السيد المَسيح في الكتاب المُقدَّس

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

المسيح (ع) بين القرآن والإنجيل:

استكمالاً للحديث السابق نستعرض في هذه الجلسة بعض ما نُسب إلى السيد المسيح -عليه أفضل الصلاة والسلام-، في الكتاب المُقدَّس في العهد الجديد. وقبل ذلك نودُّ أن نشير إلى قصَّة السيد المسيح، وقصَّة ولادته في القرآن الكريم؛ ليتضح من خلال ما سنستعرضه ونُشير إليه- كيف أنَّ القرآن والإسلام نزّه السيد المسيح (ع) عن كلِّ ما نُسب إليه من طُعون، وكيف أنَّه بيَّن مقامه السامي والرفيع عند الله تعالى، فلا هو أعطاه مرتبة الربوبيَّة -كما ادّعى ذلك المسيحيون أو بعضهم-، ولا هو نسب إليه النقائص والطعون التي لا يصحُّ صدورها من مؤمنٍ، فضلاً عن نبيٍّ مُكرَّمٍ -كما ورد ذلك في العهد الجديد-.

 

أولاً: المسيح (ع) في القرآن الكريم:

أُمُّه الطاهرة:

القرآن الكريم بيَّن قصَّة المسيح (ع) من حين نذرت امرأة عمران أن تجعل ما في بطنها محرَّراً لله -عز وجل-، فأنجبت من ذلك الحمل أنثى فكانت مريم الطاهرة القِدِّيسة، إذ قالت امرأة عمران: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ / فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ / فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾(1).

 

هذه المولودة التي نذرت أمُّها أن تكون مُحرَّرةً لله -عز وجل-، وخالصةً له، تخدم في بيته .. هذه البنت قد تقبَّلها الله -عز وجل- بقبولٍ حسن، ونشّأها تنشئةً حسنة .. وأفاد القرآن الكريم أنَّ امرأة عمران سلَّمت ابنتها مريم للكهنة؛ ليقوم واحدٌ بتربيتها، فوقع اختلاف بين الكهنة كلٌ منهم يريد أن يحظى بشرف تنشئة هذه البنت(2)، وتربيتها، ورعايتها؟ وحين وقع الاختلاف بينهم أقرعوا، فكانت القرعة لزكريا (ع)، لذلك كان هو الراعي، وهو المنشِّيء، وهو المربِّي لهذه الوليدة .. زكريا (ع) تولَّى عنايتها، وضرب لها موقعاً في أحد بيوت الله -عز وجل-، وضرب بينها وبين الناس والكهنة حجاباً(3)، وكان لا يدخل عليها إلَّا هو .. قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(4).

 

هذه البنت بعد أن كبرت ونشأت في كنف ورعاية نبيٍّ من أنبياء الله، أخذت تُحدِّثها الملائكة، وهي التي كانت كلَّما دخل عليها زكريا وجد عندها رزقاً تجيء به إليها الملائكة، ثم إنَّ الملائكة نزلت على السيدة مريم، فقالوا لها: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ/ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(5).

 

الجنين المعجزة:

بعد ذلك حملت مريم دون زواج، ونزل عليها الملَك ليُبشِّرها بأنها إنّما حملت بإرادةٍ من الله، ومَن في بطنها هو نبيٌّ من أنبياء الله -عز وجل- .. ولما أن حملت خرجت واتَّخذت مكاناً قصيّا -بعيداً-، فأجائها المخاض وهي عند النخلة، فقالت: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا / فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾(6)، -كرامات ومنح إلهية أعطيت لهذه السيدة-، ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا / فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾(7).

 

المولود المبارك:

ثم إنَّ القرآن يتابع قصة هذه السيدة ومولودها .. يقول إنّها أخذته إلى قومها، فلمَّا رأوها ورأوا بيدها ذلك الرضيع الصغير استوحشوا، واستنكروا، ونسبوا إليها الفاحشة -العياذ بالله-، وأساءوا إليها، ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ﴾(8)، -مباشرة اتهموها دون سؤال- ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا / يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾(9)، هي لم تدافع عن نفسها -كما يشير القرآن الكريم-؛ وذلك لأنها كانت قد نذرت للرحمن صوما، فأشارت إلى مولودها أن كلِّموه! وهذا ما زاد من استيحاشهم واستغرابهم، ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾(10)، فكانت الطامَّة عليهم حيثُ فوجئوا بأنْ نطق ذلك الرَّضيع الصغير قال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا / وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا / وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾(11)، خطابٌ طويل واسترسالٌ في الكلام، فلم يكن ما نطق به كلمةً واحدة ثم سكت حتى يتهموا أسماعهم بل إنَّ هذا المولود أخذ يسترسل في كلامه ويعدِّد لهم ما منحه الله عزوجل إياه من كراماتٍ ومقامٍ سامٍ-، ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا / وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا / وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا / وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(12)، هكذا وصف لنا القرآن الكريم قصة مريم ومولودها المبارك.

 

إشارة!

هنا نود أن نشير-استطراداً- إلى أمرٍ هو أنَّ القرآن أفاد من خلال هذه الآيات أنَّ هذا الرضيع أُلهم علم الكتاب، وأُعطي منصب النبوة، وعمره لم يتجاوز اليوم أو اليومين أو الثلاثة! ثم نستوحش، و نستنكر أن تُعطى الإمامة للإمام الجواد (ع) -مثلاً-، فإذا أمكن أن تُعطى النبوة وعلم الكتاب لمولودٍ رضيع فلماذا الاستيحاش من إعطاء الامامة لولدٍ صغير؟!

 

دعوة النبي عيسى (ع):

نشأ السيد المسيح (ع) نشأةً مباركة، وكان مع أُمِّه، فكانا يأكلان الطعام كما يأكل الناس، ويشربان كما يشرب الناس، فلم يكن لهما ما يُميِّزهما عن سائر البشر .. قال تعالى: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(13)

 

ثم أخذ يدعو الناس، ويُعرِّفهم معنى التوحيد، وكان يعلمهم قيم الدين ويرشدهم ويعظهم، وبقي على هذا الحال إلى أن دبَّروا لصلبه ولم يؤمن به حينذاك سوى اثني عشر من الحواريين، واثنين وسبعين من التلاميذ، وكانت مُدَّة عمره معهم خمسين سنة تقريباً، وقيل غير ذلك وفي طيلة هذه الفترة كان يدعو اليهود إلى التوحيد، وإلى الإيمان به، وإلى المعارف الإلهية، إلَّا أنهم لم يكونوا يستجيبون له، حتى يأس من قومه، فأراد له أنصاراً يبثُّون تعاليمه في أرض الله -عز وجل- .. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾(14) فلم يجبه أحد عدا الحواريين: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ﴾(15).

 

قضية المائدة:

القرآن نقل لنا أيضاً بعض الوقائع التي حدثت للسيد المسيح في أيام رسالته، ومن هذه الوقائع التي يشير إليها القرآن هي قضية المائدة: وهذه القضية وقعت مع الحواريين، مع الذين آمنوا به، ورغم إيمانهم إلَّا أنهم طلبوا منه مائدةً من السماء؛ تكون لهم عيداً لأولهم وآخرهم، وآية تُطمئنهم، ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(16)، أهكذا يُخاطَب الأنبياء وكيف سوَّغوا لانفسهم أن يقولوا: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾(17)؟! بعد هذا العناء الطويل، وبعد الجهد، والتبليغ، والدعوة، والمعجزات الكثيرة التي صدرت على يد السيد المسيح (ع)، حيث لم يصدر عن أحدٍ من الأنبياء الذين ذكرهم القرآن -غير نبينا الكريم- ما صدر على يد السيد المسيح، فهو كان قد تكلَّم في المهد، وهو الذي كان يُبريء الأكمه، والأبرص، ويحيي الموتى -بإذن الله-، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه ويكون طيراً -بإذن الله-، ويخبرهم بما يأكلون، وما يدّخرون في بيوتهم .. كلُّ هذه الآيات والمعجزات إلّّا أنَّ اليهود لم يؤمنوا به!! وأما الذين آمنوا به فيخاطبونه بعد كلِّ ما شاهدوه بهذه اللغة غير المؤدبة والمعبِّرة عن عدم الرسوخ في الإيمان ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ / قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾(18)، فقال عيسى ابن مريم: ﴿رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَاٍ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾(19). قال الله تعالى: ﴿قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾(20)

 

المسيح (ع) لم يُقتل ولم يُصلب، بل رُفِع إلى السماء:

أحبار اليهود، وبعد طول جهدٍ ومنابذة لهذا الرجل الكريم قرَّروا أن يقتلوه، وأن يصلبوه! فحين تمكَّنوا منه أخذوه بحسب اعتقادهم فصلبوه مقتولاً على خشبة الصليب وهكذا توهموا كما توهم كلُّ الناس -بما فيهم المسيحيون- أنَّ السيد المسيح (ع) قد قُتِل وصُلب، إلى أن جاء الإسلام فنفى هذه الشائعة، وقال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾(21)، هذه قصة السيد المسيح بإيجاز.

 

صفاتٌ قلّ نظيرها:

القرآن الكريم وصف السيد المسيح (ع)، ووصف أُمَّه بصفاتٍ قلَّ ما وصف بها أحداً من الأنبياء أو النساء، لذلك فإنّ الكثير من المسيحيين قد دخلوا الإسلام؛ لأنَّهم وجدوا في قرآنه إكراماً، وتنزيهاً للسيد المسيح أكثر ممَّا كانوا يجدونه في الإنجيل -كما سيتضح ذلك إن شاء الله-.

 

القرآن وصف السيدة مريم (ع) بالطهارة والاصطفاء: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾(22)، ووصفها بقوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾(23)، ووصفها بالاحصان وبأن الله تعالى جعلها من آياته المعبِّرة عن كمال قدرته فقال تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(24)، ووصف السيد المسيح بكلمته، وقال: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾(25)، ووصفه بالمبارَك وبأنه من الصالحين وأنه يعلم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل قال تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾(26)، وقال تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(27) وقال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ / وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(28).

 

بشارة المسيح (ع):

هناك أمر آخر ذكره القرآن عن السيد المسيح، وأشار إليه في موارد عديدة، وهو أنَّ السيد المسيح كان في دعوته إلى اليهود، وإلى من آمن به، قد جاء متمماً لدين موسى (ع)، وفي ذات الوقت جاء ليبشِّر برسولٍ يأتي من بعد اسمه أحمد (ص). ونحن تحدَّينا اليهود والمسيحيين بهذه البشارة، فالسيد المسيح بشّر بمجيء محمد (ص) في موارد عديدة في الإنجيل، ورغم ما أصاب الإنجيل من التغيير والتبديل، إلَّا أنه نستطيع أن نقف -كما سيتضح فيما بعد إن شاء الله- على موارد يُستفاد منها أنَّ السيد المسيح كان قد بشَّر بمجيء النبي الكريم (ص).

 

عيسى (ع) بشرٌ مخلوق وليس إله:

هذا هو السيد المسيح في القرآن الكريم: فهو نبيٌّ مبارك ومن الصالحين علَّمه الله جلَّ وعلا الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعله وأمه آية للعالمين وكان من أنبياء أولي العزم وهم سادة الأنبياء قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾(29)، أما المسيحيون فقد تجاوزوا بهذا الرجل الكريم حدود العبودية ورفعوه إلى مقام الربوبية وقد تصدى القرآن الكريم لنفي الربوبية عنه في آيةٍ عظيمة التأثير: ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾(30) -في حوار سوف يحصل بين السيد المسيح، وبين الله عز وجل، في يوم القيامة- ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ / مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(31)، فهو قد نفى عنه الربوبية على لسان السيد المسيح، وأكد في موضعٍ آخر أنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم، مخلوق. قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ / الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ﴾(32)

 

المسيح في العهد الجديد:

أولاً: أين الأناجيل من الدفاع عن نزاهة السيدة الطاهرة؟!

أما السيد المسيح في العهد الجديد -أعني الأناجيل الأربعة الرسميَّة القانونيَّة- فهي أولاً لم تذكر قصة ولادة السيد المسيح بالنحو الذي ذكره القرآن، وكيف تم تنزيه السيدة مريم، فالقرآن هو الذي نزّه السيدة مريم، حيث كانت اليهود تتهم السيدة مريم. فالقرآن هو مَن جاء ونزّه السيدة مريم (ع)، وأما الأناجيل فلم تُشر إلى كيفية ولادة السيدة بنحو ما أفاده القرآن، حتى أنَّ الكثير من المسيحيين يطربون بهذه العبائر التي وردت في سورة مريم: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا / فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا .. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا / قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾(33) ﴿فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾(34)، ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾(35)، إلى آخر الآيات التي فيها دفاعٌ عن نزاهة السيدة مريم -السيدة العذراء-، وأما الأناجيل فلم تشر لهذه الحادثة من قريب أو بعيد!! هذا أولاً.

 

ثانياً: متى أصبح عيسى (ع) نبيَّاً؟

يقولون إنَّ السيد المسيح أصبح نبياًّ حين بلغ عمره الثلاثين(36)، أما القرآن فأفاد أنَّ السيد المسيح (ع) كان نبياً منذ أن جاءت به أمه تحمله، فحين انكروا عليها أشارت إليه ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾؟!(37) قال عيسى (ع): ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(38) فالسيد المسيح بمقتضى مفاد هذه الآيات كان نبياًّ منذ أن كان رضيعاً، وهذا ما نصَّت عليه أيضاً الروايات الواردة عن أهل البيت (ع)(39).

 

ثالثاً: أوَّل معجزة هي صناعة الخمرة؟!

ورد في الكتاب المقدس أنَّ أول معجزةٍ ظهرت على يد السيد المسيح (ع) هو أنَّه صيَّر من الماء خمراً، ورد ذلك في إنجيل يوحنَّا في الاصحاح الثاني وأنَّه: في اليوم الثالث كان عرسٌ في قانا الجليل، وكانت أُمُّّ يسوع هناك -أم يسوع يعني السيدة مريم- حاضرة في العرس، وكان تلامذة المسيح أيضاً مدعوين في العرس، وعادتهم في العرس أنَّ المدعويين تُدار عليهم الخمرة -كما هو مذكور في انجيل يوحنا-، يقول فرغت الخمرة، والعرس لم ينتهِ، فالمدعوون مازالوا موجودين، والخمرة قد انتهت .. هنا قالت أم يسوع: أين يسوع؟ ثم أمرته أن يأتيهم بالخمرة. يسوع من أين يأتيهم بالخمر؟ قال للخدم: هذه أحواض موجودة، املؤوها ماء قراحاً -وكانت سبع أحواض-، فمُلِئت ماءاً، فقال: اسقوا منها الآن. فسقوا منها، فإذا هي خمرة جيِّدة! فالمعجزة هي أنَّ السيد المسيح أمر أن تُملأ الحياض ماءاً، ثمَّ حوَّلها خمراً مباشرة، ودون معالجة، وكانت -على حدِّ تعبير إنجيل يوحنّا- خمرة جيدة!!(40)

 

المسيحيون في مقام الرد على هذا الطعن الوارد في إنجيل يوحنا يقولون بأنها لم تكن خمرة مسكرة، يعني أنَّ أوَّل معجزة صدرت من السيد المسيح هي أنه حوَّل الماء إلى خمرٍ، وهذا كله صحيحٌ لا غبار عليه -عندهم-، إلَّا أنهم يقولون أنَّها لم تكن خمرة مسكرة!! في حين أنَّ الآية -في الإنجيل- التي سنقرؤها تؤكِّد أنها مسكرة، إذ يذكر يوحنّا أنّه أُديرت الكؤوس، وأوَّل كأس أعطي للوجيه الذي كان هناك، ويسمونه رئيس المُتَّكأ -رئيس المجلس- فأُعطي من هذه الخمرة، وكانت لديهم عادة في شرب الخمر في الأعراس وهي أنهم يُقدِّمون الخمرة الجيدة أولاً، حتى إذا شربوها قدّموا بعد ذلك الخمرة الرديئة؛ لأنهم بعد أن يسكروا لن يشعروا برداءة ما يشربونه بعد ذلك. وهنا يذكر إنجيل يوحنّا أنَّ رئيس المُتَّكأ قال: خالفتم مقتضى العادة، سقيتمونا خمرة رديئة، ثم الآن تسقونا خمرة جيدة؟!(41) هذا يريد أن يقول بأنَّ الخمرة التي حوَّلها السيد المسيح كانت مسكرة فكان حقها أن تقدَّم أولاً!

 

إذن كانت أوَّل معجزة للسيد المسيح هي أنه يصنع الخمر، ويشرب منها! وبأمرٍ من أمِّ يسوع أيضاً، فهي التي أمرت السيد المسيح أن يصنع للمدعوين للعرس خمراً!!

 

القرآن يُعبِّر عنه بالطاهر، والمبارك .. وأما في الإنجيل فهو صانع الخمر وشاربه -للأسف الشديد-!

 

رابعاً: السيد المسيح (ع) عاقٌّ بأمِّه؟!

تصوِّر الأناجيل السيدَ المسيح (ع) أنَّه عاقٌّ لأمِّه! وأما القرآن فأفاد أنَّ أوَّل ما نطق به السيد المسيح هو أنَّ من سجاياه البرُّ بوالدته قال: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾(42). فيظهر من ذلك أنَّ القرآن كان بصدد الرد على مفتريات ما نسبوه في الأناجيل للسيد المسيح (ع).

 

وممِّا يعبِّر عن نسبة العقوق للسيد المسيح (ع) في الأناجيل ما ورد:

في القصة التي ذكرناها لكم في قانا الجليل حيث ورد في إنجيل يوحنا أنَّ أوَّل عبارة قالها يسوع حين قالوا له إنّ أمك تدعوك، قال: "مالي ولك يا امرأة تعبير قاسٍ عن أم يسوع فهو ينعت أمه بالمرأة! ويزدريها حين يقول: "مالي ولكِ يا امرأة"!(43)

 

وفي موردٍ آخر في الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متّى، يذكر أنَّ السيد المسيح كان يُلقي وعظاً على تلامذته، وفي الأثناء جاءت أُمُّه وإخوته، -نحن ليس عندنا أنَّ يسوع كان له إخوة، على كلِّ حال هم يقولون ذلك- ولما جاءوا انتظروا خارج المجلس-، فأخبره أحدُ مَن كان في ذلك المجلس إنَّ: أُمَّك وأخوتك بالباب، يطلبونك، وهذا نصُّ العبارة: "قال له واحدٌ: هو ذا أمك وأخوتك واقفون خارجاً طالبين أن يكلموك، فأجاب وقال -لاحظوا العبارة التي تُعبِّر عن سوء الأدب-، قال: مَن هي أُمِّي؟! ومن هم أخوتي؟! ثم مدَّ يده نحو تلامذته، وقال: ها أمي، وأخوتي؛ لأنَّ من يصنع مشيئة أبي الربَّ الذي في السماوات، هو أخي وأختي وأمي."(44)، يعني هذه ليست أُمِّي! هذا التعبير أولاً قاسٍ جداً، والقرآن يقول: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾(45)، فلو افترضنا جدلاً أنَّ أمه لم تكن من المؤمنات، أليس هذا التعبير قاسياً وغير مؤدَّب؟

 

خامساً: السيدة مريم (ع) لم تكن مؤمنة؟!

ثم ما معنى قوله: "هذه ليست أُمِّي لأنَّ مَن يصنع مشيئه أبي الرب هو أخي وأختي وأمي" إنَّ معنى ذلك أنَّ السيدة مريم لم تكن تؤمن بالمسيح؛ لأنها لو كانت تؤمن بالمسيح لكانت ممَّن يَصنع مشيئة الرب. ثم لاحظوا تتمة الآية: مَن هي أمي؟ هؤلاء هم أمي وأخوتي(46)، أما هي فليست كذلك. إذاً، فهي لا تؤمن بالسيد المسيح! ولو كان المراد من نفي الأمومة عن السيد مريم هو أنَّها لم تكن من حضَّار مجالس وعظه ومن الدعاة إلى رسالته أو أنَّها لم تكن تملك من المراتب الروحية ما يملكها تلامذته لو كان ذلك هو المراد لكان التصريح به أمام التلاميذ فيه من الأساءة للأدب مالا يصح قبوله من سوقه الناس.

 

فالأناجيل تصوِّر السيد المسيح على أنَّه ولد غير بارٍّ بوالدته، وعاقٌّ، وقاسٍ. على أنَّها تُعبِّر عن شيء أخطر من ذلك، وهو أنَّ السيدة مريم (ع) لم تكن من المؤمنات أو لم تكن من الكاملات -والعياذ بالله- وهي التي وصفها القرآن الكريم بأنَّ الله اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين(47).

 

سادساً: السيد المسيح (ع) ملعون؟!

ثمة أمر آخر: نود الإشارة إليه وهو أنَّ: (بولس) هذا الرجل الذي يعود له -كما يذكرون- الفضل الأكبر في نشر التعاليم المسيحية، أو بقائها؛ فأكثر التعليمات قد أُخِذَت من هذا الرجل، وهذا الرجل كان يهودياً فأصبح مسيحياًّ -ولا نريد التعرُّض لترجمته-، هذا الرجل المسمَّى بالقديس يصف السيد المسيح بأنَّه ملعون! بدعوى أنَّ الربَّ قال له: إن كلَّ من يُعلَّق على خشبةٍ، ويُصلب، فهو ملعون. والسيد المسيح قد عُلُق -بحسب عقيدتهم على خشبةٍ وصُلب عليها-، فالسيد المسيح تحمَّل خطايا الإنسان، وفدى الإنسان بنفسه، فحلَّت عليه لعنة الربّ!(48)

 

سابعاً: ما قصَّة المرأة الخاظئة؟!

أمر آخر يذكرونه أيضاً، وهو أنَّ السيد المسيح كانت تُقبِّل أقدامه الخاطئات -المومسات-، وكان يستريح لتقبيلهنَّ أقدامه!

 

ورد ذلك في العهد الجديد -في إنجيل لوقا- أنَّ امرأةً من المدينة كانت خاطئة، وعلمت أنَّ السيد المسيح كان مُتَّكِئاً في بيت الفِرِّيسي، فجاءت بقارورة طيب، ووقفت عند قدميه من ورائه، باكية، وابتدأت تبُلُّ قدميه بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها)، منظر مُقزِّز يخدش الحياء رجلٌ مُقدَّس، وتأتي امرأة خاطئة تنشر شعرها على قدميه بعد أن بللتهما بالدموع! وقد ورد في تتمة هذه الآية أنها كانت "تمسحهما بشعر رأسها، وتُقبِّل قدميه"(49)، يعني لو أنها سحبت رجليه على غفلةٍ منه، وقبَّلتهما لأمكن القبول بذلك إلا أن الدعوى هو انها مسحت قدميه بشعر رأسها بعد أن بللتهما بالدموع ثم أخد تقبلهما وذلك ظاهر في تكرار التقبيل بل تجاوز الأمر ذلك كما في نفس المصدر أن هذه المرأة الخاطئة أخذت تدهن قدمي السيد المسيح بالطيب الثمين! فلما رأى الفِرِّيسيّ الذي دعاه ذلك، تكلَّم في نفسه قائلاً: لو كان هذا نبياً لعلم مَن هذه المرأة التي تلمسه وهي خاطئة. صاحب البيت أنكر على السيد المسيح ذلك .. امرأةٌ أجنبيَّة خاطئة تُقبِّل قدمي السيد المسيح، وتمسحهما بشعر رأسها، ثم تدهنه بالطيب الثمين، وهو ساكن إليها، تعبيراً عن ارتياحه لذلك! هذا تقليل للمقام السامي لهذا الرجل العظيم. وينقلون أنَّ هذه المرأة مسحت قدمي السيد المسيح بما قيمته ثلاثمائة دينار -قيمة العطر-! هم يقولون ذلك(50).

 

ثامناً: السيد المسيح (ع) جاء ليفرِّق بين الأرحام؟!

ومما ذكروه في العهد الجديد من أحوال: السيد المسيح أنَّه جاء ليُفرِّق بين الأرحام! لا ليدعو إلى صلة الرحم، بل يدعو لايقاع العداوات بين الأرحام!

 

لاحظوا -نحن لا نتجنَّى على أحد، هذه آية موجودة في إنجيل متَّى وهي مباينة لما يرِّوجونه من أن السيد المسيح جاء ليشيع بين الناس التسامح والمحبة والإلفة وأنَّه كان يقول: "من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر"(51) أين هذه الدعوى مما ورد في إنجيل متى أنَّه كان يقول: "لا تظنوا أنّي جئتُ لألقي سلاماً على الأرض! ما جئتُ لألقي سلاماً بل سيفاً! فإنّي جئتُ لأفرِّق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنَّة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته"(52).

 

تاسعاً: السيد المسيح (ع) جاء لإشعال نار الإنقسام وليس للسلام؟!

وورد في آية أخرى في إنجيل لوقا أنَّ السيد المسيح كان يقول: "جئتُ لألقي ناراً على الأرض، فماذا أريد لو أضرمت، أتظنون أنّي جئت لألقي سلاماً على الأرض، أقول لكم بل انقساماً"(53)، هذا ويدَّعون أنَّ السيد المسيح (ع) جاء للسلام وإشاعة المحبة والإلفة بين الناس فنحن وإن كنا نسلِّم بذلك نظراً لإيماننا بأنَّ السيد المسيح كالنبي محمد (ص) مبعوث من عند الله جلَّ وعلا فكلٌ منهما قد جاء بالرحمة الإلهية من عند الله تعالى ولهذا لا يسعنا التصديق بأن السيد المسيح كان يقول: "لا تظنون أنّي جئت لألقي سلاماً على الأرض! كلا أقول لكم بل انقساماً، جئت لأضرمها ناراً"وذلك هو ما يؤكد أن هذه الأناجيل منتحلة وليست وحياً من الله على لسان السيد المسيح كما يزعمون.

 

عاشراً: السيد المسيح (ع) يخاف ويجزع من الموت في سبيل الله؟!

ومما ورد في الأناجيل وهو آخر ما سنذكره نظر لقرب انتهاء الوقت: تُصوِّر لنا الأناجيل بأنَّ السيد المسيح لمَّا أراد أن يصلبه اليهود جزع جزعاً شديداً من الموت، وأخذ يصرخ -على حدِّ تعبيرهم- صراخاً عظيماً، وقد عاتب الربَّ، لِمَ أسلمه لهم(54)؟! وقد وردت تعابير كثيرة -في أناجيلهم- مفادها أنه في الليلة التي صُلب فيها المسيح كان قد عاتب ربّه مراراً، وكان قد جزع جزعاً شديداً!

 

وذلك لا يصح قبوله على السيد المسيح فإنَّ أولياء الله لا يخشون الموت بل يشتاقونه خصوصاً إذا كان قتلاً في سبيل الله تعالى وقد تحدى القرآن الكريم اليهود بأنهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنهم أولياء الله فليتمنوا الموت قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ / وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾(55) فهم يصوِّرون السيد المسيح (ع) وكأنه من اليهود يخشى الموت! والأدهى من ذلك زعمهم أنه سخط على ربِّه وعاتبه حيث لم يحميه من بطش اليهود وهو ما ينافي أدنى مراتب الإيمان المقتضي للتسليم بأمر الله وقضائه.

 

كيف يصح القبول على السيد المسيح (ع) أنَّه كان قد جزع من الموت، وكان يصرخ صراخاً عظيماً، وكان يعاتب الربّ على أنّه أسلمه لهم! فأين إذن العشق الإلهي الذي انطوت عليه روح السيد المسيح وأين هو التفاني من أجل إعلاء كلمة الله أليس تزعمون أن قتل السيد المسيح كان تكفيراً لخطايا المؤمنين، فلماذا الجزع إذن ولماذا السخط على الله تعالى ولماذا لم يستبشر بالموت كما استبشر به عليٌّ (ع) حين خضب السيف شيبته وهو في محراب الصلاة فكان ورده "فزتُ وربِّ الكعبة"(56) وكان كثيراً ما يردد "متى يأتي أشقاها فيخضب هذه من هذا(57) وكان يقول: "فو الله لابنُ أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمه"(58).

 

ختاماً:

نحن لا نصدق ما يزعمونه بل نجلُّ ونكبر السيد المسيح ونعرف له مقامه السامي وأنه كان من العاشقين الوالهين الذين لا شيء أحظى عندهم من المصير إلى الله والفوز برضوانه نكتفي بهذا المقدار ولعلنا نكمل الحديث فيما بعد.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة آل عمران / 35- 37.

2- ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ سورة آل عمران / 44.

3- ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا/ فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ سورة مريم / 16-17.

4- سورة آل عمران / 37.

5- سورة آل عمران / 42- 43.

6- سورة مريم / 23- 24.

7- سورة مريم / 25- 26.

8- سورة مريم / 27.

9- سورة مريم / 27- 28.

10- سورة مريم / 29.

11- سورة مريم / 30- 32.

12- سورة مريم / 30- 33.

13- سورة المائدة / 75.

14- سورة الصف / 14.

15- سورة الصف / 14.

16- سورة المائدة / 112.

17- سورة المائدة / 112.

18- سورة المائدة / 112- 113.

19- سورة المائدة / 114.

20- سورة المائدة/ 115.

21- سورة النساء /157.

22- سورة آل عمران / 42.

23- سورة آل عمران / 37.

24- سورة الأنبياء / 91.

25- سورة آل عمران / 45.

26- سورة مريم / 31.

27- سورة آل عمران / 46.

28- سورة آل عمران / 48-49.

29- سورة الشورى / 13.

30- سورة المائدة / 116.

31- سورة المائدة / 116-117.

32- سورة آل عمران / 59-60.

33- سورة مريم / 16-21.

34- سورة مريم / 23.

35- سورة مريم / 26.

36- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل لوقا الاصحاح3/ 96.

37- سورة مريم / 29.

38- سورة مريم / 30.

39- الكافي للكليني ج1/ 382.

40- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل يوحنا الاصحاح2/ 147.

41- نص ما ورد في الإنجيل: ".. وقال له كل إنسان إنما يصنع الخمر الجيدة أولاً ومتى سكروا فحينئذٍ الدون أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن ..". الكتاب المقدس العهد الجديد إنجيل يوحنا الاصحاح 2/ 148.

42- سورة مريم / 32.

43- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل يوحنا الاصحاح2/ 147.

44- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل متى الاصحاح12/ 23.

45- سورة لقمان / 15.

46- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل متى الاصحاح12/ 23.

47- ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾ سورة آل عمران / 42.

48- الكتاب المقدس العهد الجديد الرسالة إلى أهل غلاطية: 307.

49- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل لوقا الاصحاح7/ 105.

50- الكتاب المقدس مجمع الكنائس الشرقية: 308.

51- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل متى الاصحاح4/ 9.

52- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل متى الاصحاح10/ 18.

53- النص: جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت ولي صبغة أصطبغها، وكيف انحصر حتى تكمل، أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم بل انقساما. الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل لوقا الاصحاح12/ 119.

54- الكتاب المقدس العهد الجديد انجيل متى الاصحاح27/ 53، الاصحاح 26/50.

55- سورة الجمعة / 6-7.

56- بحار الأنوار ج41/2، ج42/ 239.

57- علل الشرايع الصدوق ج1/ 173، مناقب الإمام أمير المؤمنين ج2/37.

58- بحار الأنوار ج29/141.