البرهان على وجوب التقليد

المسألة:

ما هو الدّليل والبرهان الأساسيّ على وجوب التّقليد؟

 

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد

 

البرهان على لزوم تقليد العامّي للمجتهد

مكوّن من مقدّمات:

المقدمة الأولى:

إنَّ كلَّ مسلم مكلَّف يعلم جزمًا أنّ ثمّة أحكامًا إلزاميّة واقعيّة مفروضة من قبل الله عز وجل وأنَّ المكلّف مسئولٌ أمام الله تعالى عن التّقيُّد بها وأنّه لا يسعه تجاوزها أو إغفالها وإهمالها كما أنه يعلم أنه ليس له أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء.

 

المقدمة الثانية:

إنّه لا يمكن للمكلف التقيُّد والالتزام بتلك الأحكام الإلزامية الواقعية دون معرفتها بتفاصيلها أو معرفتها إجمالاً ليتسنى له الاحتياط.

 

المقدمة الثالثة:

إنَّ الطريق لمعرفة الأحكام الإلهية الإلزامية إما أن يكون بالبحث عن كل حكم بواسطة الرجوع إلى أدلَّته من الكتاب والسنة وبقية مصادر التشريع، وهذا ما يُعبَّر عنه بالاجتهاد، وهو يقتضي الإحاطة بالعلوم المفضية لفهم الكتاب والسنة فهمًا تفصيليًا كعلوم العربية وعلم الأصول والرجال والدراية، فإذا أحاط بمثل هذه العلوم يكون قادرًا على الوصول إلى أدلة الأحكام الشرعية الإلزامية.

 

ومن الواضح أن الإحاطة بكل هذه العلوم يتطلب صرف شطر ليس بالقصير من العمر في دراسة هذه العلوم كما أنَّ ذلك يتطلب استعدادًا ذهنيًا يكون معه قادرًا على فهم واستيعاب ما يدرسه ويتعلَّمه.

 

وكلا الأمرين ليس متاحًا لكلّ أحد، فلو صرف الناس كلُّهم أوقاتهم في تحصيل العلوم الدينية لاختلَّ نظام الحياة، إذ أنها تتقوَّم بالطبيب والبنَّاء والفلاح والمهندس والنجار والجندي وغيرهم، فلا يسع الناس كلُّهم الانصراف إلى وجهة واحدة من مقومات الحياة وإغفال سائر الجهات، لأنَّ في ذلك تقويضاً لنظام الحياة والمعاش.

 

على أنَّه ليس كلُّ مَن صرف وقته لتحصيل علمٍ من العلوم أصبح قادرًا على استيعابه وإجادته، وذلك لتفاوت الناس في استعداداتهم الذهنية.

 

وبذلك يتبيَّن أنَّ هذا الطريق وإنْ كان يُفضي إلى معرفة الأحكام الإلهية الإلزامية إلا أنَّه ليس متاحًا لكلِّ أحد، وعليه وباعتبار أنَّ كلَّ مكلَّفٍ يعلم بوجود أحكامٍ إلهية إلزامية وأنَّه مسئول عن التقيُّد بها، ولأنَّ التقيُّد بالأحكام منوط بمعرفتها ولأنَّ معرفتها بواسطة الاجتهاد غير متاحٍ له بحسب الفرض فهنا ليس لمثل هذا المكلَّف سوى طريقين يمتثل بواسطة أحدهما ما هو مفروضٌ عليه واقعًا من قبل الله تعالى.

 

الطريق الأول: هو الاحتياط وذلك بأنْ يأتي بكلِّ فعل يحتمل وجوبه وأن يترك كلَّ فعل يحتمل حرمته، وهذا الطريق لو أمكن لبعض المكلفين الالتزام به فإنَّ من العسير على كلِّ أحد الالتزام به، وذلك لأنَّ الاحتياط يقتضي الإعادة كلما احتُمل فساد العمل ويقتضي التّكرار في موارد التردُّد فيما هو المأمور به واقعًا كما لو وقع الشك في جهة القبلة فإنَّ الاحتياط يقتضي تكرار الصلاة على أنْ تكون كل واحدة إلى جهة من الجهات الأربع حتى يُحرز المكلَّف أنَّه صلى الى الجهة الواقعية للقبلة كما يقتضي ترك المشتبهات جميعًا وإنْ كثرت كما لو علم المكَّلف بأنَّ أحد الباعة يبيع لحمًا محرَّمًا إلا أنَّه لا يعلم مَن هو ذلك البائع فالاحتياط في مثل هذه الصورة يقتضي عدم الأكل من كلِّ اللحوم التي تُباع في السوق وهكذا.

 

الطريق الثاني: هو الرجوع في مقام التعرُّف على الأحكام الإلزامية التحريمية والوجوبية إلى المجتهد.

 

وهذا هو المعبَّر عنه بالتقليد وهو سبيل كلِّ مكلف لا يتاح له الاجتهاد أو الاحتياط، إذ أنَّ كلَّ مكلف لا يمكنه التقيُّد بالأحكام الإلهية التي يعلم بمسئوليته عن امتثالها إلا بالاحتياط أو المعرفة التفصيلية للأحكام الإلهية، والمعرفة التفصيلية لا تكون إلا بالاجتهاد فإذا افترضنا أنَّه غير متاحٍ للمكلف فحينئذٍ يتعيَّن عليه الرجوع للمجتهد للتعرُّف على الأحكام التي هو مسئول عن امتثالها، وهذا هو التقليد.

 

وبذلك يثبت وجوب التقليد على غير المجتهد والمحتاط، وليس ثمة من طريق رابع يمكن للمكلف سلوكه للخروج عن عهدة التكاليف المفروضة عليه والتي يعلم بمسئوليته عن امتثالها.

 

وهذا الطريق اعني التقليد لا يختص بالشأن الديني، فالمريض إذا لم يكن عارفاً بالدواء الذي ينفعه للشفاء من مرضه لا سبيل له إلا الرجوع إلى الطبيب ليشخِّص له مرضه وليصف له الدواء المناسب لمرضه. وهكذا الحال فيمن أراد أن يتَّخذ لنفسه سريراً أو كرسياً فإن من غير الميسور له أن يصنع لنفسه ذلك إذا لم يكن نجَّاراً، فلا سبيل له إلا أن يرجع في ذلك إلى أهل الاختصاص في هذا الشأن، وهكذا ينسحب الأمر على سائر الشؤون الحياتية.

 

فرجوع غير المختص إلى أهل الاختصاص فيما يتصل باختصاصهم من الأمور التي تقتضيها ضرورات الحياة، لذلك كانت السيرة العقلائية جارية على الرجوع في كل شأنٍ إلى أهل الاختصاص في ذلك الشأن، فالرجوع في معرفة الأحكام الشرعية إلى المجتهد الذي هو من اهل الاختصاص في الشأن الديني ليس استثناءً من ذلك بل هو جارٍ على وفق مقتضيات السيرة العقلائية.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور