج 2 ص 55.

18- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 27 ص 324.

19- سورة آل عمران / 144.

20- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 25.

21- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 46.

22- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 71 ص 178.

23- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 72 ص 38.