ضرورة استقلالية الفتوى عن العنصر الذاتي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الر جس وطهرهم تطهيراً.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

نبارك لكم أيها الأخوة الأعزاء ميلاد الإمام العسكري (ع)، ونستكمل حديثنا حول الرواية الشريفة المروية عن الإمام العسكري (ع)، وهي قوله: "فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه"(1).

 

كنا قد انتهينا من الحديث حول ما هو المراد من قوله (ع) حافظاً لدينه، وذكرنا فيما ذكرنا أنّه لا يصلح الفقيه للتصدي لدور المرجعية ما لم يكن على استعدادٍ نفسيٍّ تام للذود عن الدين في تمام الميادين، فحفظ الدين يكون بالذود عنه في مقابل الطغاة والظلمة، والذود عنه يكون في مقابل المضلّين والمفسدين -المضلون الذين يثيرون الشبهات من أجل توهين الدين، ومن أجل أن يَحرِفوا الناس ويفتنوهم عن دينهم ومعتقداتهم-، فلابد لمن يُراد له التصدي لدور المرجعية أن يكون على استعدادٍ لمقارعة الظلمة والطغاة، ولمعالجة الشبهات التي يُثيرها المضلون، وكذلك ما يمارسه المفسدون من أجل صرف الناس عن دينهم، ومن أجل إشاعة الفاحشة والرذيلة في الوسط الاجتماعي.

 

ولذلك يتحتَّم على المتصدي لدور المرجعية أن يلتمس مختلف الوسائل الناجعة من أجل حماية أخلاق الناس وقِيَمهم. والذود عن الدين أيضاً يتجلى في تبليغ الدين، وترويجه وتأصيله في نفوس، وقلوب، وسلوك المجتمع، وذلك من خلال الكثير من الوسائل التي لسنا بصدد الحديث عنها. كما أن الذود عن الدين وحمايته وحياطته تكون بواسطة تدوينه وتشييد مبانيه من خلال البحوث والدراسات.

 

كل ذلك قد تصدى له الفقهاء والمراجع -رضوان الله تعالى عليهم- على امتداد تاريخ الغيبة الكبرى، التي امتدت إلى الآن -إلى أكثر من ألف سنة-، وهم يبذلون كلَّ ما يملكون من وسعٍ وجهدٍ وطاقة من أجل إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ومن أجل تشييد معالم الدين، وحياطته، وحياطة أهله عن أن تفترسهم الضلالات والشبهات، وعن أن يبتعدوا عن خط الله تعالى وتعاليمه وشريعته.

 

المراد من "مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه"

ثم إنَّ الإمام العسكري -عليه أفضل الصلاة والسلام- أفاد أن الذي يُراد له التصدي للمرجعية لابد وأن يكون مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه.. ما هو المراد هنا من مخالفة الهوى؟ وما هو المراد من إطاعة المولى؟

 

العنصر الذاتي والخارجي وأثرهما على عملية الإفتاء

طبعاً الفقيه يتصدى للإفتاء في كل ما يرتبط بشؤون الدين والدنيا، والإفتاء يعتمد على ملاحظة الأدلة الموجودة في مصدري التشريع -وهما الكتاب والسنة الشريفة-، وهنا قد يتدخل العنصر الذاتي، وقد تتدخل المصلحة الشخصية في الفتوى، فيُفتي الفقيه، أو يسعى من أجل أن يجيّر الدليل لما يُناسب هواه، ويناسب مصلحته الشخصية، أو الفئوية، أو يصرف الدليل لما فيه راحة له، هذا الفقيه الذي يكون بهذا المستوى الروحي والنفسي لا يصلح للتصدي لدور المرجعية، فالفقيه الذي يصلح للتصدي لدور المرجعية هو من يتقيّد بالدليل، وأينما ذهب به الدليل يذهب، حتى وإن كان مقتضى الدليل هو الإفتاء بما لا يناسب الهوى، وبما لا يناسب المصلحة الشخصية، وبما لا يناسب رأيه، وفِكره، ومزاجه، وما يقتضيه عقله.. وحين يكون الفقيه على استعدادٍ لأن يفتي وفق الدليل -ولو اقتضت الفتوى أن يقع في أشق الأحوال- هذا الفقيه يصلح للتصدي لدور المرجعية. إذن المخالفة للهوى تعني عدم تدخل العنصر الذاتي والمصلحة الشخصية حين البحث عن الحكم الشرعي في مقام الإفتاء، وفي مقام السعي للوصول للنتيجة الشرعية.. الدليل هو القرآن، وما يقتضيه الخطاب الوارد عن الرسول (ص) وأهل البيت (ع)، وهو قد يقتضي ما يُنتج المشقة، وقد يقتضي أن نقول يجب على الناس ويجب علي أن أشهر السيف وأجاهد، وقد يقتضي أن أُفتي بما يشمئّز منه الناس، أو أفتي بما يُنتج أن يغضب مني السلطان، وأن أقع في أذى السلطان، لا فرق بين أن أفتي بما ينتج ذلك، أو ما ينتج غير ذلك، إذا ما اقتضاه الدليل. وهذا الأمر ليس كما قد نتصور من أنّه سهل ميسور، بل إنه شاقٌّ.

 

وما معنى أن يكون مطيعاً لأمر مولاه؟ أكدنا أن المراد من إطاعة المولى هنا ليس بمعنى المحافظة على الفرائض وترك المحرمات، إن ذلك قد أفاده الإمام في فقرة سابقة، بل المراد من إطاعة المولى -إطاعة الإمام، إطاعة الحجة (ع)-، معناه أن الفقيه يعمل وفق ما تقتضيه الخطابات الصادرة عن الإمام، ويتقيَّد بها حرفياً، ولا يتجاوزها، فلا يُعمل رأيه، ووجهة نظره الخاصة، كما لا يُحكّم مصلحته. هذا هو معنى إطاعة المولى.

 

الخلاصة

إذن ننتهي فالنتيجة المتحصلة مما ذكرناه، هي أن المراد من قوله: "مخالفاً لهواه، ومطيعاً لأمر مولاه" أنَّ مخالفة الهوى: هو عدم تدخل أي عنصر ذاتي أو شخصي في عملية الإفتاء. ومطيعاً لأمر مولاه: بمعنى التقيّد التام بما تقتضيه الخطابات الواردة عن أهل البيت (ع).

 

نماذج من تنزّه فقهائنا عن العنصر الذاتي والخارجي:

أولاً: العلامة الحلي ومسألة البئر

أذكر مثالاً لسعي الفقهاء من أجل عدم تدخل العنصر الذاتي في عملية الافتاء: قد يكون الفقيه في بعض الأحيان على استعدادٍ تام ألا يُحكِّم هواه في فتواه، وفي اجتهاده، وفي فهمه للدليل، ويسعى لذلك، ولكنه قد يلتفت بعد ذلك إلى أنّه قد أفتى بما يُناسب هواه، لذلك فالفقهاء -رضوان الله تعالى عليهم- يسعون بكل ما يملكون من جهد إلى عدم تسرُّب العنصر الذاتي في مقام البحث عن الدليل الذي يراد الوصول منه إلى النتيجة والفتوى الشرعية، أذكر مثالاً للعلامة الحلي -قدس الله نفسه الزكية-،العلامة الحلي كان يبحث في الفقه، ووصل لهذه المسألة: وهي أنه لو سقط حيوان في بئرٍ فمات، فهل يتنجس البئر بذلك، أو أن البئر لا يتنجس باعتبار أنه معتصم؟ وعلى فرضِ تنجُّسه بسقوط الحيوان وموته فيه، فكيف يتم تطهيره؟ هل يطهر بالنزح؟ وإذا كان يطهر بالنَّزح، فكم ننزح منه من الدلاء؟ كل ذلك يتفاوت من حيوان لآخر، وهذا بحث موجود في كتب الفقه.. والعلامة الحلي وصل لهذه المسألة في بحثه، وكان عنده بئر في منزله، يستخدمه لحوائجه وحوائج عياله، فقال: أنا الآن إذا بحثت في المسألة، والحال أن الذي يناسب رغبتي هو أن أصل لهذه النتيجة وهي أن البئر إذا سقط فيه حيوان لم يتنجس؛ حتى لا اضطر لأن أبحث عن بئر آخر، وقد حفرت هذا البئر بعد جهد جهيد، ثم إنَّ كلَّ بئر معرض لسقوط طير فيه، أو سقوط سنور، أو سقوط فأر -خصوصاً في تلك الأزمنة-، فإذا كان بمجرد سقوط الحيوان ينتهي الأمر إلى نجاسته، فبالتالي سأبحث عن طريقة لتطهيره، والتطهير على بعض الآراء شاق جداً، حيث تُنزف دلاء منه، وفي بعض الحالات يتراوح عليه أربعة أشخاص ينزحون منه بالدلاء، اثنان في النهار، واثنان في الليل؛ كيما يطهر، فالمناسب للهوى هو أن يصل لنتيجةٍ هي أن البئر لا يتنجس بسقوط الميتة فيه لأنه معتصم، فقال أنا أخشى أثناء البحث أن أسعى من أجل إثبات عدم انفعال البئر بالنجاسة، لماذا؟ لأن هذا يناسب مصلحتي الشخصية، فأحوط شيء أن أطمّ البئر، وأعتمد على الماء الذي يُشترى من الأسواق، فطمَّ البئر، وقال الآن أبحث في المسألة، فلن تتدخل في نتيجة البحث العناصر الذاتية والمصالح الشخصية.

 

الفقهاء في كلِّ بحوثهم يجهدون من أجل أن لا يتدخل العنصر الذاتي والمصلحة الشخصية في الفتوى، فلذلك قد يُفتون بما ينتج وقوعهم في الأذى من السلطان، أو من المجتمع. طبعاً، التحديات التي يواجهها الفقيه في عملية الإفتاء تنشأ في بعض الأحيان من ضغط الطغاة، وهذا قد يؤثر على الفتوى فلذلك نحن نجد أن الكثير من الفتاوى التي تصدر عن جملةٍ من فقهاء العامة هي فتاوى مهلهلة متناقضة، ولو بحثت عن خلفيات الفتوى، ومنشأ صدورها، فستجد أن للسلطان أثراً في صدورتلك الفتوى.

 

والتحدي الآخر الذي يواجهه الفقيه في عملية الإفتاء هو المجتمع وسلطة المجتمع، وذلك حين يخشى أن ينتقده المجتمع، ويخشى أن يفترق عنه المجتمع، أو أن يسبُّونه ويشنِّعون عليه فيُفتي بما يُناسب هوى المجتمع، إلا أنَّ فقهائنا غالباً -وخصوصاً مراجعنا- منزَّهون عن ذلك.

 

ثانياً: السيد الإمام (قده)

أذكر مثالاً، يُقال انالسيد الإمام -قدس الله نفسه الزكية-، لما أن جاء له السيد الأردبيلي -الذي كان رئيساً للسلطة القضائية في أيام السيد الإمام-، وكان قد قدم للإمام طلباً بالاستقالة، لاستيحاشه من كثرة المنتقدين لأدائه فاستدعاه الإمام، وقال له: ما وراءك؟ قال: جئت للتأكيد على طلب الاستقالة. وكان للسيد الإمام لقاء مع الناس في ذلك اليوم في حسينية جمران، فقال له: تعال معي. فذهب السيد الأردبيلي -حفظه الله- مع السيد الإمام (قده)، وجلس السيد الإمام في الحسينية، وجلس الأردبيلي جنبه .. وأنتم تعرفون، إذا دخل السيد الإمام في محلِّ فإن الناس يقومون ويهتفون له، ويزدحمون عليه.. في هذه اللحظات، والناس تُطلق كلمات الفداء للإمام، وتهتف بالتحيةِ له، هنا التفت السيد الإمام إلى الأردبيلي، وقال له: انظر إلى هؤلاء، ماذا يقولون؟ قال: يُحيُّونك. قال: ويفدَّوني ايضاً، وهم مستعدون لأن يموتوا من أجلي، ثم قال له: افترض أنهم الآن يسُبوني، ويدعون عليّ بالموت، ويقولون لا نريدك، ولا نؤيدك، هل تعتقد أنّي سوف أُغيِّر مواقفي ومبادئي من أجل تشنيعهم، وسبِّهم لي؟ لابد أن لا نُفرِّق بين المدح والذم، فنحن نعمل وفق التكليف الالهي، وهذه الهالة الاجتماعية لا تُغيِّر من مواقفنا شيئاً، نحن نعمل وفق أوامر المولى -أياً كانت- النتائج فهي قد تُنتج في يومٍ من الأيام تأييد المجتمع لنا، وقد تُنتج في يومٍ من الأيام أن يسُبَّنا المجتمع.

 

المرجع المتصدي لشئون الدين يتحتَّم عليه أن يكون على استعدادٍ لأن يقول كلمة الحق، ولا تأخذه في ذلك لومةُ لائم، فسواءً عنده انتقده الناس أو مدحوه.

 

استقلالية الفتوى أمر ضروري

إذن قد تكون الرغبة في المدح هي منشأ إصدار الفتوى وقد يكون الخوف من الذم، هو منشأ إصدار الفتوى والسلطة الاجتماعية ليست بأخفِّ وطأةً على النفس من سلطة الطاغوت في التأثير على مسار الفتوى.

 

تاريخنا الإسلامي واجه مشكلةً هي من أشدّ المشكلات التي أثرت عليه تأثيراً بالغاً، وكانت أحد الأسباب المهمة في تقهقر وتراجع الحالة الإسلامية في مجتمعاتنا، بل وفي تأخر أمتنا في مقابل الأمم، وهي فتاوى ذلك النمط من الفقهاء، فقد كان لها الدور السيءالذي نحن عليه فعلاًمن واقعٍ متردٍ. من هنا فإن فقهاءنا حرصوا كلَّ الحرص على أن تستقلَّ الحوزات العلمية، وأن يستقلَّ الفقهاء عن كل جهة، وأن تستقل عن الحكومة -عن كلِّ حكومة، عادلةً كانت أو ظالمة- استقلالاً تاماً، فجاءت التوصيات عن أهل البيت (ع): "إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فخافوهم على دينكم"، يعني أن هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يُتَّبعوا، و"إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك"(2). الروايات بهذا المضمون كثيرة، وتأتي الروايات لتخاطب طلبة العلوم الدينية، فتقول إن طلبة العلم على أقسام، وتشير إلى قسم منهم بأنه القسم الذي يعيش على فتات موائد الظلمة، فتقول: "فهو لحلوائهم هاضم"(3). فإذا كان لحلوائهم هاضم- (فهو لدينه حاطم)، هذه حالة طبيعية.

 

الشيخ الأنصاري أفاد: "الإنسان عبد الإحسان، فإذا أحسن إليك الطاغوت أحببته".

 

يقول الإمام الكاظم (ع) لصفوان الجمّال: لماذا تُكري جمالك لهذا الطاغوت؟ قال: لم أُكره لصيد أو لهو، إنما أكريته لهذا الطريق -يعني للحج-، قال: ألا تُحب أن يرجع سالماً؛ ليوفيك كراءك وأجرتك؟ قال: بلى، أريد أن يرجع ليعطيني أجرتي. قال: من أحبَّ بقاءهم وسلامتهم كان منهم(4). ثم يقول مولانا الإمام (ع) في مورد آخر: "لأن أسقط من شاهق فأتقطع قطعة قطعة أحب إليَّ من أن أتولى لأحدٍ منهم عملاً أو أطأ بساط رجلٍ منهم .."(5).

 

تلاحظون أن أهل البيت (ع) حرصوا على أن يستقل الفقيه المرجع استقلالاً تاماً عن السلطة، لماذا؟ لأنه إذا لم يستقل عن السلطة وعن الطاغوت أثّر ذلك على مسار فتواه، فيُفتي وفق ما تقتضيه مصلحة السلطان، ووفق ما تقتضيه رغبة السلطان، أو لا أقل فإنه يفتي بما لا ينافي مصلحة، ورغبة، وسياسة السلطان.. الحوزة العلمية كذلك مستقلة، الآن أكثر من ألف سنة منذ أن أسسها الشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله)، وهي ليس لها علاقة بأيِّ جهة كانت، حتى لمَّا قامت الدولة الإسلامية في إيران أكّد الإمام الخميني بأن الحوزة -رغم أن الحكومة هي حكومة الإمام- لابد أن تكون مستقلة، ولا ربط لها بأي جهة كانت؛ وذلك من أجل أن تكون الحوزة، ومراجع الحوزة، على استقلالٍ تام في مقام الإفتاء، لأن الإفتاء هو أخطر شيءٍ في هذا الدين.

 

آثار عدم استقلالالية الفتوى:

لاحظوا، لما لم تستقل الحواضر والمعاهد الدينية في المذاهب الأخرى كيف صار حالها، فهي تحت رحمة السلطان، فمتى ما شاء السلطان أن يُعلن حرمة المهادنة مع إسرائيل قال للمفيتي الرسمي: ابحث لنا عن دليل يُحرِّم المهادنة مع إسرائيل، ويستخدمه كورقة للضغط، ومتى ما اقتضت مصلحة السلطان أن تكون هناك علاقة مع إسرائيل، أو مع أي جهة! فإن على المفتي أن يلتمس من الأدلة ما يُبرِّر هذه العلاقة.

 

فالمعاهد الدينية تراعي فيما يصدر عنها من فتواى ما يناسب أجندة السلطة عندما تكون تحت هيمنة السلطة.. هكذا هو حال العديد من الحواضر الإسلامية فهم يفتون وفق ما تقتضيه سياسة السلطان. أما الشيعة فلم يكونوا كذلك على امتداد التأريخ، وأصرَّ الفقهاء في جميع الحقب التأريخية على أنَّه ليس على الفقهاء وحدهم أن يكونوا مستقلين، بل أيضاً العلماء، والطلبة لابد أن يكونوا مستقلين عن السلطة؛ حتى لا يؤثر ذلك على مواقفهم، وسلوكهم، وعملية إصلاحهم للمجتمعات.

 

نماذج من التأريخ:

أنا أذكر نماذج مختصرة للتعبير عن مدى الأثر السيء الذي يترتب على عدم استقلالية الفقيه عن السلطان:

 

فتاوى قتلت حجر بن عدي!

حِجْر ابن عدي الكندي، وهو رجلٌ قد أجمع المسلمون قاطبة على أنه كان من أعبد الناس، وأتقاهم، وأورعهم ومن أكثرهم صلاحاً، فكان يقيم الليل، ويصوم النهار، وكان من قرّاء وصلحاء الكوفة.. هكذا وصفته عائشة، وهكذا وصفه الحسين(ع). هذا الرجل اختلف مع السلطان -معاوية بن أبي سفيان-، فأراد السلطان قتله، إلا أن ذلك لم يكن ميسوراً نظراً لما هو معروف عن هذا الرجل من الصلاح والتنسك والعبادة ثم إنّه وجيه في قومه، وله موقع اجتماعي نافذ، ومعاوية قد بنى الأمور على أساس المحافظة على التمظهر بمظاهر الإسلام، ولكن حجر بن عدي يشكل خطراً عليه وعلى سلطانه، فماذا فعل؟ بحث له عن فقيه معروف؛ ليشهد بأن ذلك الرجل العابد هو إنسان منحرف، وأنه إنسان يُريد أن يشقَّ عصا المسلمين. ومن يشهد بذلك؟! فوجد بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ومجموعة من الفقهاء -أصحاب الأبّهات: فقالوا نحن نشهد. فأفتوا بجواز قتله! وحُمِل الرجل، وقُتل صبراً بدمٍ بارد، ودفن في مرج عذراء. هذه هي النتيجة(6)!

 

لاحظوا، كيف أنَّ الفتوى حينما تصدر في ظلِّ السلطان، كيف تكون نتيجتها: هي أن يُسفك الدم الحرام.

 

فتاوى قتلت الإمام الحسين (ع)!

كذلك قُتل الإمام الحسين (ع) بفتاوى الفقهاء، فعددٌ من الصحابة والتابعين قالوا: بأن الرسول (ص) أفاد بأنَّه: لا يجوز الخروج على السلطان، وإنْ جار، وإنْ ظلم، وإن كان فاسقاً! ونسبوا للرسول "ص"أنه قال: لا تخرج عليه وإن جلد ظهرك، ولا تخرج عليه وإن ابتزَّ واغتصب أموالك! والخروج على السلطان شقٌّ لعصا المسلمين.. لذلك أفتوا بأنَّ الخروج على السلطان فتنة محرمة، وموبقة خطيرة! وبهذا برَّروا للسلطان الجائر قتل الحسين (ع).

 

فتاوى حسب الطلب!

ثمة الكثير من الروايات التي اختُلقت في أيام معاوية كان منشأها السلطان ومن تلك الروايات -مثلاً-: زعم بعضهم أن رسول الله (ص) قد قال الأمناء ثلاثة: أنا، وجبرئيل، ومعاوية!(7) عجيب والله، ألا يوجد في الصحابة كلهم إلا معاوية يكون عِدْلاً لجبرئيل ولرسول الله (ص)!!

 

هذه روايات، وفتاوى، كانت تصدر على أساس ما يُناسب هوى السلطان، فالسلطان يحب الغناء، إذاً فيجب أن نبحث عن دليل يُحلِّل الغناء! السلطان يشرب النبيذ، فلنبحث عن دليلٍ يُبيح النبيذ! حتى قال قائلهم بأن النبي (ص) كان يسمح للأحابش بأن يُغنُّوا في المسجد!! وبذلك يسوغ للسلطان أن يعقد مجالس اللهو والطرب، فالكثير من الروايات اختُلقت والكثير من الفتاوى صدرت لتبرِّر للسلطان فسقه وفجوره وظلمه.

 

يُذكر ان أحد الخلفاء العباسيين كان يحب المسابقة بالحمام، ومعروف من فقه المسلمين أنّه لا سبق إلا في ثلاث: في خفٍّ، وحافر، ونصل(8).هذه هي الأمور الثلاثة التي يصح عليها المراهنة في السباق. ولكنَّ هذا السلطان لديه هواية يريد أن يمارسها، وهو خليفة المسلمين كيف يمارسها خلافاً لرسول الله (ص)؟ لذلك لابدَّ من الغطاء الشرعي وهنا يدخل أحد المتفقِّهة، فيقول: الرواية المعروفة قد نسى رواتها بعض فقراتها، وإنما قال رسول الله: (لا سبق إلا في أربع: في خف، أوحافر، أونصل، أوجناح)، -يعني الحمام-، فيجوز المسابقة بالحمام. قال السلطان: أعطوه، أعطوه. ولما خرج هذا المتفيقه قال السلطان: إنّي لأعرف أن قفا هذا الفقيه قفا كذّاب، إلا أنه اجازه بعشرة آلاف درهم لأنه بحاجة إلى أمثال هؤلاء المتزلِّفين فهم من يُضفي على ممارسات السلطان الغطاء الشرعي(9).

 

فتاوى الإرجاء والجبر

السلطان يقتل بغير وجه حق، وذلك من الفسوق، فما هو المخرج من هذا المأزق؟ يأتي فقهاء المرجئة فيقولون: له عمله، يحاسبه ربه يوم القيامة، ولا يجوز أن يُتهم بالفسوق لمجرد أنّه عصى، فكل هذه الأمور يتعيَّن أرجاؤها إلى الله -عز وجل- يوم القيامة، فهو الذي يحاسبه!

 

أيضاً الإنسان مجبور على عمله، فهذا الفاسق يزني لأنه مجبور على الزنا، وهذا يقتل، لأن الله -عز وجل- هو الذيقدر له وقضى عليهأن يقتل! هذه الفتاوى عزَّزت وجود السلطان.

 

ولذلك نحن نصرّ على الإستقلالية

إذن، كانت الفتاوى تصدر بأجندة تعتمدها السلطة، ومنها تدركون -أيها الأخوة الأعزاء- ما هو السر وراء إصرار فقهائنا على امتداد تأريخ الغيبة، بل وإصرار أئمتنا قبل ذلك منذ أن رحل الرسول (ص) إلى ربه، على أن يكون العالم -الفقيه، والمرجع الديني- مستقلاً استقلالاً تاماً عن السلطة، بل وإصرارهم على استقلال كلِّ العلماء، واستقلال كل الذين يتصدَّون لتبليغ الدين، وتعليم شرائع الدين.

 

هذا ما أفاده الإمام (ع) بقوله: "مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه" -وهذه الفقرة الأخيرة سنتحدث حولها فيما بعد-. إن شاء الله تعالى.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 27 ص 131.

2- النص: "إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم الملوك ونعم العلماء". أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين- ج 2 ص 125.

3- أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ج2/125، الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 49.

4- النص: "يا صفوان، كل شئ منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا، قلت: جعلت فداك أي شئ؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل، -يعني هارون- قال: والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق -يعني طريق مكة-، ولا أتولاه بنفسي، ولكن ابعث معه غلماني. فقال لي: يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟ قلت: نعم، قال: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار. قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: ولم؟ قلت: أنا شيخ كبير وإن الغلمان لا يفون بالاعمال؟ فقال: هيهات هيهات، إني لاعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي ولموسى بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك". أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين- ج 2 ص 125.

5- وسائل الشيعة ج17/194.

6- لاحظ تاريخ اليعقوبي ج2/230، تاريخ الإسلام للذهبي ج4/193، الاستيعاب لابن البر ج1/331.

7- سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج 3 ص 130.

8- النص: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر" وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص مقدمة التحقيق 47.

9- مستدرك الوسائل ج14/83، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج12/320.