منطلقات الإساءة للقرآن الكريم

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

حيلة العاجز

تستعرض هذه الآية المباركة واحدة من الوسائل، والأساليب التي اعتمدها المشركون في صدر الإسلام؛ للتشويه، وللتشويش على القرآن الكريم، وعلى مضامينه، وعلى المبادئ التي أصَّل لها، والقيم التي دعى من أجل التمثُّل بها. حيث أدركوا أنهم عاجزون عن مقارعة حجج القرآن بالحجة، فهم غير قادرين على أن يبرهنوا على خطأ ما اشتمل عليه القرآن من مضامين، ومن أصول إعتقادية، ومن تشريعات، لذلك عمدوا إلى مجموعة من الوسائل؛ من أجل أن يحولوا دون تأثُّر الناس بالقرآن الكريم، وهذه وسيلة من الوسائل التي اعتمدوها، وهي منع الناس عن أن يستمعوا للقرآن، وذلك بواسطة إحداث اللَّغط والفوضى حينما يُتلى القرآن.

 

كان الرسول الكريم (ص) في صدر الدعوة يجأر بآيات الله تعالى في المسجد الحرام، وفي المحافل، والمنتديات التي يحضرها الناس في الموسم، وفي غير الموسم، وكان أصحابه يفعلون ذلك أيضًا. وقد ترك ذلك أثراً بالغاً في نفوس الناس، ولذلك دخل الكثير من الناس في الدين الذي دعى إليه الرسول الكريم (ص). وحين أعيت الحيلةُ أعداء الدين، ولم يجدوا طريقاً لمعارضة القرآن، ومقارعة حججه وبراهينه، توسَّلوا بهذه الوسيلة المعبِّرة عن العجز، فقيَّضوا جماعاتٍ جماعات؛ ليصدروا الضجيج والفوضى، فيصفقون ويصفرون، وينشدون الشعر، ويتضاحكون، حينما يُتلى القرآن؛ حتى لا يستمع إليه الناس والوافدون من البلاد الأخرى لحج بيت الله الحرام.

 

ما هو منشأ اعتماد هذه الوسيلة؟

أفاد القرآن بأنَّ غايتهم من ذلك هو الغلبة، ﴿لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾، فأنتم لم تتمكنوا من أن تغلبوا القرآن بواسطة المقارعة لحجته بالحجة، ولن تتمكنوا من أن تمنعوا الرسول (ص) من أن يجأر بدعوته، ومن أن يترك الأثر الكبيرفي نفوس الناس، لذلك فإنَّ مثل هذه الوسيلة قد تمكنكم من غلبة الرسول (ص) ودعوته وقرآنه .. لا تسمعوا لهذا القرآن، وادعوا الناس إلى أن لا يستمعوا لهذا القرآن؛ حتى لا يتعرَّفوا على مضامينه، وعلى ما يشتمل عليه من معانٍ سامية، وإذا ما تلى النبي (ص) وأصحابه القرآن فأثيروا اللغط والفوضى بالتصفيق، والصفير، وإنشاد الشعر، والتضاحك؛ حتى لا يستمع الناس إلى القرآن.

 

تجدُّد الحيلة، وتطوُّر الوسيلة:

تلك وسيلة كانت بدائية اعتمدها المشركون في صدر الدعوة، لكنها هي الوسيلة التي يتوسَّل بها كلُّ عاجز -وإن تقدم به العلم-.

 

تختلف مظاهر هذه الوسيلة، ولكنها تتَّحد من حيث المحتوى ومن حيث التعبير عن العجز، فالإساءة التي تصدر من قساوسة المسيح، ورجالات الغرب، ورجال الدين من اليهود والنصارى، لا تعدوا هذه الوسيلة، ولكنها تتمظهر في مظاهر مختلفة.

 

تشويش البابا

يخرج الباب بولس الثالث قبل وفاته في جمعٍ غفير من الناس ممن يؤمنون به ويقدِّسونه؛ ليثير هذا التشويش، وهذا اللغط، ولكن بأسلوب آخر غير الذي كان قد اعتمده المشركون في صدر الدعوة، فيدَّعي أنَّ النبي محمداً (ص) لم يأت بشيء، وأنه ما جاء إلَّا بما يُنتج العنف والإرهاب. هكذا قال!.

 

تصفيق الإعلام

ويتصدَّى آخرون ممن يدعون لأنفسهم الثقافة والعلم والموضوعية والإنصاف، من مؤسسات إعلامية واسعة في الانتشار؛ تدعي لنفسها المصداقية، لتدعوا المتنافسين من الرسامين؛ ليرسموا صورةً تعبِّر- بحسب زعمهم-عن واقع النبي الكريم (ص)، فتخرج تلك الصور المسيئة لمقام النبي الكريم (ص)! وآخرها ما فعله ذلك الأحمق الذي يرى نفسه أنه من رجال الدين من النصارى، حيث أعلن عن عزمه إحراق القرآن الكريم، أو نسخة من المصحف الشريف!

 

الأغراض الكامنة وراء إساءة الغربيين للقرآن الكريم:

كل هذه الوسائل، وكل هذه الأساليب، اختلفت في المظهر، واتَّحدت في الغاية، كما اتَّحدت في التعبير عن العجز عن مقارعة القرآن.

 

وهم إنما يفعلون ذلك لهذا الغرض -كما ذكرنا-، فهم إنما يفعلون ذلك ليحولوا بين القرآن، وبين أن يتأثر أتباعهم به على خلفية أنه إذا كان ثمَّة كتاب قد تمَّ التشويش على مضامينه، والتشويه لها، ووسمها بأسوأ السمات والصفات، فحينئذٍ سيكون الناس أمام هذا الكتاب على فريقين:

 

الفريق الأول: سوف يُحجِم عن مطالعته وقراءته، ويقول لا حاجة لي في أن أضيع وقتي في قراءة كتاب يحمل مثل هذه الصفات: يدعو للإرهاب، ويدعو للعنف، ويصادر الحريات، ويشتم ويسب، وهو ذات الوقت فارغ لا مضمون له، ولا يؤمن به إلا الحمقى من الناس، ولا يتبعه إلا الساقطون، وأصحاب العقول المتبلِّدة والمتخلِّفون الذين يؤمنون بما يؤمن به أبناء القرون الوسطى .. كل هذه الصفات والنعوتينشأ عنها الإحجام عن مطالعة هذا الكتاب. وحينئذٍ سيكونون قد نجحوا -كما يتوهمون- في تحقيق الغاية من هذه الوسيلة.

 

وأما الفريق الآخر: فقد يقرأ القرآن -حتى مع كل هذا التشويش-، ولكن سيقرأه على خلفية أنه قرآن يحمل هذه الصفات، وبذلك يضعف تأثيره.

 

تصوَّروا لو أن إنسانا سيأتي ليلقي عليكم محاضرة، فيأتي شخصٌ قبله يمتلك قدرة على التضليل، ويقدِّم مقدَّمة قبل مجيء ذلك المحاضر، فيقول لكم بأن هذا الذي سيلقي عليكم المحاضرة هو إنسان متكبر، خاوي العقل، لا يحمل فكراً، ولا ثقافة، ولا فهماً، ولا علماً، ولا منطقاً، ويؤمن بأفكارٍ بالية ضعيفة، وهو سفيهٌ في تفكيره، وما إلى ذلك من هذه النعوت .. طبعاً، ذلك المحاضر حينما يأتي ويقف على المنصة، أو يجلس على المنبر، فأيّ تأثير يكون له؟ فمهما كان طرحه راقياً، فإن التأثير الذي سيُحدثه سوف يكون ضعيفاً. هم من هذا المنطلق يتحركون.

 

التضليل الإعلامي وتأثيره في المجتمع الغربي:

المجتمع الغربي مجتمع مُضلَّل، وقد ثبت بعد المتابعات المستقصية من قبل المراقبين والمهتمين أنَّ الإعلام الغربي يعمد -وبكل صلافة- إلى تضليل الرأي العام الغربي على تمام المستويات، بما في ذلك المستوى السياسي، والمستوى الثقافي، والعقائدي .. لا مصداقية للإعلام الغربي، ولا مصداقية لكثير من رجالاتهم الدينية، والسياسية، والثقافية، إذا ما اتصل الأمر بشيء ينافي المبادئ التي يعتمدونها .. وقضية فلسطين شاهد صريح وواضح، فكما ينقل المتابعون فإن المجتمع الغربي يخفى عليه الكثير من الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، والشعوب العربية. بل أنه وبمجرّد أن تقوم قناة، أو صحيفة، أو مثقف بالكشف عن بعض ما يُمارسه الإسرائيليون في حق الفلسطينين، فإن هذه القناة، أو تلك الصحيفة، أو ذلك الرجل، يوصم بسمةٍ يخاف منها كلُّ أحد في أوربا أو في الغرب، وهي أن هذا يدعوا لمعاداة السامية، فلذلك يعاقب ويُجرّم!

 

هكذا يصوِّرون الإسلام والمسلمين!

هذا مظهر من مظاهر التضليل الإعلامي في الغرب، وهذه الحالة يمكن سحبها -وبشكل أوضح وأجلى-على ما يتصل بالقضايا الدينية والثقافية. فهم عندما يعرضون الإسلام يعرضونه على أساس أن أتباعه مجموعة من البدو الذين لا همّ لهم سوى رعي الجمال والأغنام، ويُصوِّرون بيوتات المسلمين بأنها مليئة بالذباب والقاذورات، ويعرضون رجالاتهم بين اثنين: بين رجلٍ أبله أحمق، وسيماه سيماء الحمقى، وسلوكه سلوك السفهاء من الناس .. أو أنهم من رجالات العنف، والإرهاب، والقسوة، أو من رجالات الجنس. هكذا يعرضون الإسلام،و رجالات الإسلام، وهكذا يصورون بيئة المسلمين، وظروفهم الاجتماعية! هذا تضليل واضح للرأي العام الغربي، فهذه الوسائل أذن تقع في نفس السياق الذي أشارت اليه الآية المباركة.

 

وهكذا يبرِّرون إساءتهم لمقدسات المسلمين!

لماذا يُحرق القرآن؟ القرآن كتاب، والقرآن يُقرأ ولا يُحرق .. وقد تتفق مع ما اشتمل عليه من أفكار، أو تختلف .. فليس هذا من الأمور التي تحرق. هذا التساؤل قد يتسائل به المجتمع الغربي، وأنه لماذا يُحرق القرآن؟ عندئذٍ يأتي الجواب جاهزاً من آلة الإعلام الغربي، وهو أن هذا القرآن هو السبب الذي نشأ عنه الإرهاب الذي عانت منه أمريكا في (11 سبتمبر)، وعانت منه بريطانيا، وعانت منه إيطاليا، وعانى منه المجتمع الغربي .. وأن هذا الكتاب هو الذي فرَّخ طالبان والقاعدة، وهو الذي نشأت عنه معاداة السَّاميَّة، وهو الذي نشأ عنه قتل الأبرياء من الشعب الإسرائيلي، وهو الذي نشأت عنه الأفكار التي ترتَّب عليها ذبح النصارى في القرون الوسطى؛ فالأفكار التي اشتمل عليها هذا القرآن صادرت الكثير من الحقوق، ولا زالت تُصادر الحقوق في المجتمع العربي، والمجتمع الإسلامي؛ لأنهم يؤمنون بهذا الكتاب. فنحن نحرق القرآن لنرمز إلى أمر، وهو أنَّ هذا القرآن يجب أن لا يكون له وجود في فكر الناس، وفي ثقافتهم، ويجب أن يُنبذ. إذن، هم يريدون أن يفعلوا ذلك، وأن يوحوا إلى هذا الأمر، وهذا هو أحد المناشئ وراء الإساءة للقرآن، والسعي إلى إحراقه.

 

وبنفس هذا الأسلوب ولذات الغاية المذكورة تجد الكثير منهم يُسيء إلى مقام النبي الكريم (ص)، فتراهم يصفون النبي الكريم (ص) بأنه شخصية صَنَعت الإرهاب، وصَنَعت التخلُّف! وعندئذ فإن هذه الشخصية لا ينبغي أن نقرأ عنها، ولا اننعبأ بما كانت تقول، وبما كانت تفعل، وماهي السيرة التي كانت تنتهجها، وماهو السلوك الذي كانت عليه. وهكذا ينعدم تأثير هذه الشخصية التي لم يسبق لها نظير ومثيل في القدرة على التأثير والإجتذاب -هذه الشخصية التي كانت موجودة منذ أكثر من أربعة عشرقرنٍ من الزمن، إلا أنَّها لا زالت تحظى بجاذبية منقطعة النظير ولا زال تأثيرها الهائل يستهوي الملايين من الناس-. فغرضهم إذن، هو حجب هذه الشخصية، والتقليل من تأثيرها، بمثل هذه الأساليب.

 

خلاصة

إذن الهدف الأساسي من حرق القرآن الكريم أو تمزيقه هو التشويش على مضامين القرآن، والتشويش على القيم والمبادئ التي أصَّل لها القرآن، كما أنَّ غرضهم هو التغطية على الضعف والعجز الذي مُنيت به كلُّ الديانات، وكلُّ الثقافات، وكلُّ الحضارات، فحتَّى أُعمِّي على العجز، لابدَّ أن أُظهِر، أو أُوهم الآخرين بعجز المنافس. هذا هو الغرض الأساسيّ من تحركهم المستميت عبر أسلوب الإساءات المتلاحقة للإسلام، ورموزه، ومقدساته. طبعا ثمَّة منطلقات عديدة، ولكن هذا هو المنطلق الأساس.

 

طبعا هم يدركون -كما قلنا- أنهم لو وقفوا على المضامين التي اشتمل عليها القرآن؛ من أجل مناقشتها، والسعي إلى تفنيدها، فإن الفشل هو ما سيئول إليه مسعاهم، بل إنَّ الأثر الذي سينتج عن هذا النحو من السعي لن يكون في صالحهم، ولذلك فإنهم يلجئون إلى وصف القرآن الكريم بنعوت يتقزَّز منها كل الناس، ولا يرتضيها أحد. وهذه النعوت هي مثل دعوى أنه يشرِّع الإرهاب ويحرِّض عليه.

 

المنطلق الثاني: إبتزاز المسلمين

ثمَّة منطلقات أخرى نشأت عنها الإساءات المتلاحقة للقرآن نشير إليها إشارةً سريعة: منها العمل على ابتزاز المسلمين؛ لكي يتنازلوا عن شيء من حقوقهم، ولكي يتنازلوا عن شيء من مبادئهم، والمفاهيم التي يعتقدون بها. فالمسلمون حتى يتبرؤوا من مثل نعتهم بالإرهاب وحتى لا يوصفوا بالإرهابيين، وبرجال العنف، لابدَّ أن يتنازلوا عن مجموعة من الحقوق:

 

نماذج من صور الإبتزاز:

مثلاً: عندما أقاوم المستعمر، أوصم بالإرهابي .. إذن، لابد أن أتخلى عن المقاومة؛ حتى لا أُوصم بهذه الوصمة التي لا يقبلها أحد لنفسه.

 

مثلاً: عندما أُطالب بحقوقي، فإنَّ هذه المطالبة ينشأ عنها إدراج المطالبين بالحقوق في قائمة الإرهابيين، ويوصف المسلم والمؤمن وقرآنه ورسوله بالإرهابيّ .. وحتى لا يقع ذلك، إذن، نتخلى عن المطالبة بالحقوق.

 

مثلاً: هناك مجموعة من المفاهيم التي اشتمل عليها القرآن الكريم، وهذه المفاهيم تفرِّخ الإرهاب -بحسب دعواهم- .. إذن، هذه المفاهيم علينا أن نصرفها عن كلِّ ما يوجب الإشعار -ولو ضعيفاً- بالإيمان بالإرهاب. فيكون التحليل، والتفسير لآيات القرآن، ولنصوص الدين، قائم على أساس التحرُّز الشديد؛ خشية أن نُوصف بالإرهاب. إذن، فعلينا أن لا ننطلق من منطلق واعٍ وموضوعيّ، قائمٍ على أساس المنطق والتعقل والبرهان، وإنما على أساس ملاحظة ما يشتهون! يعني هم يريدون إحداث مراقبة ذاتية عند الناس، وعند العلماء، في تفسيراتهم. للنصوص الدينية بل قد ينشأ عن ذلك التحفُّظ عن الجأر بالآيات التي يقولون أنها تُفرِّخ الإرهاب، وهذا ما حصل لبعض الناس، حيث بادروا لحذف كثير من الآيات -كآيات الجهاد-، وإزالتها من المناهج الدراسية!

 

هذا هو الابتزاز: أن أتنازل عن قرآني، وعن تاريخي، وعن مبادئي، وأمارس دور المراقب المتشدِّد على الأفكار -وإن كانت لها منطلقات عقلائية منطقية-، هذا هو الابتزاز الذي يرمي الغرب إليه -من خلال هذه الإساءات- لإيقاع المسلمين فيه.

 

المنطلق الثالث: كسر هيبة الإسلام

هناك منشأ آخر أيضا -ولعله يقع في سياق المنشأ الأول-، وهو كسر هيبة الإسلام.

 

تصوروا أنتم: انرجلاً محترماً كبيراً مهيباً عاقلاً، ثم يأتي الأطفال فيقذفونه بالحجارة، ويشتمونه، ويصفقون خلفه، ويرمون عليه القاذورات .. هذا الرجل سيضعف تأثيره في نفوس الناس؛ فالناس يهتمون بالمظاهر،و تترك المظاهر أثراً بالغاً على الناس بمقتضى طبعهم . فإذا توالت على هذا الرجلالإهانات، والإساءات، فإنه يسقط في المجتمع، حتى لو لم يكن ثمَّة مبرِّر عقلائي صحيح لسقوطه، ولكن لأنَّ الأطفال والمجانين والصبية والحمقى يسخرون منه، ويقذفونه بالقاذورات، والحجارة، فإن ذلك الرجل يقلُّ تأثيره ويضعف .. بل إنَّ الناس العقلاء، والوجهاء والمحترمين، يحاولون أن يتجنَّبونه؛ حتى لا يُصيبهم ما أصابه. وهذا ما كان يفعله المشركون مع النبي (ص) .. فذلك الرجل الوجيه المحترم يقول: أنا أذهب لواحد من الناس، تجري وراءه الصبية، وتقذفه بالحجارة، وترمي عليه القاذورات، وبقايا الذبائح؟ الاحجىأن أتركه، ولا أقرب منه. وهكذا يتركه الناس، وتحدث لهذه الشخصية عزلة في المجتمع. هكذا كان يفعل المشركون.

 

كذلك، عندما تتوالى وتتلاحق الإساءات تلوَ الإساءات على دينٍ من الأديان، فيخرج المثقفون يتفكَّهون بنصوصه، ويسخرون منها، ويأتي آخرون ويحرقونه، وآخرون يصنعون رسوماً وصوراً تُوجب السخرية والتفكُّه به في المجالس .. هذا طبعا في النهاية سينتج عنه انكسار الهيبة التي لهذا الدين، والقداسة التي لهذا الرمز، أو ذلك المقدّس .. وعندئذ يتجنَّب المثقفون، والباحثون عن الحقيقة -مثلا-، والعقلاء، وعموم الناس، عن مثل هذا الدين، أو هذا المقدس .. فلا يعتبره الباحثون وعموم الناس واحداً من الأديان التي ينبغي الدراسة والبحث عن حقَّانيتها، أو عدم حقانيتها. هذا ما يرمي إليه الغرب من خلال الإساءات المتلاحقة.

 

تصوَّروا أنَّ: أكثر من مائة صورة تُسيء الى مقام النبي (ص)، وتُظهره في مظهرٍ مشينن .. فهل بعد ذلك يُنتظر من المجتمع الدنيماركي بأن يدرس هذه الشخصية دراسة موضوعية، ومنصفة؟ طبعا لا.

 

وكذلك حينما يُساء للقرآن الكريم، فيُلقى في المراحيض، ويُحرق، ويُمزَّق، ويبصق عليه .. فإن ذلك سيوحى في أذهان البسطاء في المجتمع الغربي أنَّ هذا كتاب مهين فلا يستحق الوقت الذي يضيع عند قراءته وبذلك يكونون قد نجحوا في صرف الناس عن القرآن الكريم. وهكذا فعل الذين من قبلهم، حيث كانوا تارةً يدعون إلى نبذ القرآن بشكل صريح ومباشر ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ﴾، وتارة يُمارسون أسلوب التعمية ليحولوا دون الإستماع لمضامين القرآن ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ أي أحدثوا التشويش عليه؛ ﴿لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾.

 

تبرير الغرب، والعذر القبيح!

في نهاية الحديث -أيها الأخوة الأعزاء- نودُّ الإشارة إلى ما يتذرع به ساسة الغرب دائما عندما تصدر مثل هذه الإساءات على الإسلام، حيث يقولون: نحن لا نستطيع أن نقف في وجه مثل هذه الممارسات؛ لأن ذلك مناف لمبدأ من المبادئ التي قامت عليها ديمقراطيات هذه المجتمعات، وهو حرية التعبير عن الرأي!

 

حرية التعبير لا تُبَرِّر الإساءة للآخرين

وهذا عجيب! إنه لا يحترم نفسه من يتذرع بمثل هذه السنفونية، .. من قال أن حرية التعبير تُصحِّح الإساءة للآخرين؟! هل يقبل أحدٌ من الناس في المجتمع الغربي بهذا العذر فيما لو شتمه أحد في الطريق، وسبَّه، وبصق في وجهه، أو رمى عليه بعض القاذورات، أو رماها بجانبه؛ ليرمز بذلك إلى الاستهانة به، .. هل من أحدٍ يقبل من مثل هذا الفاعل هذا العذر الذي اعتذروا به؟!

 

تأريخ الحريات في الغرب

حرية التعبير عن الرأي مُسلَّمة، وأول من أصَّل لها هو الإسلام، وذلك في عصرٍ كانت فيه أوربا لا تعرف لهذه الكلمة أيّ معنى، فقد كانت الحضارة البيزنطية تستعبد الناس، وكان الإمبراطور الروماني هو الإله بعد الإله، وأما الجنود والجيوش التي كانت تحت إمرته فلم يكن لها حول ولا طول، يفعلون ما يأمر دون تفكير، وكان النساء بمثابة الحيوانات، لا حقّ لهنَّ حتى في التكسُّب، فضلاً عن التمتع بسائر حقوق الإنسان فكما أنَّ العبيد والحيوانات لا يملكون، فالنساء أيضا لا حق لهن فيالتملُّك والتكسب، بل يُصرف عليهن، ويُعلف عليهن كما يُعلف على الحيوان، وليس لأحد حقٌّ في أن يتحدث أو يتكلم بما ينافي ارادة الامبراطور!

 

أما المسلمون، فقد كان ﴿أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾(2)، ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾(3)، ونطق رمز الإسلام الأكبر -علي ابن أبي طالب (ع)- ليقول: "لا تكن عبد غيرك، وقد خلقك الله حراًّ"(4)، فكل إنسان مخلوق على وجه الأرض يُخلق حُراًّ. الإسلام هو من أصَّل للحرّية، ثم تأتون لتُزايدوا علينا، وتدعون التأصيل لمثل هذه المفاهيم؟!

 

بين الحرية المنضبطة والحرية المنفلتة:

لا إشكال في أنَّ الحرية هي أصلٌ من الأصول العقلائية، بل والدينية، ولكن على أن لا تكون هذه الحرّية منتجة لأحد شيئين:

 

الأول: أن لا تكون هذه الحرية منتجة للفوضى، والثاني: أن لا تكون منتجة للظلم.

 

أمَّا أن تكون حرية التعبير عن الرأي مطلقة، وغير منضبطة بهذين الأمرين، فماذا سيحصل؟ سيأتي شخص ويشتم الآخر، ويقذفه، ويرميه بالعظائم .. ونحن سنقول: إنها حرّيتك -حرية التعبير عن الرأي-، فقل ما تشاء، وانشر في الصحف، وشهِّر بمن شئت في النشريات والفضائيات .. فلوقام هذا الشخص وشهَّر بصاحبه، ورماه بالعظائم، ثم نحن اعتذرنا لهبأن له الحق في كل ما فعل -تحت شعار حرية التعبير عن الرأي-! ثم إنَّ هذا الآخر -الذي اعتُدي عليه لو قلنا له: لك الحق أيضا. فإما أن يكون قوياً أو ضعيفاً .. فإن كان قويا فسيفعل مثل ما فعل هذا، فيقابل التشهير بالتشهير، والشتيمة بالشتيمة، والسبّ بالسبّ .. تصوَّروا حياةً من هذا النوع، ألا تذيع فيها الفوضى، كلٌّ يشتم الآخر، ويُشهِّر به، ويسبَّه وكلٌّ يملك الحق في ذلك! وإما أن يكون هذا الذي اعتُدي عليه ضعيفاً، فيكون مظلوما.

 

فالنتيجة: إما أن ينشأ عن حرية التعبير المطلقة الظلم، أو الفوضى. ومن يقبل بشعار ينشأ عنه، وينتج عنه، الفوضى أو الظلم للضعفاء؟! لا أحد يقبل بذلك.

 

ضابطة حرية التعبير:

فحرية التعبير عن الرأي كمبدأ، هي مورد قبول لجميع العقلاء، وكذا الديانات السماوية الحقَّة التي لم تُحرَّف، ولكن بضوابط، فهي ليست بلا حدود، بل ينتهي حقك في التعبير عن رأيك عندما يصطدم هذا الحق بحقوق أخرى لآخرين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة فصلت / 26.

2- سورة الشورى / 38.

3- سورة آل عمران / 159.

4- النص: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا". ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج1 / ص582.