علامات ظهور الإمام الحجة (عج) (3)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،وخاتم النبيين، حبيب إله رب العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

نقد ومناقشة لروايات الدجّال:

أولاً: لا يمكن قبول تفصيلات هذه الروايات:

كنا قد انتهينا في الجلسة السابقة، إلى الحديث عن خروج الدجال، وقلنا إنَّ ذلك من علامات الظهور القريبة جداً من عصر الظهور المبارك، وقلنا إنَّ الروايات التي وردت في خروج الدجال كثيرة جداً تفوق مستوى التواتر الإجمالي، إلا أننا ذكرنا أن هذه الروايات التي وردت متحدثة عن خروج الدجال قُبَيْل ظهور القائم (عجل الله فرجه الشريف) أكثرها قد وصلنا من طرق العامة، وإن كان ثمة مجموعة من الروايات المتصدية للحديث عن خروج الدجال قد وردت من طرقنا لأهل البيت (ع) إلَّا أنَّها قليلة في مقابل ما ورد من طرق العامة، نعم ذلك لا يخدش في تواترها المُنتِج للقطع بصدورها في الجملة، فهذا التواتر، تواترٌ إجماليّ: بمعنى أنه يُثبت خروج الدجال قُبَيْل ظهور القائم، أما التفاصيل التي تصدَّت الروايات لبيانها -كالحديث عن صفات الدجال، وكيفية خروجه، وما هي إمكانياته، وما هو أثره على الأمة الإسلاميَّة، وعلى البشريَّة قاطبة- فهي روايات آحاد، لا يمكن القطع بصدورها، ولذلك لا يمكن القطع بوقوعها خارجاً قُبَيْل ظهور القائم (عجل الله فرجه الشريف).

 

ثانياً: الروايات مشتملة على الكثير من الغرائب:

وثمَّة مُضعِّف آخر لهذه الروايات، فهي علاوة على أنَّها روايات آحاد، وواردٌ أكثرها من طرق العامة -حيث لا نعتمد الكثير من طرقهم- هي بالإضافة إلى ذلك مشتملة على الكثير من الغرائب التي يصعُب قبولها- كما ذكرنا سابقاً- فهي تحكي عن إمكانيات غريبة للدجال، وتحكي صفات غريبة للدجال، فهي تحكي أنَّ بين عينيه مكتوب كافر، يقرؤه الكاتب وغير الكاتب! فإنْ كنا نتعقل أن يَقرأ ما هو مكتوب على جبينه، الكاتبُ والعارفُ بالقراءة والكتابة، إلا أنَّه كيف نتعقل أنْ يقرأ ذلك غير الكاتب الأميّ؟!

 

وورد أيضاً أنَّ من إمكانيات هذا الرجل، أنَّه يأمر السماء أن تُمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تُنبت فتنبت، وأنَّ المطر الذي ينزل من السماء بأمر الدجال، والأرض التي تنبت النبات بأمر الدجال، يأكل منها المواشي فتسمن في أقلِّ وقت، يعني تصبح سماناً ذات ضروع ممتلئة باللبن، وذات خواصر -كما ورد-، طوال، عراض، في أقل وقت ممكن، على غير الحالة الاعتيادية التي ينمو فيها جسد الشاهَ. مثل هذه هذه الصفات وهذه الإمكانيات الغريبة، تُساهم في تضعيف هذه الروايات، وعدم القدرة على قبولها.

 

تحليل ومعالجة لروايات الدجّال:

كيف نعالج هذه الروايات؟! وعلى أي أساسٍ نفهمها؟

 

أولاً: تصنيف الروايات:

يمكن تصنيف هذه الروايات إلى ثلاثة أصناف:

 

الصنف الأول: والذي أفاد بأنَّ الدجال سوف يخرج في آخر الزمان قُبَيْل ظهور القائم، وستكون نهايته على يد الإمام القائم أو السيد المسيح.

 

هذا المقدار من الروايات يمكن قبوله، فهو من حيث المضمون مقبول جداً، وهو من حيث السند يفوق حدَّ الإستفاضة، بل لعله القدر المتيقن من مجموع مضامين روايات الدَّجال البالغة حدَّ التواتر الإجمالي.

 

أما الصنف الثاني: فهي روايات لا نستبعد أنَّها موضوعة، من الكذَّابين والمدلِّسين، وأنتم تعلمون أنَّ الإسرائيليات قد تسرَّبت إلى التراث الإسلامي بواسطة نوعين من الرواة: النوع الأول هم من كانوا من أهل الكتاب ككعب الأحبار وتميم الداري، فالاول كان يهودياً، والثاني كان نصرانياً ثم أسلما، وحينئذٍ أدخل كلٌ منهما الكثير من النصوص، والكثير من المضامين التي ورثاها إلى تراثنا الإسلامي، وادَّعيا أنَّها من الروايات الواردة عن الرسول (ص). ونحن هنا لسنا بصدد التفصيل في هذا الأمر، ولكنَّه لا يمكن التنكُّر لهذه الحقيقة، فقد تسرَّب إلى تراثنا الإسلامي -خصوصاً في طرق العامة- الكثير الكثير من الروايات الموضوعة، التي وضعها الكذابون ممن دخلوا الإسلام من جهة، وممن كادوا بالإسلام، وهم من أصلٍ مسلمٍ؛ نتيجة الارتباط ببلاط الولاة والحكام، الذين كانوا يبتغون النيل من الإسلام بمجموعة من الوسائل، هذه الوسيلة هي من أهمها وأمضاها، وأكثرها تأثيراً، هؤلاء هم النوع الثاني من الرواة.

 

الصنف الثالث من الروايات: وهي رواياتٌ ظاهرها غريب، ولا يمكن قبولها على ظاهرها، ولكن يمكن القبول بها بعد أن نفهمها بفهمٍ غير الفهمِ التقليديّ المناسب لمقتضى الظهور الأوليّ لهذه الروايات.

 

ثانياً: الفهم السليم لهذه الروايات:

بعد هذه المقدمة نقول: إننا وبعد أن تحدثنا في الليلة الماضية عن بعض الروايات التي تصدَّت لبيان بعض التفاصيل المرتبطة بصفات الدجال، وإمكانياته، وأثره على الأمة، نقول إنَّ ثمَّة فهمين لهذه النصوص:

 

الفهم الأوَّل: يمكن أن نعبِّر عنه بالفهم التقليديّ، وهو الذي يعتمد الظهور الأولي لهذه الروايات.

 

والفهم الآخر: يمكن أن يُعبَّر عنه بالفهم الرمزيّ للروايات، وسنخرج بنتيجة أن الأوْلى هو فهم هذه الروايات على أساس الفهم الرمزيّ.

 

أ‌- الروايات بحسب الفهم التقليدي:

أما الفهم الأول فمحصله: أنَّ الدجال رجلٌ من البشر، طويل العمر، يمتدُّ عمره إلى زمان الرسول (ص)، وهو حي إلى أن يخرج في آخر الزمان.

 

هذا الرجل عندما يخرج تكون له حركة تضليلية، وهذه الحركة التضليلية تترك أثراً كبيراً على الأمة الإسلامية، فيفتتن به الكثير من المسلمين، وتكون له حركة عسكرية، يتمكن بواسطتها من الهيمنة على معظم ربوع الأرض، ليس البلاد الإسلامية وحسب، بل مطلق وجه الأرض-، وإنَّ لهذا الرجل إمكانيّاتٍ غريبة نقبلها على ظاهرها، فله إمكانيَّات إعجازيَّة! فهو يأمر السماء أن تُمطر فتُمطر(1)، ويأمر الأرض أن تُنبت فتُنبت، وإنَّ مواشي مَن يتبعه من الناس تسمن بمجرَّد أن تشرب من ذلك المطر، وتأكل من ذلك النبات، في مدة قياسيةٍ قصيرة، ونفهم من الروايات -على ظاهرها- أنَّ له حماراً يركبه، هذا الحمار ليس كالحُمُر الاعتيادية، الحمار الاعتيادي -أجلَّكم الله- المسافة بين أذنيه لا تعدو الثلاث، أو الأربع أصابع، -وإذا كان حماراً كبيراً جسيماً، فلن يتجاوزو عرض رأسه الخمس إلى ست أصابع، أما حمار الدجَّال فبين أذنيه ميل!!(2) -فإذا كان عرض رأسه ميلاً، فما هو حجم جسده؟!-. هذا هو فهم الحشوية لهذه الروايات فحمار الدجَّال بحسب هذا الفهم عملاق، ومابين أذنيه مقدار ميل حقيقةً! وهذا الدجَّال أيضاً له من القدرة، بحيث يستطيع أن يُحيي الأموات!(3)

 

إذن فهذا الفهم يقول إنَّ علينا أن نفهم هذه الروايات -رغم غرابتها- كما هو مقتضى ظهورها الأولي، هذا هو الفهم الأول، والذي تبنَّاها الكثير من الحشويَّة -خصوصاً من أبناء العامة-، فهم يُقرِّون بأنَّ الدَّجال سوف تكون له كلُّ هذه الإمكانيات على نحوٍ إعجازيّ!!

 

ب- الروايات بحسب الفهم الرمزي:

الفهم الآخر لروايات الدجال هو ما يُعبَّر عنه بالفهم الرمزيّ: وهو أنَّ الدَّجال ليس رجلاً مشخّصاً، بل هو عنوان أُطلق وأُريد منه الحضارة المادية، على سعة إمكانياتها، وسعة تأثيرها، وسيبلغ تأثيرها حداً لا تكون ثمَّة بقعةٌ من بقاع الأرض إلَّا وتترك هذه الحضارة بصماتها عليها.

 

القرائن التي تؤيد الفهم الثاني (الرمزي):

 

هذا الفهم الرمزيّ لروايات الدَّجال يمكن أن نؤكِّده وندعمه بمجموعة من القرائن:

 

أما القرينة الأولى: فهو إننا لا نفهم ولا نتعقَّل معنىً للقدرة الإعجازية للدجال.

 

الإعجاز منحةٌ إلهية، يُعطاها أحد عباد الله؛ ليكون ذلك منشئاً للهداية. هذا هو قانون المعجزات، قانون المعجزات: هو أنَّ الله -عز وجل- يعطي أحد أوليائه، أو أحد أنبيائه، قدرةً، هذه القدرة تُنتج المعجزة -والتي هي خرق ناموس من النواميس الطبيعة-، فيكون هذا الخرق للناموس الطبيعيّ وللقانون الطبيعيّ مصدراً لهداية الناس. فإذا كان الدَّجال مصدر بلاءٍ وافتتان، فكيف يُعطى من قِبَل الله -عزَّ وجلَّ- هذه القدرة الإعجازية؟! هذا سيكون إغراءً للناس بالضَّلال، لذلك لا يمكن قبول هذه الرِّوايات على أساس أنَّ للدجال قدرات إعجازية، بل لابدَّ أن تسير قدرات الدَّجال وإمكانياته على أساس القوانين الطبيعية الاعتيادية. هذه القرينة الأولى.

 

القرينة الثانية: حين نلتفت إلى أنَّه من غير الممكن للرسول الكريم (ص) -الذي أُمر أن يكلَّم الناس على قدر عقولهم- أن يُبيِّن للناس في ذلك الزمان، واقع هذه الإمكانيات المذهلة التي عليها الحضارة المادية، بصيغتها المناسبة لما نحن عليه الآن، فإنَّهم لن يفهموا ذلك.

 

قراءة الروايات على ضوء الفهم الرمزيّ:

حين نلتفت إلى هذا المعنى -أي صعوبة تفهيم مَن كان في ذاك العصر- نجد أنَّه لا مناص من أن يرمز لتلك الأمور التي ستحدث مستقبلاً برموز قريبة من الفهم السائد آنذاك.

 

1- حمار الدّجال:

فحين يكون الكلام -في ذلك الزمان- عن مركب الدجَّال، فمن الطبيعي أن يرمز له بـ (الحمار)، وإلَّا فكيف سيفهمون أنَّ مركب الدجال -يكون مثلاً- فرقاطة ضخمة؟! أو يكون عنده مثلاً مركب مجهَّز بأحدث التكنولوجيا، كيف يفهم الناس ذلك؟! فالمناسب أن يشبِّه لهم هذا المركب بالحمار، ولكن يُعطيه صبغة مطابقة للواقع ولكنها غريبة عليهم، فهم لا يتعقَّلونها، إلَّا أن مَن يأتي بعدهم يمكن أن يفهمها بهذا الفهم.

 

2- أمره للسماء بالإمطار، والأرض بالإنبات:

وأما ورد من أنَّه يأمر السماء أن تُمطر فتمطر، والأرض أن تُنبت فتنبت، فهو أمرٌ لا يفهمه المعاصر للرسول (ص) إلَّا على أساس أنَّ ذلك خرق لناموس الطبيعة، ولكن نحن عندما نسمع بمثل هذه الروايات نفهمها على أساس أنَّ إمكانيات خاصة -نتيجة تطور العلم- تقتضي أن تمطر السماء -وهذا أمر قد وقع الآن-، وكذلك ثمة معالجات للتربة وللبذور تقتضي أن تنبت الأرض بأسرع ما يكون، وهناك مجموعة من الأدوية والأطعمة توجب أن تنشأ الدَّجاجة في أقلِّ وقتٍ ممكن، وأن تنشأ الشاة في أقلِّ وقت ممكن، وأن تسمن وتكبر ويكثر لبن ضرعها.

 

في الوقت الراهن ثمة الكثير من الدول عندما تُصاب بالجفاف، فإنَّ هناك مجموعة من المعالجات تؤدي إلى أن تنشأ وتتلَّبد السُّحب في سماء تلك الدول ثم تمطر، هذا أمر موجود الآن، ولعلَّ العلم يتطوَّر أكثر، فيحصل ما هو موجود في مضامين هذه الروايات، هذا ممكن.

 

وعليه فيمكن فهم مضامين هذه الروايات بنحوٍ غير الذي تقتضيها الظهورات الأولية فنفهمها على أساس أنها كانت بصدد الإشارة إلى الإمكانيات الهائلة التي تصل إليها الحضارة المادية.

 

3- سماع المشرق والمغرب لكلام الدجال:

وورد أيضاً في الروايات أنَّه يقول قولاً فيسمعه مَن في الخافقين، مَن في الشرق والغرب، يسمع أطروحته ودعواته. هذا المضمون عندما نقرأه الآن فإنَّ من اليسير علينا تعقُّله فلا نستغرب أن يتكلم أحدنا الآن في هذا الموقع، فيسمعه كلُّ مَن في الأرض بواسطة الأجهزة الإعلامية الحديثة، إذن لا غرابة ولا وجه إعجازي في مثل هذا المضمون.

 

4- قراءة الأميّ لما بين عيني الدجال:

كذلك عندما نسمع أنَّ الدجال مكتوب بين عينيه كلمة كافر، يقرؤها الكاتب وغير الكاتب. فمن الطبيعي، أنَّ الكاتب وغير الكاتب، الأمي وغير الأمي، عندما يلحظ هذه الحضارة يعرف أنها لا تدعو للإسلام، وأنها في مقابل الإسلام، وأنَّها كافرة.

 

5- إدعاء الربوبيَّة:

وهكذا نفهم ما ورد من أنه يدَّعي الربوبية(4)، فواضح أنَّه يدعي الربوبية لا بمعنى أنَّه الإله، وإنَّما يكون من مبدئه وشعاره الذي يرفعه هو أنَّ الحضارة المادية هي كلُّ شيء، وأنَّه ليس ثمَّة شيءٌ وراء هذه الطبيعة، ووراء هذه المادة، وأنَّها هي الخلاَّقة، أو يكون المراد من إدعائه للربوبية هو إدعاء هذه الحضارة الحق في إدارة الكون وتدبير شئوناته وأنَّه ليس من أطروحةٍ أجدر بالتبنِّي من أطروحتها، لذلك فهي تسخِّر كلَّ إمكانياتها في سبيل ترويج هذه الأطروحة، و من ذلك نفهم تأكيد الروايات على التحذير من فتنة الدَّجال، والمعبِّرة عن أنَّ الدَّجال سوف تكون له آثار في التضليل واسعة جداً. نحن لا نتعقَّل أن تكون لرجلٍ، في بداية الأمر يكون نكرة -كما في الروايات-، ويتحرَّك حركة اعتيادية، إلى أن تتكوَّن عنده قوة عسكرية يستطيع أن يُهيمن بها على الأرض -كلِّ الأرض تقريباً إلا مكة والمدينة كما ورد في رواياتهم-، يهيمن عليهم فكرياً، ويُهيمن عليهم عسكرياً، واقتصادياً لا نتعقل ذلك في رجلٍ عاديٍّ جداً. الأوْلى أنَّ نفهم أنَّ هذا الأثر الكبير الذي يتركه الدجال هو أثر هذه الحضارة المترامية الأطراف، والتي يؤمن بها الكثير من أصحاب القوة والنفوذ في العالم، ولذلك تجد أثرهم واضحاً في مطلق بلاد الأرض، فالتحذير الوارد من فتنة الدجال في الروايات، وأن الكثير من المسلمين سوف ينضوون تحت هذه الراية وينساقون إليها، نفهم منه أنَّ الكثير من أبناء المسلمين سوف تنطلي عليهم ضلالات الدَّجال، حيث يؤمنون به، ويروِّجون لضلالاته وفتنته، هذا أمر.

 

6- النعيم الذي يحظى به أتباع الدَّجال:

ثم إنَّ الروايات أفادت أنَّ أتباع الدجال سيكونون في رغدٍ من العيش وأنَّه إنَّما يأمر سماء أتباعه أن تُمطر وليس أي سماء وهو إنَّما يأمر أرض أتباعه أن تُنبت وليس أي أرض، فأتباعه هم مَن سيحظون بالعيش الرغيد كما ورد في الروايات، وأما المسلمون الذين لم يفتتنوا بضلالاته -كما في الروايات-، يبقون مُمحلين فقراء، بل يؤخذ منهم -كما ورد- ما عندهم! على أي أساس نفهم هذه المضامين؟ الفهم المناسب لهذه المضامين هو أنَّ هيمنة الدجال ترمز إلى هيمنة الحضارة المادية بنفوذها العسكري والإقتصادي، ونفوذها الفكريّ على ربوع الأرض، بحيث تكون كلُّ مقدّرات البشرية بأيديهم. وهذا أمرٌ قد ظهرت بوادره، وقد بدأت معالم هذه النبؤة تظهر بجلاء في وقتنا الراهن وكمثال على ذلك تجد أن الدول الفقيرة التي تريد أن تقترض من البنك الدولي، تُفرض عليها شروط،هذه الشروط ليس لها ربط بالقرض أصلاً بل لها ربطٌ بالعقيدة، أو لها ربطٌ بالنظام السياسي أو يكون الشرط هو التوقيع على عقود ومعاهدات تُساهم في الترويج للمبادئ التي تؤمن بها الحضارة المادية، وأيُّ أحدٍ يتمرَّد فإنَّ أمامه حربٌ اقتصادية تحوِّله إلى فقير ممحل.

 

هكذا نفهم روايات الدجال، وبها نتعقَّل مثل هذه الروايات، ونتفهَّم غرابتها، نتيجة أنَّه لا يمكن للرسول الكريم (ص) أن يُعطي مفهوماً واضحاً لما سيكون عليه أمر الدجال، في ظرفٍ لم يكن من المتاح تصور هذه الإمكانيات المذهلة.

 

7- أهل الطيالسة الخضر:

وعلى هذا الأساس وفي هذا السياق يتم الفهم للمضامين التي أفادت بأنَّ أتباع الدجال هم أبناء الزنا، واليهود، وأهل الطيالسة الخضر(5) -كما قلنا في الليلة الماضية- أهل الطيالسة الخضر: قلنا هم الحكَّام، والمتنفِّذون، وأهل الثراء، وأهل المال. هؤلاء هم من يُنفِّذ ويُروِّج لأطروحة الدجال. وكذلك نفهم ما أفادته الروايات أنه في عصر الدّجال يُبيح لهم الزنا، وورد أنه يُبيح الزنا واللواط، حتى يُباشر الرجل المرأة في الشارع دون حياء، ويمشون عراة في عصر الدجال، ويبيح لهم المعازف، وشرب الخمر، وأكل الخنزير، هكذا ورد في الروايات؛ وكل ذلك مطابق لما عليه واقع المجتمع الغربي فقد أصبح الزنا مشروعاً إذا كان عن تراضٍ من الطرفين وأصبح اللواط في العديد من البلاد الأوربية مشرعناً تحت عنوان الرعاية لحقوق المثليين وقد تسرَّبت العديد من هذه الثقافات والسلوكيات إلى مجتمعاتنا الاسلامية نتيجة الترويج الممنهج، وعلى أي تقدير فإنَّ من المستقرب أنَّ روايات الدجال وفتنته وافتتان الناس به ترمز إلى الحضارة المادية! نحن نفهم إذن قضية الدجال على هذا الأساس.

 

9- انتهاء الفساد بموت الدَّجال:

ثم إنَّ الروايات أفادت أنَّه بمقتل الدجال يصفو الجوّ وتطهر الأرض من الظلم والاستبداد والفساد بُعَيْد مقتل الدجال. فهل يصح القبول بأن قتل رجلٍ واحد يترتب عليه أن ينتهي الفساد كلُّه أو معظمه؟! وعليه فمن المحتمل قوياً أن لا يكون الدجال شخصاً ورجلاً واحداً، بل هو حضارة واسعة مترامية الأطراف، ماسكة بمقدّرات الأمم والبشرية، وعلى هذا الأساس نحن نفهم روايات الدجال.

 

10- نار الدّجال ماء، وماؤه نار!

عندنا أيضاً رواية -قرأناها بالأمس- ومفادها أنَّ عند الدجال ماءٌ ونار، ولكنَّ الغريب ما ورد في الروايات: من أنَّ "ما يراه الناس ناراً فاذهب إليه؛ فإنك ستجده ماءً بارداً طيباً. وما يراه الناس ماءً فاجتنبه؛ فإنّه يحرق" ماء بارد يحرق، ونار حارقة عندما يتناولها الشخص يستشعر بردها وطيبها! هذا أمرٌ لا نفهمه إلَّا على هذا الأساس وهو أنَّ من يكون في خط الدجال يكون في رغد من العيش، بحسب الظاهر وانه في منجى من كل سوء ولكنه -في الواقع- ضلالٌ، وفتنة، ومصيره النار و بئس القرار. وأما من يتخلَّف عن ركب الدَّجال ويضطر للولوج في نار الدجال، فإنه سيكون في مأمنٍ، فكأنه يشرب ماءاً بارداً، وذلك يشير إلى شيئين:

 

أولاً: إلى أن الدجال يستخدم إمكانياته لتضليل الناس، وأنَّ ضلالاته تموِّه على الناس، وهذا أصلاً هو معنى الدجال (الدَّجل: بمعنى التمويه والتلبيس والتضليل) نفس عنوان الدَّجال يحمل هذا المعنى.

 

الأمر الآخر الذي نفهمه، والذي نستفيده من الرواية: أنَّ كلّ من سيكون في مقابل خطِّ الدجال، وإن كان سيحترق بناره، إلَّا أن مصيره الخير والصلاح والظفر.

 

11- هلاك الدَّجال:

وبذلك نفهم كيف يُقتل الدَّجال، الروايات أفادت أن الدجال سيقتله المسيح بشرق دمشق، ونحن نفهم من ذلك أنَّ حرباً سجالاً ضروساً سوف تكون بين الدجال -بين هذه الحضارة- وبين الحركة المهدوية -جيش الفتح العالمي-، وسوف تكون هزيمة الدجال هناك منشأً لهزيمته المطلقة، يعني يدخل عليه الوهن من حين هزيمته في الشام -قلنا الشام على سعتها-، والروايات التي وردت من طرقنا أفادت أن الذي يقتل الدجال هو من يصلِّي المسيح خلفه(6)، وهو الإمام القائم هذا معنى أن هزيمته ستقع في هذه المنطقة، ومنه يدخل الوهن على الدجال.

 

العلامة الثالثة: خروج يأجوج ومأجوج:

على أساس الفهم الرمزي -الذي ذكرناه-، نفهم أيضاً قضية يأجوج ومأجوج الواردة في الآية الشريفة: ﴿حَتَى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُون وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾، بخروج يأجوج ومأجوج يقترب الوعد الحق، وهو عصر الظهور -على أحد الأفهام للآية الشريفة، فهنا نفهم أنَّ يأجوج ومأجوج ليس المقصود منهما تلكما القبيلتين البدويتين الوحشيتين اللتين صدَّهما ذو القرنين عندما بنى السدّ، وإنَّما المقصود منهما هو ما فهمناه على هذا الأساس الذي ذكرناه، وهو الفهم الرمزيّ للروايات، لأنَّ الروايات هنا أيضاً أفادت معانٍ غريبة -كما هو الحال في قضية الدجال-، نختصرها فيما يلي:

 

1- ينتشرون في كلِّ الأرض:

مثلاً، ورد أنَّ يأجوج ومأجوج عندما يخرجون- -كما أوضحت الآية: ﴿فَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبِ يَنْسِلُوْن﴾(7) فإنهم يبلغون من العدد حداً بحيث وصفهم القرآن بأنهم من كلِّ ناحية، ومن كلِّ جهة ينحدرون وينتشرون، وهذا كناية عن استيعابهم للأرض -كل الأرض تقريباً-، فهؤلاء يستولون على الأرض -كما ورد في الروايات-، فيقتلون الكثير من أبناء الدنيا. والعجيب أنهم إذا قتلوا الكثير من أهل الأرض وهيمنوا على الأرض، قالوا قد قتلنا وانتصرنا على أهل الأرض، فلنغزو السماء(8)!

 

ولكن كيف سيغزون السماء؟ بعض الروايات أفادت أنهم يرمونها بنشاب، وبعضها برماح، طبعاً نحن لا نستغرب إذا كانوا غجراً إن يرموا السماء بالرماح، لكن الغريب أن تنزل النشاب والرماح والسهام وهي مخضَّبة بالدم(9)، فيقولون قد قتلنا أهل السماء، فهيمنَّا على السماء والأرض! هذا المعنى غريب! هم يرمون النشاب لأنَّهم مثلاً حمقى، أمَّا أن ينزل دمٌ من السماء فهذا معنىً لا نفهمه. فإما أن نُسقط هذه الروايات عن الإعتبار، أو نفهمها على أساس الفهم الرمزيّ، وهو أنَّهم عندما يُهيمنون على الأرض، أو تكون لهم هيمنة واسعة على الأرض، فإنَّهم يفكرون في الهيمنة على السماء من خلال غزو الفضاء والكواكب، وبعث الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية، والاستفادة من إمكانيات السماء بواسطة التكنولوجيا الحديثة. فنزول الدم هو كناية عن أنَّ حركتهم نحو السماء أثمرت ثمرتها، وحققت غرضها. إذا فهمنا الروايات على أساس هذا الفهم فلن نستغرب منها.

 

2- يشربون الأنهار والبحر:

ومن الروايات الغريبة التي وردت فيما يرتبط بيأجوج ومأجوج، أنَّهم يمرون على النهر فيشربونه كلّه!(10) حتى يمر المار فيقول كان ثمَّة نهرٌ هنا والآن لا يوجد نهر!، يمرون على بحيرة طبرية(11) فيشربونها!! هذه الأمور لابد أن نفهمها على أساس الفهم الرمزي، وهو الاستيلاء والهيمنة على الأنهار، وعلى منابع القدرة، وقدرتهم على الاستفادة منها -وليس مجرّد الهيمنة، فالهيمنة تحصل، ولكن التعبير بالشرب هو كناية عن الاستفادة- فيستثمرون هيمنتهم على النهر، وبحر طبرية، وغيرها من البحار والأنهار، ويستخرجون منها الكثير من الآثار والخيرات، هكذا نفهم هذه الروايات.

 

3- آذانهم أُعجوبة:

ومن غرائب ما ذكرته الروايات في شأن يأجوج ومأجوج هو أنَّ لكل فردٍ منهما أذنين إحداهما من وبر والأخرى من شعر والواحدة يصل حجمها حداً بحيث إذا جاء الليل افترش إحداهما وتدثر بالأخرى!

 

كيف نفهم هذه الروايات؟! يلتحف بأحدى أذنيه ويفترش أخرى! لا يمكن فهمها إلَّا على هذا الأساس الذي ذكرناه وهي أنَّها ترمز إلى الرغد من العيش الذي ينعمون به، فإما ان نفهمها على هذا الاساس، أو نسقطها عن الاعتبار.

 

4- هلاك يأجوج ومأجوج:

ثمَّ إنَّ هؤلاء يهيمنون على كلِّ بقاع الأرض -كما ورد في الروايات-، فإذا هيمنوا على كلِّ بقاع الأرض، وهيمنوا على السماء بعث الله لهم الجراد دواب صغيرة، وهذه التي سميناها في جلسة سابقة بالأوبئة، فيموت كثير منهم، حتى يتكوَّم بعضهم فوق بعض(12).

 

ويمكن أن تكون هذه الروايات، مفسِّرة للروايات التي أفادت بأنَّ ثلثاً يموت بالموت الأبيض وهو الطاعون، وثلثاً بالسيف نتيجة الحروب الطاحنة التي سوف تحصل وحينئذٍ يستبشر المسلمون بسقوط هذه الحضارة -على الفهم الآخر-، وبموتهم بواسطة الأوبئة، والطاعون، وهذه الدواب الصغيرة التي تخرج وتُنتج الموت الجماعيّ الذي يحصل ليأجوج ومأجوج.

 

"حتى لا تسمع لهم حساً"، كناية عن أنهم يفقدون كل قدرة كان يستطيلون بها على كل شيء، فبعد أن هيمنوا على كلِّ الأرض، وهيمنوا على السماء، ولم يكن لأحدٍ أن يقاومهم، حتى ورد أنه ينكفئ المسلمون(13) في محالِّهم لا يستطيعون مقاومتهم، ويُؤخذ كلُّ ما عندهم من خيرات، أو أكثر ما عندهم من خيرات، من قِبَل يأجوج ومأجوج، فلا يحرِّكون ساكناً.

 

بعد ذلك العلو والاستكبار، وإذا بهم يسقطون، وتمتلأ الدنيا بجثثهم -كما أفادت الرواية-، وفي هذا السياق وردت روايات مفادها أنه تأتي الطيور والوحوش فتأخذ جثثهم(14)، ثم يُنزل الله مطراً لن يُرى مثله يستمر هطوله أربعين(15) يوماً فيطِّهر الأرض من جثثهم ونتنهم(16). ويمكن أن نجمع بين هذه الرواية، وبين الروايات التي أفادت أنه تمطر السماء قبل ظهور القائم أربعين يوماً العشر الأواخر من جمادى الثاني وطيلة رجب(17)، أربعين يوماً حتى تُخرج لهم الأرض أفلاذ أكبادها فيكون هذا المطر بمقتضى الجمع مطهراً للأرض من مخلَّفات الأوبئة كما يكون سبباً لظهور الخير العميم الذي تكتنزه الأرض.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الخرائج والجرائح ج3 ص 1142.

2- مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 386.

3- "وإن من فتنته ان يسلط على نفسٍ واحدة فيقتلها وينشرها بالمنشار حتى يلقى شقين ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإني ابعثه الآن .." سنن ابن ماجه ج2/ 1360.

4- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 527/ سنن ابن ماجه ج2/ 1361.

5- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 527.

6- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 336، الخرائج والجرائح اشتملت على أنه يقتله بالشام ج3/ 1136.

7- سورة الأنبياء/ 96.

8- مسند الشاميين للطبراني ج3/ 388.

9- مسند الشاميين ج3/ 388، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج1/ 226.

10- سنن ابن ماجه ج2/ 1364.

11- "فيسيرون إلى خراب الدنيا .. فيمرون بأنهار الدنيا فيشربون الفرات وجلة وبحيرة طبرية .." الدر المنثور للسيوطي ج4/ 377، سنن ابن ماجه ج2/ 1364.

12- سنن ابن ماجه ج2/ 1364.

13- سنن ابن ماجه ج2/ 1364.

14- مسند أحمد بن حنبل ج4/ 182.

15- مسند أحمد بن حنبل ج4/ 182.

16- الدر المنثور للسيوطي ج4/ 336.

17- الارشاد للشيخ المفيد ج2/ 381.