الظاهرة الفرعونيَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

اهتمام القرآن بالظاهرة الفرعونيَّة:

أولى القرآن الكريم عنايةً واهتماماً بالغاً بالظاهرة الفرعونية، والتي تتكرَّر في كلِّ جيل، بل وتتكرَّر في كثيرٍ من المجتمعات. فاهتمَّ القرآن الكريم بالحديث عن هذه الظاهرة، وعن مميزاتها وصفاتها؛ وذلك لما تشتمل عليه هذه الظاهرة، وما تُنتجه من آثار سيِّئة على الإنسان وتكامله كفرد وكذلك على المجتمع وتكامله.

 

وسنتحدث -إن شاء الله- في هذه الجلسة عن مسألتين:

 

المسألة الأولى: ترتبط بالنظام الفرعوني، وسماته وصفاته.

والمسألة الثانية: ترتبط بالمجتمع الفرعوني، وسماته ومميزاته.

 

المسألة الأولى: النظام الفرعوني.. سماته وصفاته.

مقدَّمة:

أولاً: تعريف النظام الفرعوني:

أما ما يرتبط بالمسألة الأولى، فنقول إنَّ المراد من النظام الفرعوني هو عبارة عن استبداد فردٍ، أو عائلةٍ، أو طبقةٍ من طبقات المجتمع، وتفرُّدها بالحكم، وبمقدَّرات المجتمع، واستحواذها على كلِّ شؤونه وخيراته. عندما يكون الأمر كذلك فالنظام يكون حينئذٍ -باصطلاح القرآن الكريم- نظاماً فرعونياً، وهو ما يساوق -حسب المصطلح الحديث- النظام الدكتاتوريّ الاستبدادي.

 

وقد تحدَّث القرآن الكريم في آيات كثيرة عن ظاهرة النظام الفرعوني، و استعرض في آياتٍ عديدة مُميِّزات هذا النظام، وانعكاساته، ومضاعفاته على الأمة، وعلى المجتمع. وأكَّد في محصِّل ما أفاده في ذلك على أنَّ النظام الفرعوني نظام اجتماعي منحرف يسوق المجتمعات والأمم إلى الإنحدار على خلاف ما يقتضيه خطُّ الرسالات من العمل على الإرتقاء بالمجتمع والفرد إلى مستوى الكمال الإنساني.

 

ثانياً: منشأ اهتمام القرآن بالظاهرة الفرعونية:

ويستعرض القرآن الكريم هذه الظاهرة لهدفين:

أولاً: بيان منافاتها لخطِّ الرسالات.

ثانياً: معالجة هذه الظاهرة.

 

سمات النظام الفرعوني:

أولاً: استضعاف الناس، وبثّ الفرقة بينهم:

وهنا سنتحدَّث أولاً عن مميزات النظام الفرعوني -بحسب ما أفاده القرآن الكريم-:

الآية التي تلوناها تفيد أنَّ أوَّل ما يميِّز النظام الفرعوني هو أنَّه يجعل المجتمع شيعاً وفرقاً؛ وغرضه من ذلك تمزيق المجتمع، وتبديد قوى المجتمع؛ لأنه لن يكون قادراً على الهيمنة على مقدرات المجتمع ما لم يجعل أهله شيعاً. متفرَّقين إلى طوائف وأعراق وطبقات.. ثمَّ لا يقف عند هذا الحدّ، وإنما يستضعف طائفةً من هذا المجتمع، فيدمِّرها، ويمارس معها كلَّ أساليب الإستضعاف و التجهيل، والتضليل، والتفقير والإذلال والتخويف والإرعاب. فكل أساليب الإستضعاف يمارسها مع طائفةٍ منهم، وفي المقابل يقوِّي طائفةً أخرى، وعندئذٍ يتمكن من الهيمنة. فهو يمارس من جهةٍ دور القمع والإذلال والإضعاف لطائفة من الأمَّة، ويُطلق العنان لطائفةٍ أخرى؛ لتكون تلك الطائفة الأخرى شوكته ودرعه الذي يتحصَّن به أمام الطائفة الأولى. إذن، فأوَّل سمات النظام الفرعوني أنه يجعل من الأمة شيعاً وفرقاً، فيستضعف طائفةً، ويتدرّع بطائفةٍ أخرى.

 

ثانياً: الهيمنة على الثروات:

ومن أبرز صفات النظام الفرعوني -كما أفاد القرآن الكريم- هو أنه يرى أنَّ كلَّ إمكانيات، ومقدرات، وخيرات الأرض التي تحت سلطانه وهيمنته، هي ملك له، وليس لأحدٍ حقٌّ فيها. يقول الله تعالى على لسان فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(2)، فالأنهار ملكي، والأرض ملكي، والمعادن ملكي، وكلُّ خيراتِ الأرض -أشجارِها، وثمارِها، وبرِّها، وبحرِها، وسمائها، وما في باطن الأرض، وما على ظاهر الأرض، والأنهار، واليابسة، والحيوان، والنبات، والجماد- كل ذلكملكي! هذه سمةٌ أخرى من سمات النظام الفرعوني.

 

ثالثاً: الإستعلاء والإستكبار:

ومن سمات النظام الفرعوني: الاستعلاء والاستكبار، وأنَّه ليس لأحدٍ أن يمسَّه بسوء -ولو على مستوى الكلمة-. هذه سمةٌ أخرى للنظام الفرعوني، والقرآن يريد أن يبلور لنا صورة النظام الفرعوني؛ حتى نتعرَّف عليه، فيقول الله تعالى: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ﴾(3)، ا فهو يستشعر العلو، وهذا الشعور بالاستعلاء يساوق التقزيم والتحقير للآخرين كما أن الشعور بالاستعلاء يقتضي أنَّه ليس لأحدٍ أن يمسَّه وأن يطاله، وإنما يُطَال المنخفض، وإنما يُمسُّ القريب، أما البعيد العالي السامق فهذا لا يُمَسّ، وهذا لا يُطَال، وكلُّ محاولةٍ بالمسِّ تعني اعتداء!

 

رابعاً: الإسراف:

تضيف الآية سمة أخرى، يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾(4)، هذه سمة أخرى للظاهرة الفرعونية، وهي الإسراف. وأحد معاني الإسراف هو صرف الأموال، والطاقات والجهود في غير محلها. هذه سمة النظام الفرعوني، فهناك أمَّة تجوع، وهناك أمة تعرى، وليس لها من طعامٍ تأكله، وليس لها من محلِّ تسكن فيه، وليس لها من دابةٍ تركبها، وليس لها من عمل، وليس لها من نصيبٍ في خيرات الأرض وعطاءاتها. وفي المقابل يصرف فرعون الأموال، والجهود، والطاقات، فيما يخصُّه، ويخصُّ طبقته. هذا هو أحد معانيالإسراف الذي تشير إليه الآية الكريمة.

 

خامساً: الإستبداد الفكري:

ومن السمات التي تمتاز بها الظاهرة الفرعونية -بحسب ما أفاده القرآن الكريم- أنَّ فرعون يعمل على ترويج أنَّ الرؤية السديدة هي رؤيته، وأنَّ الصواب هو ما يتبَّناه. ولذلك فهو يسخر حاشيته وكل ما يملك من طاقات وإمكانيات من أجل أن تسود رؤيته. وأنَّ أيَّ رؤيةٍ تنبثق في المجتمع، وتنافي رؤيته، فلابدَّ من تصفيتها، يقول القرآن على لسان فرعون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾(5)، الرؤية التي أتبناها هي التي ينبغي أن تسود، وهي التي يجب أن تُطبَّق.

 

سادساً: تغليف المفاهيم الفاسدة:

والنظام الفرعوني قد يستخدم أسلوب القهر والقمع من أجل تمرير رؤيته، وتمرير مشروعه -السياسي، والاجتماعي، أو مشروعه العقائدي- وتُشير لذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ .. / لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(6) فهذا هو أحد الأساليب التي يعتمدها النظام الفرعوني في تمرير رؤاه وتصفية الرأي المنافي لمشروعه، وقد يستخدمُ أو يستفيد من أسلوبٍ آخر -وهذا الأسلوب ينتهي إلى نفس الغرض الأول، وهو أن تسود رؤيته ومشروعه وتُمرَّر أفكاره- وهذا الأسلوب هو تغليف المفاهيم الفاسدة بعناوين برّاقةٍ قد يقبلها الهمج الرعاع السذج، لذلك يقول فرعون بنص القرآن: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد﴾(7)، فهو يصف الرؤى التي يتبناها رغم أنها مدمِّرة وفاسدة بالرشاد وذلك لغرض تمريرها على البسطاء من الناس وخلق الإستيحاش من الرؤى الأخرى إذ أنها منافية للرشاد والحكمة، هذا الأسلوب تجده معتمداً عند الكثير من الأنظمة الفرعونية، فهي تحتكر العناوين البراقة والمأنوسة عند العقلاء لرؤاها كعنوان الولاء والمواطنة والرعاية للحقوق والأمن والنظام، وفي المقابل تصف ما ينافي رؤاها ومشاريعها بالخاينة العظمى والتخريبوالإرهاب وزعزعة النظام وهدر الحقوق، كلُّ ذلك من أجل أن يكون رأي النظام الفرعوني ومشروعه هو الفاعل في المجتمع.

 

سابعاً: الإرهاب الفكري، وتشويه الفكر المضاد:

النظام الفرعوني يصر دائماً على أنَّ مقياس الصواب والخطأ هو رؤيته، فهي الفيصل الذي به يتمَّيز الصواب من الخطأ! لذلك فهو يستغرب من أن يتبنَّى المجتمع رأياً غير رأيه أومعتقداً غير معتقده بل يستشيط غضباً إذا ما انبثق رأي ينافي رأيه! فحين خرج موسى (ع) بدعوته، أي شيء فعل فرعون؟ وكيف خاطب الذين اتبعوا موسى؟ قال: ﴿آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾(8)، هذه رؤية نحن لم نتبناها، فكيف تقبلونها قبل أن نأذن لكم؟ ليس لكم أن تُفكروا، نحن مَن يفكِّر عنكم، فإعمال العقل والفطرة ليس من شأنكم، فأنتم لا تُحسنون التمييز بين ما يُصلحكم وما يضرُّ بحالكم لذلك فقبولكم بدعوة موسى (ع) يُعدُّ تمرداً على النظام، وهكذا يمارس فرعون أسلوب الإرهاب الفكري، وأسلوب التشويه للفكر المضاد، ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾(9). كان بإمكان فرعون أن يطرح رؤيةً برهانية، أو حجة منافية لدعوة موسى فيكون لرفضه دعوة موسى (ع) منشأ عقلائي إلا أنه لم يفعل ذلك وإنما لجأ إلى الأسلوب المُعتمَد في الأنظمة الفرعونية وهو التشويه للفكر المضاد: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾؛ وحيث أنه علم أنهم لن يقتنعوا بذلك مارس معهم الإرهاب والوعيد فقال: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾(10)، فحيث لم ينفع معكم الكلام، فالسيف والجلَّاد!!

 

إذن فمن سمات الظاهرة الفرعونية البارزة هو أنها تريد أن يكون معتقد الشعب والمجتمع متناغماً تمام التناغم مع معتقداتها، فليس للمجتمع أنْ يتبنَّى فكراً أومعتقداً منافياً لمعتقد فرعون.

 

ثامناً: المنُّ والمكرمات:

ومن مميزات النظام الفرعوني هو: الامتنان على المجتمع، وأنّه صاحب الفضل عليهم، فليس لهم من حقوق يلزمه الوفاء بها وإنما هي مِنحٌ وعطاءات يتفضَّل بها عليهم، لذلك تجد شعار المكرمات رائجاً في النظام الفرعوني وعلى المجتمع الترقب لهذه المكرمات ثم إنَّ عليهم بعد ان يبذلها لهم التعبيير عن كمال الشكر والإمتنان قال تعالى على لسان فرعون مخاطباً موسى (ع): ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾(11)، وأخذ يعدّ المكرمات لموسى .. فبماذا أجابه؟ قال: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(12)؟! استعبادك لبني إسرائيل، هذه مكرمة تمتنُّ بها على بني إسرائيل؟! عَّبدتهم، واستصغرتهم، وحقَّرتهم.. أَوَ تلك نعمة تمُنُّها أن عبّدت بني إسرائيل؟! هذه أيضاً من سمات الظاهرة الفرعونية.

 

تاسعاً: الإستخفاف والتضليل:

وهناك سمة أخرى وهي الاستخفاف بالمجتمع. والمراد من الاستخفاف هنا هو ممارسة أساليب التضليل للمجتمع، وتكريس الكثير من الطاقات لهذا الغرض -أي لغرض تضليل المجتمع-. فيطيعه أناس، والذي لا يطيعه يستضعفه، ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾(13)، فأطاعوه بعد ممارسة الكثير من أساليب التضليل والإستخفاف بالعقول ?أو ما يُعبَّر عنه حديثا بالضحك على الذقون-. هذه أيضاً سمة أخرى من سمات النظام الفرعوني.

 

هذه أبرز السمات التي يمكن أن يتميَّز بها النظام الفرعوني -بحسب ما أفاده القرآن الكريم-.

 

المسألة الثانية: المجتمع الفرعوني .. سماته ومميزاته:

بعد ذلك نتحدَّث عن المجتمع الفرعوني الذي يعيش تحت هيمنة النظام الفرعوني. وأوَّل سمةٍ يتمّيز بها هذا المجتمع هي أنه مجتمعٌ ممزَّق، وموزَّعٌ إلى طبقات؛ بسبب سياسات النظام الفرعوني التي أشرنا لها، ولأن الوقت قد انتهى نرجئ إتمام الحديث عن سمات المجتمع الفرعوني إلى جلسةٍ لاحقة إن شاء الله تعالى.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة القصص / 4.

2- سورة الزخرف / 51.

3- سورة يونس / 83.

4- سورة يونس / 83.

5- سورة غافر / 29.

6- سورة الأعراف / 123- 124.

7- سورة غافر / 29.

8- سورة الأعراف / 123.

9- سورة طه / 71.

10- سورة طه / 71.

11- سورة الشعراء / 18.

12- سورة الشعراء / 22.

13- سورة الزخرف / 54.